23 ديسمبر، 2024 8:06 ص

الشهيد وداعا

ليس في هذه الكلمات رثاء , أو ذكر لمحاسن راحل , غادر الحياة مظلوما , ولا أرشيف لسيرة رجل محترم , يستحق أن يكتب عنه كلمات ومقالات , بقدر ما هي أسى وحزن على انسان لم يعرف عنه سوء أو ايذاء لاحد .. انه الاستاذ الراحل محمد مصبح الوائلي , محافظ البصرة السابق , والبادىء بعمرانها وازدهارها ,الذي دخل الى محافظته بهدوء ووقار في زمن صاخب , وخرج منها وسلمها بطريقة أهدأ وأوقر في زمن عاصف . دخل الى محافظة مهدمة في بناية رثة هزيلة , وخرج من محافظة شامخة جميلة حديثة , لم يهنأ بالجلوس خلف طاولتها الوسيعة وكرسيها الانيق الا أياما , وكأنه أعدهما وهيأهما لزميله الذي سيأتي بعده ويحل في مكانه بدلا عنه . وجد مدينته الوادعة على شط العرب , القديمة بأحوازها وجداولها وأنهارها الصغيرة , وقد حفت بجانبيها الاشجار والنخيل على مر التأريخ , وجدها خاوية يابسة جافة , تعصف بها الرياح , وتغلف خضارها ذرات الرمل البنية القادمة من الصحراء , لتكسوه لونا آخر غير لونها الحقيقي , فعمد الى تشجيرها وزراعتها بالكاربتس , وشتل فسائل النخيل في أواسط شوارعها الحزينة الكئيبة , بعد أن رصفها , عسى أن تعيد البهجة والسرور الى أهلها وسكانها . أراد أن ينجز شيئا للبصرة , كي يذكره الناس والتاريخ بخير , ويشيروا باصابعهم الى معلم شاخص في محافظتهم , ويقولوا : هذا ما تركه نجل وائل خلفه . فأحرج الحكومة .. نعم أحرج الحكومة حين جعلها تخصص أموالا لبناء المدينة الرياضية , الاولى من نوعها في العراق عند أطراف البصرة , ساعيا الى دول الخليج كي تكون الدورة القادمة فيها . وقد حقق المطلب , واذا كانت السياسة الخليجية قد حالت دون أن تطأ أقدام الرياضيين العرب ملاعب مدينة الوائلي الرياضية , فان السياسة العراقية ستكمل مشروعه باذن الله وان غاب عنا . حين غادر مسؤولياته الوظيفية كمحافظ , بدا وكأنه غادر أيضا مسؤولياته السياسية الحزبية كأحد رجال الفضيلة اليوم , ونتاج لتربية السيد الشهيد الصدر الثاني رضوان الله تعالى عليه .حين غادر المواقع والمسؤوليات غادر معها ما كانت تضفيه عليه من حماية وعناية , وصار يمشي ويتنقل ويسافر لوحده من دون سائق أو مرافق . لا يهم حجم التنبيهات والتحذيرات التي قدمت اليه من خطأ هذا السلوك . لا يهم .. ليس بسبب الوقوع في المحذور في نهاية المطاف , انما لثقة الرجل بنفسه وايمانه في قلبه , بأنه لم يفعل ما يستوجب أو يبرر للاخرين اغتياله .. ولعله كان على صواب فيما اعتقد , بيد أن الذي كان على خطأ هو من سولت له نفسه الاقدام على تلك الجريمة المشينة . يخطىء من يعتقد بأن القضاء على ابن وائل يعني القضاء على نهج , أو سياسة اختطها لنفسه وشاركه فيها آخرون . فستكون نتيجة هذه الفعلة الدنيئة نهاية من تطلخت يداه بدم هذا المظلوم أنكى وأشنع , فضلا عن ما ستلحق به من لعنات وعار في الدنيا  قبل الاخرة . كما ان العراق سيقدم ألفا من أمثال محمد مصبح الوائلي , وآلافا ممن هم ليسوا على شاكلته , ولكنهم بكل تأكيد أفظع وأشد على قاتليه منه . كنت على موعد معه لألتقيه كي نتحدث بهموم العراق ومستقبله كما اعتدنا , وذلك على أنغام ايقاع قرقرات الشيشة في حدائق مناوي باشا .. لكنه رحل قبلي . ومن يدري فلربما أكون أنا الآخر الأسرع لحوقا به في العالم الآخر , أو انه سيتركني لوحدي أقلب جمرات شيشتي من دون أن ينادي على نادل بصوت رقيق باسم .. لله أبوك يابن وائل , لقد تركتني وحيدا في فيحائك ! ماذا أقول لك في فجيعتي غير : وداعا أبو عباس

[email protected]