23 ديسمبر، 2024 9:06 ص

إذا أردت أن تعرف سبب تخلف المجتمع ، فأنظر الى الجامعة ، لما لها من دور كبير وخطير في حياة أوموت أي مجتمع ، لأنها المصنع الذي ينتج قادة الغد وبناة المستقبل، وهذا القضية تعد من أولويات الدول الناهضة التي تبحث لها عن مكان تحت الشمس.
أما الدول والمجتمعات التي مرت بمنعطفات كارثية ، فلها مع التعليم شأن آخر، إذ ليس أمامها من سبيل سوى أن تُولي جودة التعليم جلّ إهتمامها ، كألمانيا بعد إنهيارها المريع في الحرب العالمية  الثانية، إذ نجحت بشكل أذهل العالم فوقفت على قدميها بعد سنتين أو ثلاث ، وأقامت أقوى إقتصاد وصناعة في أوربا ، مما جعل البعض يتساءل بعد 2003م (ألا يمكن تطبيق نفس التجربة على العراق ؟) أجاب على ذلك ( روبرت مكنمارا) مدير البنك الدولي السابق (ولكن العراقيون ليسوا ألمانا) إجابة تلخص الفروق الكبيرة في عالم الأفكار ومستوى المعرفة والتعليم لدى البلدين.
قال لي صديقي العائد بماجستير الهندسة من ماليزيا ، وكان مزهوا بالنجاح الذي يستحقه ( إن مشرفي حذرني إذا لم آت بشيء جديد في رسالتي فإنه لن يمنحني درجة النجاح)  قارن هذا الحديث الجاد مع مشهد بائس شهده صديقي الآخر الذي قدم أوراقه للدراسات العليا في الكلية الطبية في إحدى جامعاتنا ، وأشترك في الإمتحان التنافسي ، قال لي متحسرا ( مساكين الأطباء الذين اشتركوا معي في المقابلة لأنهم كانوا بحاجة لمن يساعدهم في إعادة  إكتشاف أنفسهم ، وحين جاء دوري ودخلت على الأساتذة وبدأت المقابلة ، لم أشعر أني أجلس أمام علماء).
تعليمنا الجامعي بحاجة ماسة الى عملية جراحية إدارية  تستند إلى رؤية فلسفية تنتشله من الهوة التي يقبع فيها ، تحرره من إدمانه على أساليب ووسائل الماضي وتفكك علل الجمود والرتابة التي يعاني منها منذ عقود ، وتعالج شلله  المزمن أمام معوقات الحاضر، فوضعنا الجامعي لم يطرأ عليه أي تغيير بإستثاء زيادة الرواتب التي أغاثت شريحة التدريسيين الجامعيين، بعد سني العوز والحاجة ، أما المطبخ الفكري الجامعي فلم تمتد له يد التطوير والإنعاش ، ولايزال طلبتنا في الدراسات العليا يسّودون الصفحات البيضاء متكئين على معارف تغرف من عصور مضت ، ولا تنتسب لعصرنا بسبب.
 لذا لابد من تشخيص دقيق لواقع (الدراسات العليا) وهذا مايستدعي أن نصف عن كثب مايجري في أروقتها هذه الأيام.
ففي الإسبوع الماضي كان الإمتحان التنافسي على أشده بين الطلبة المتقدمين للدراسات العليا في عموم الجامعات العراقية ، وكانت معدلات الإقبال على التقديم كبيرة ، بسبب ندرة فرص العمل وضعف القطاع الخاص وإغراء الراتب الجامعي هي المحفزات الرئيسة للتقديم  ، إذ أن أمنية القبول في الدراسات العليا تتكرر في كل عام ، فيبتدأ الهروع السنوي لكل من هب ودب من ذوي المعدلات المتدنية والأمية المعرفية بل والأخطاء الإملائية يتنافسون مع أصحاب الكفاءات العلمية من أجل الحصول على المقاعد المحدودة.
ولتسليط  الضوء على هذا الموضوع الذي يتعلق بشريحة مهمة من شرائحنا المجتمعية ، وبأثره الخطيرعلى حاضر الوطن ومستقبله ، ومن منطلق رصد الإخفاقات لتجنبها ، نورد فيما يأتي أبرزها ومنها :
 (غياب التخطيط ) في القبول ، ولاسيما طلبة الدراسات الإنسانية المتقدمين للدراسات العليا في ضوء التكدس الحاصل في أعداد التدريسيين الذي تجاوز حد التخمة ، فعدم مراعاة مخرجات الجودة والجدوى في التعامل مع (الكم) دون النظر الى (النوع) الذي يستجيب لحاجة السوق والمجتمع ، وهو مايعد مخالفة صريحة لمفهوم (توأمة المجتمع والجامعة) الذي يجب أن يكون على رأس أهداف أي جامعة ناجحة.
فضلا عن النظرة الضبابية الى الخريجين ، والتعامل العشوائي معهم على أنهم شيء واحد دون النظر الى الفوارق الفردية التي تميزهم ، وغياب الضوابط التي يتم على ضوئها إنتقاء أفضل النوعيات من الطلبة للإرتقاء بصرح الدراسات العليا والبحث العلمي.
النظرة السطحية والتقليل من شأن (الإمتحان التنافسي التحريري الورقي) يكمل أبعاد الكارثة العلمية ، إمتحان لايحفز سوى الذاكرة ، يرافقه غياب  الأسئلة الجادة التي تكتشف العقول المركبة وتفتش عن مهارات التحليل وعمق الإسلوب .
وتختتم المتاهة (بالمقابلة الشكلية) التي تبدأ وتنتهي بأسئلة إجترارية ، ومما يكمل سوداوية المشهد أن مقابلة الطلبة تتم من قبل (أساتذة) أفرزهم  نفس المناخ  الأكاديمي المنخفض في السنين الماضية .
وأخيرا ما أحوجنا الى نهضة أكاديمية ويقظة معرفية من خلال إبتكارآليات لتطوير الدراسات العليا من أجل أن تكون ورش معرفية وآفاق فكرية تعالج كسلنا الفكري وخمولنا الأكاديمي الذي طال ، كما آن الأوان لإعادة تعريف جادة لواقعنا الجامعي والنظر الى طلبة الدراسات العليا كأحد أثمن ثرواتنا الوطنية لعلها تكون الخطوة الأولى للنقاهة من علل الماضي الموروثة وحافز للتعامل الإداري المرن مع المعوقات الراهنة. 
الورش المعرفية هي الحل.
إضاءة : لن يتقدم أي مجتمع إلا إذا أدرك أن أهمية الديمقراطية الحقيقية والجامعة المتميزة والبحث العلمي الجاد لا تقل عن أهمية الكهرباء والمياه والمجاري ( د. معتز بالله عبد الفتاح ، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة وجامعة ميشجان الأمريكية).