يبدو لي كمتابع للأحداث ان الساسة الانظمة في دولنا العربية تحب ان تغير كل شيء من مخلفات الذين قبلهم وحتى وان كان ارثاً وعملا ثقافياً اومهرجان جماهيري غير مسيس ولايتبع اي حزب او جهة اخرى..
ومن هذا المنطلق لم يسمع العراقيون بعد احداث عام 2003 شيء من هذا القبيل مثل مهرجانات الادب والشعر وغيرها فالموصليون لم يشاهدوا او يقيموا مهرجان للربيع الذي كان يحتفلون به كمهرجان قطري يدخل البهجة الى قلوبهم وهم يشاهدون مواكب الربيع تجوب مدينتهم والآلاف من الجموع المشاركة في المهرجان تتجول في شوارع مدينة الموصل بمن فيهم الفنانون والادباء والاعلاميون العرب والعراقيين وتقام الحفلات الغنائية من خلاله وتصدح اصوات الشعراء والادباء ومازلنا نحتفظ بذاكرتنا صور الماضي لهذا المهرجان واغنية (( نرجس نرجس نرجس زور جوانه)) التي سمعها ورددها اغلب العراقيون في حينها فاين انت اليوم يا مهرجان الربيع وليس ببعيد عنك في وسط العراق وفي الفرات الاوسط حيث كان البابليون ينتظرون مهرجانهم الدولي في مدينة بابل عاصمة الحضارة والثقافة مدينة حمورابي ومسلته الشهيرة صاحب القوانين العادلة(( من قطع يدا قطعنا يده والعين بالعين والسن بالسن والمتهم بريء حتى تثبت ادانته ))..
لقد كان مهرجان بابل بجمع كل الطوائف العراقية ليستمتعوا بتراث وحضارة اجدادهم مع الحاضر الجميل والاغاني العراقية ذات الطرب الاصيل تصدح بها حناجر الفنانون ياس خضر ورياض احمد وسعدون جابر ((وياطيور الطايره روحي لهلي))) ذهبت هذه المهرجانات وذهب ايضا معها مهرجانات الشعر مثل مهرجان المربد الذي كان يقيمه البصريون والبغداديون بين العاصمة بغداد والبصرة الفيحاء يشاركهم فيه كل ادباء وشعراء العراق والوطن العربي ومازلنا نحتفظ ببعض تلك القصائد والابيات لشعراء كبار كتبوا للشعر معلقات جديدة وجادت اقلامهم بملاحمهم الشعرية…واتذكر جيدا انني حضرت احد المهرجانات الشعرية وكانت قصيدة مسافرون للشاعر الكبير نزار قباني والتي منعت من النشر في مهرجان المربد الخامس الذي اقيم عام 1985 وانني اعتبرها اروع ما سمعت في حينها لأن فيها جرأة غير اعتياديه يقول فيها:-
مسافرون نحن في سفينة الأحزان
قائدنا مرتزق
وشيخنا قرصان
مواطنون دونما وطن
مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن
مسافرون دون أوراق..
وموتى دونما كفن
نحن بغايا العصر
كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن
نحن جواري القصر
يرسلوننا من حجرة لحجرة
من قبضة لقبضة
من مالك لمالك
ومن وثن إلى وثن
واتذكر عندما التقيته خارج المسرح الوطني صافحته وقلت له من باب الفكاهة انه الوداع الاخير ولكنه شخصية ادبية معروفه ومحبوبه لدى اغلب الرؤساء العرب في حينها فاكتفت الحكومة العراقية بمنع نشرها…
وعودة على المهرجانات وبعيدا عن هموم السياسة اذكر للقارئ الكريم في احد مهرجانات الربيع وفي بداية ثمانينات القرن الماضي كانت هناك امسية او اشبه بالحفلة الغنائية تقام في مدينة الحضر الواقعة في الجنوب الغربي لمدينة الموصل وهي من ضمن فعاليات وفقرات مهرجان الربيع وقد حضرت هناك المطربة الاردنية البدوية سميرة توفيق واغنيتها الشهيرة (( ياعين موليتين ياعين مولية))
وكان الجمهور الذي اغلبه من شيوخ العشائر والشباب في حينها مطربا معها وكأنه حلم وقد تحقق كون هؤلاء المطربين لم نكن نشاهدهم سوى على شاشات التلفاز او نسمعهم من خلال الراديو…
نعم بعد احداث عام 2003 ذهبت مهرجانات الربيع وبابل والمربد وبغداد واتت الينا الديمقراطية التي كنا عطاشى ومتحمسون اليها فأعطاها الله لنا موهبة مجانية نتكلم مثلما نريد وباستطاعتنا ان نكتب الاف القصائد مثل مسافرون دون اي مانع او اعتراض ولاينقصنا اي شيء سوى نعمة النسيان حتى ننسى ونتخلص من تلك الذكريات ونحرر انفسنا من قيود الماضي….. فكل المهرجانات القديمة لا تعادل ديمقراطية الاحرار اليوم وكل اغاني الماضي من ((ياريل صيح بقهر صيحة عشگ ياريل)) اصبحت خزعبلات قديمة لأننا اوقفنا الريل نفسه وقلعنا طريقه وسكته الحديديّة. ولم نعد بحاجة الى حمد وفنجان قهوته
لأننا نعيش اليوم عصر النسكافيه السريعة… وذهبت اصوات دگة الگهوه مع المهرجانات ولم يبقى الا جيل كامل يترحم على الماضي ويعيش في مستقبل مجهول…