19 ديسمبر، 2024 12:15 ص

بكثير من الحزن تلقى الوسط الفني الفرنسي قبل أيام وفاة “غي بودوس” احد عمالقة الكوميديا “وان مان شو ” الذي يجمع على موهبته الفذة الفرنسيون بمختلف مشاربهم وحتى السياسيون الذين غالبا ما كانوا هدفا للذاعته الحلوة وسخريته الممتنعة التي يتلاقفها الصحفيون ليستشهدوا بها بداية البرامج الصباحية كمقدمات للنقاشات حول الاحداث السياسية والاجتماعية في البلاد٬ التي تحظى بجمهور واسع من المستمعين. لمدة أربعين عاما ٬ حافظ الممثل من أصل جزائري على علاقة متينة بينه وبين الجمهور ٬ أجيال واجيال فرنسيون ومهاجرون استقروا ٬لا يتحدثون عن “بدوس” الا ويستذكرون لحظات المتعة والضحك والسخرية والمودة والحنية الاستثنائية التي عاشوها لسماع اسكيتش معين او مشاهدة فلم شارك في تمثيله او مقابلة تلفزيونية او إذاعية او مداخلة في برامج “التوك شو” الكثيرة في مختلف القنوات او لقاء به في تظاهرة ضد العنصرية او الاحتلال. من أم يهودية جزائرية وزوج أم فرنسي بعد وفاة الاب ٬ يقول ” بدوس ” ان امه كانت تعشق الجنرال بيتان رئيس فرنسا في الحرب العالمية الثانية الذي وقع الاستسلام مع هتلر وزوج والده المعادي لليهود هما من صنعا وعيه السياسي مبكرا ليصبح فيما بعد مقاوما ضد الظلم والحرب والعنصرية كأنسان وكممثل وكوميدي حتى انه اعتبر من أبرز الفنانين الفرنسيين اليسارين دون انتماء حزبي المقارعين للخطاب العنصري وللحروب الامبريالية في فرنسا. في عمر السابعة عشر وصل “بدوس” الى باريس لتبدأ رحلة حياته كشاب من جيل الخمسينيات في عاصمة تزخر ايامها بالرموز الثقافية والفنية والمسرحية والغنائية ٬ تعج مقاهيها في أحياء مونبرناس وسان جيرمان بكتاب ومفكرون ورسامون طليعيون مثل جان بول سارتر وكامو وسيمون دو بوفوار وكوكتو واندريه جيد وميرلو بونتي وآندريه مالرو وبيكاسو ورومان غاري ٬ سيمون سينيوريه وايف مونتان ٬ رومي شنايدر والان دلون وجان غابان وجوليت غريكو ٬بياف وبريل وغيرهم لا يعدون ولا يحصون فرنسيون واوربيون٬ امريكان ولاتينيون ٬ يتطلعون الى عالم جديد بعد حرب مدمرة٬ والى أفكار جديدة واشكال تعبيرية وافلام وأنواع فنية وادبية ٬من هذه الحقبة ٬ يقول نيكولا ابن بدوس البكر في رسالة وداعية مؤثرة لوالده : فوق سريرك فوضى من صور من عاصرتهم وعاشرتهم لكامو ودوبورج وجيزيل حليمي وبلموندو ودابادي . تكون بدوس الفنان الذي دخل مدرسة المسرح وتخرج منها من عوالم واجواء هذه الحقبة الغنية الزاخرة التي ما تزال تعتبر من أكثر حقب فرنسا وباريس غنى وتميز وجمال بتياراتها المختلفة على مستوى الثقافة او الفن التشكيلي والسينما والغناء ٬ بدأ “بدوس” التمثيل واخذ يحصل على عقود لأفلام مع مخرجين وممثلين كبار٬ صقلت موهبته تجارب السينما والمسرح ليتجه فيما بعد الى عروض “وان مان شو” الكوميدية التي اتقنها بشكل متميز حتى النهاية. في عروض الكوميديا هذه ٬ أعطى “غي بدوس” اجمل ما فيه من رقة وحنان ومحبة وتسامح وأيضا سخرية وتهكم ليحبه الناس ويحبه من حوله من عائلته وأصدقائه ممثلين ومخرجين وتقنيين لتكون كل هذه الخصال بصماته المتميزة على زمانه وعلى جمهوره والمعجبين به.
يشار الى بدوس بأنه كان سببا قويا لفوز فرانسوا ميتران في الانتخابات الرئاسية عام 1981 بفضل الدعاية السياسية للفنان الكوميدي لليسار ولقيمه ومعارضته الشديدة لرموز اليمين انئذاك وخاصة الرئيس جيسكار ديستان وللكتلة الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة واوربا الغربية ٬ فقد شارك بقوة في الدعاية للرئيس ميتران هو ونخبة محسوبة على اليسار الفرنسي الذي كان له ثقل كبير في الثمانينات عقب الحركة الطلابية في 1968 ٬ لكن بدوس سرعان ما ندم على ذلك مثله مثل ملايين الفرنسيين الذين صدموا بحكومة اليسار ونهجها الذي كان يمينيا اكثر من اليمين .
ورغم الإحباط الذي عاشه غي بدوس وغيره من النخب بسبب حكم الحزب الاشتراكي الا انه بقي مقاوما وفيا للقيم الإنسانية وقيم التسامح والانفتاح على الاخر وهو ما دفع رابطة حقوق الانسان في فرنسا للطلب منه ليكون احد أعضائها الفاعلين وبقي كذلك حتى النهاية. ليس ذلك فحسب بل ان “بدوس” أصبح اكثر سخرية وعنفا في تهكمه على الساسة وعلى الإعلاميين والخطاب العنصري واعلام الحرب الذي بدأ مع الانتفاضة الفلسطينية وبعدها الغزو غير الشرعي للعراق ونتائجه الكارثية على المجتمعات الاوربية ومنها الفرنسي وتسخير اعلام هذه الدول بشكل كامل لخطاب الكراهية والتحريض ضد العرب والمسلمين بشكل يومي ; اتخذ بدوس موقفا ضد الاحتلال الصهيوني وماكنته العسكرية ودعايته في فرنسا ٬وكان له حضور في التظاهرات والمناسبات التي تنظمها الجمعيات الفلسطينية والعربية في كل مرة يدعى فيها. ونظم بداية غزو العراق مع المخرج جورج موران والممثل إسماعيل والممثل “بوجنه” عرضا ضد الحرب بينما عمل سينمائيون عراقيون وصهاينة حملة لدعم الرئيس الأمريكي بوش وساندوا ما يسمى “بعملية تحرير العراق” . في برامج “التوك شو” ذات الشهرة الواسعة ٬ كانت القضية الفلسطينية وغزو العراق يترددان لان غالبية النخب الفرنسية وقفت ضدها اضافة الى موقف الرئيس الراحل جاك شراك الذي رفض مشاركة فرنسا في الغزو ما عدا نخب اللوبي الصهيوني المحرضة على الدوام ٬ كان “بدوس ٬ وفي كل مرة يكون مع شخصية تدافع عن الكيان الصهيوني او عن بوش وغزو العراق يتكلم بكل ما يحمل من قيم وقوة تعبير فذة لتصغير المتكلم وتحويله الى اقل من لا شيء امام ملايين المشاهدين وسط جمهور يقف للتصفيق له احتراما لمواقفه ومقاومته هذا التيار في الساحة الباريسية ٬ نتذكر هنا تهكمه على قامة الرئيس نيكولا سركوزي الذي بدأ حملته الانتخابية للرئاسة بوصف الشباب العربي في الضواحي بالحثالة ونتذكر مسحه الكامل ببضعة جمل وامام ملايين المشاهدين لإعلامين مثل “ايريك زيمور” العنصري الصهيوني المسموح له بالتهجم علي العرب والمسلمين والتحريض عليهم دون خوف من حظر او طرد من جهاز اعلامي رغم كل الشكاوى ضده . في احدي المقابلات قال “غي بدوس” كنت وانا شاب متحمسا لقيام جدي بمساعي لمنح يهود الجزائر الجنسية الفرنسية لكنني عندما اسمع كلام ايريك زيمور أندم على ما فعلته ” ٬ لان ايريك زيمور هو أيضا من يهود الجزائر المهاجرين وعنصريته ضد العرب اشرس وتتجاوز ببعيد عنصرية اليمين المتطرف الفرنسي.
الى مراسم القداس الذي أقيم له في كنيسة سان جرمان حسب طلبه وسط العاصمة باريس٬ حضر جمع كبير من العرب والمسلمين لتوديعه ٬ وتلبية رغبته التي صرح بها قبل سنوات ٬ حيث قال انه يريد ان يحضر الناس تشيعه وان يقوم الجميع بالغناء في ادخال نعشه وفي إخراجه وتوديعه بأجمل الأغاني التي يحبها منها لاصدقاء له مثل المغنية الكبيرة الراحلة بربارا والتي صدحت اغنيتها في الكنيسة ٬ لترتفع بعدها الهلاهل العربية مغاربية ومشرقيه من الارجاء الأربعة للمكان مع رفرفة الحطة الفلسطينية ودموع المودعين بعد خروج الجثمان. على باقة الورد التي وضعت على نعشه كتبت شهادة لناشط عربي عنه:” كنت تقول لنا هذا رقم تلفوني اتصلوا بي متى رغبتم ٬ كنت دائما معنا ٬ واحد من الفلسطينيين ٬ واحد من العراقيين٬ واحدا من عرب فرنسا الذين أتوا مثلك من أراضي المتوسط. نحمل لك عطور تلك الأرض التي قلت عنها انها جنة الطفولة ٬ عطور الياسمين وزهر البرتقال والجوري والنعناع لنعطر بها ذكراك ٬تحملها معك الى المكان الذي ستذهب اليه ٬ نودعك لأرض المتوسط التي اخترت ان تنام أخيرا فيها”.