4 نوفمبر، 2024 9:25 م
Search
Close this search box.

وداعا صديقي صاحب الحنجرة الذهبية !

وداعا صديقي صاحب الحنجرة الذهبية !

لطالما شدت إنتباهي اﻷفلام السينمائية التي تحمل أسماء طيور أو تلك التي تستلهم من عالم الطيران عنوانا ومضمونا رمزيا لها ، ربما لإرتباط الطير بالسماء ، بالقفص الذي يرمز الى الوطن والذي يحميه من المفترسات خارجه تارة ، ويقتله داخله تارات ، باﻷنشاد للحياة بالتغني في الحرية ، وﻻ شك أن فيلم ” العصفور” الذي يحمل الرقم 45 في قائمة أفضل 100 فيلم فى السينما العربية ، والذي ناقش مقدمات هزيمة حزيران 1967 يتصدر قائمتها لتناوله فساد القطاع العام وجرائم قطاع الطرق وتباين آراء النخبة المثقفة ممن يجمعها الفقر والعوز والفاقة فيما تشتت وحدتها المبادئ والايدولوجيات والقيم المتناقضة التي تعشعش في رؤوس أصحابها وتعمل على فرقتهم وضعفهم بدلا من وحدتهم في مقارعة الظلم المتسيد للمكان ، الحاكم والمتحكم بأهل أي زمان ، إضافة الى إختلاف زوايا النظر الى مجمل اﻷحداث وأسبابها الموضوعية آنذاك ، يليه فيلم” دعاء الكروان ” المستلهم من قصة لطه حسين ، تحمل العنوان ذاته ، يعقبه فيلم ” أحدهم طار فوق عش الوقواق ” الحاصل على جوائز الاوسكار الخمس و الذي أبدع فيه النجم جاك نيكلسون إيما ابداع ، وفيلم” الفراشة ” المستلهم من قصة حقيقية للهروب من سجن منيع للنجمين داستن هوفمان ، وستيف ماكوين ، ولايفوتني فيلم ” الطيور ” لهتشكوك وهو اشهر فيلم رعب في تأريخ السينما وغيرها الكثير ، وبمجملها تناقش قضية الحرية والفرار من الخوف والتهميش والاقصاء واﻷسر – والقفص – الذي يكون بالعادة ذهبيا من الخارج وسوداويا من الداخل برغم الغناء الجميل المنبعث من بين قضبانه لبث اﻷمل الى بقية المأسورين ولتنبيه اﻵسرين بأن لا حزن يدوم وﻻ رخاء ، وما طار طير وارتفع اﻻ وكما طار وقع ولكن هيهات أن بتعظوا بسواهم ، قبل ان يتعظوا بانفسهم ولات حين مندم !
صديقي اﻷخير ليس كبقية الاصدقاء ، كما إنه ليس كبقية المطربين فصوته هو اﻷجمل ، هو اﻷرخم ، هو اﻷعذب ، هو الأرق من بين جميع الاصوات التي سمعتها طوال حياتي من دون مبالغة ، كان يختار اللحظة التي يغني ويشجو فيها من دون سابق إنذار ، وعبثا حاولت أن أحثه على الغناء في أوقات لم يكن مزاجه رائقا فيها ، وربما لم يكن مستعدا للغناء خلالها ، لقد أثبت لي مرارا وتكرارا بأنه مغن حر وليس تحت الطلب يختار بنفسه اللحظة التي يتألق فيها من دون ان تفرض عليه ..كنت أجلس الى جواره وانا اكتب مقالا ، تقريرا ، خبرا ، بوستا وكان يرمقني بين الفينة واﻷخرى بنظرات حائرة متسائلة – ما دكلي هذا المخلوق شيكتب ، والمن يكتب ؟ ..عمي راحوا اليقرون وظلوا ” الـيـ …” ، كانت تساؤلاته تصل اليّ عبر اﻷثير وان لم يفصح عنها بلسانه ، تعرض صديقي الى خمس محاولات إغتيال – قططية – خلال حياته القصيرة ربما لجمال صوته الذي يشدو به صباح مساء ، ربما لوسامته التي يشهد لها القاصي والداني ، ربما ﻷناقته المفرطة ، ربما لجلوسه الطويل قرب النافذة وهو يرقب حركة المارة ، بنات الجيران ، اطفال المحلة ، ابو الغاز .. ابو النفط ..ابو الزبل، لم يكن لي القدرة على الحؤول بينه وبين فضوله وﻻ بينه وبين غنائه ، انه صديق مختال بنفسه ، واثق من صوته ، معجب بجماله ، معتد بهيبته …وهكذا عشنا سوية يأنس بكتاباتي وإن كان غير مقتنع بها ..وآنس بصوته وان كان غير آبه بي 3 سنين متتالية أحب خلالها أحدنا اﻵخر ربما ﻷنه أفضل بكثير من اقراني وربما ﻷنني بالنسبة اليه أفضل بكثير من أقرانه !
بالامس توفي صديقي ..فارق الحياة من غير مقدمات .. من غير وداع ، من دون وصية ، دفنته بيدي .. صمت الدار ، سكنت الاجواء وﻻعزاء ..وﻻ غناء .. عدت ادراجي ﻷكتب قرب مكانه الذي ظل على حاله خاليا قرب النافذة …!
وأول ما كتبت ” وداعا صديقي طائر الكناري ..صاحب أجمل صوت وحنجرة ذهبية ..لقد عشت طوال حياتك أسيرا في قفص صغير ، تماما كما نعيش نحن عبيدا داخل القفص الاكبر مع الفارق بأنك لما تزل تغني للحياة والحرية .. فيما نحن وإن غنينا للحياة ..فلطمية “.
وهناك فقرة آثرت أن لا اذكرها اﻻ انها ألحت علي كثيرا اﻻ وهي ” ان والدتي رحمها الله كانت تأنس بصوته العذب كثيرا وصوته يتضمن 25 نغمة ، كل واحدة منها أجمل من الثانية ، وبعد وفاتها رحمها الله واسكنها فسيح جناته وجميع امهات المسلمين ، بقيت استمع الى صوته الرقيق فأذكرها واستذكرها كلما اطلق صديقي العنان لحنجرته الصادحة بالجمال ..ولكن اليوم غاب الاثنان ورحلا معا وﻻ عزاء ..فهل سأعثر على من يغني للحياة والحرية كصاحبي الفقيد في بلاد لم تذق طعمهما يوما برغم كل ما يشاع زورا للدعاية والاعلان فحسب عن شروق شمس الديمقراطية وهبوب نسائم الحرية ولعلهم يقصدون بذلك من دون إكمال العبارة : ” في المنام واضغاث الاحلام فقط ﻻغير ” ! اودعناكم اغاتي

أحدث المقالات