22 ديسمبر، 2024 7:01 م

وحي السماء أم عقل وضمير الإنسان 7/20

وحي السماء أم عقل وضمير الإنسان 7/20

5. العدل الإلهي
هذه نقطة في غاية الأهمية وفي غاية الحساسية. لأن الإله غير العادل بالضرورة العقلية ليس بإله. فالإيمان بالله يستتبع الإيمان بكل صفات الكمال المطلق، ومنها العدل والحكمة والعلم والقدرة. فأي مقولة دينية، ذات علاقة بشؤون دنيوية أو أخروية، لا تكون منسجمة مع ضرورة العدل الإلهي، تكون مبررا لرفض مصدر تلك المقولة كوحي إلهي. وبعكسه كلما كان انسجام مقولات كتاب (مقدس) ما مع ضرورات العدل الإلهي أشد وأوضح، كلما كان ذلك حجة بصدق ذلك الكتاب، أو على أقل بإمكان صدقه، فيكون تمام التصديق بمستوى اليقين، أو مستوى الظن المتاخم لليقين، أو بمستوى الظن الراجح، بعد فحص بقية الأدلة. بل حتى الرحمة الإلهية أراها بعكس – ما يذهب إليه معظم علماء الكلام – واجبا عقليا، إذ هي من لوازم العدل، وهذا لا يتعارض مع قول إن الرحمة أوسع من العدل، ولو إني خطّأت هذه المقولة في وقت لاحق يجده القارئ في أحد بحوث هذا الكتاب. ولكني عندما أقول إنها من لوازم العدل، لا أقع في التناقض، لأن الإنسان مخلوق من الله، وقد خلقه الله من ضعف، كما في صريح القرآن، وكما يحدثنا واقع الإنسان بوضوح، ولذا فضعف الإنسان الذي يمثل إرادة خالقه لا يُجبَر بالعدل بمعناه الحرفي الدقيق وحده، بل يُجبَر هذا الضعف بالرحمة التي هي من حيث المبدأ صحيح، قد تكون من زاوية فهم ما، أوسع من العدل، لاسيما في عالم الإنسان، ولكنها واجبة على ضوء ما بينت. والذي يجعل الرحمة واجبة، إضافة على أن إرادة الله شاءت أن يخلق الإنسان من ضعف، هو أن الإنسان لم يُسأل عندما خلق، بل خُلِق بغير إرادته. ولكن الفرق بين العدل والرحمة، هو أن العدل قطعي ومطلق، بينما الرحمة ظنية ونسبية، حسب فهمي وقت كتابة المقالة والذي صححته لاحقا. وأقصد بالظنية لا أن حقيقة كون الله رحيما أمر ظني، ورحمته محدودة، تعالى عن ذلك، بل هو يقينيٌّ بهذا المعنى، ولكن تشخيص مدى استحقاق كل إنسان لرحمة الله هو الأمر النسبي، وبالتالي الظني، بعكس ما هو الأمر مع العدل، فهو واضح الملامح، ويكاد يكون قطعيا كالمعادلة الرياضية. هنا ترد أسئلة ما إذا كان من العدل – ناهيك عن أن يكون من الرحمة – أن يُدخَل إنسان ما في العذاب، لمجرد أنه لم يقتنع بضرورة من ضرورات الإيمان، وبالتالي كفر بها، كما توحي العديد من الآيات بدخول الكافر في نار جهنم لمجرد كفره. وهذا يوحي بأن الأشخاص الذين لم يرتكبوا جريمة أو ظلما يستحقون عليه العقاب، سيدخلون في النار لمجرد أنهم لسبب أو آخر لم يتوصلوا إلى القناعة بدين ما، أو لعله مذهب ما، أو بضرورة من ضرورات الدين أو المذهب. لست وحدي، بل العديد من علماء الكلام يذهبون إلى عدم كفاية كفر الإنسان لدخوله النار، وهذا ما يذهب إليه على سبيل المثال المفكر مرتضى مطهري. لكن كيف ينسجم هذا مع آيات القرآن التي تتوعد الكافرين بالنار، وبتخليدهم فيها، لمجرد كفرهم؟ في الواقع تنقسم هذه الآيات إلى نوعين؛ نوع يتوعد هؤلاء بالنار، ليس بسبب عقيدتهم وحدها، بل بسبب أعمالهم، كالظلم وارتكاب الإجرام والإفساد في الأرض، كممارسة الاضطهاد والقمع بكل ألوانه ومستوياته ضد الذين يدينون بغير دينهم، ومع هذا تبدو شدة العقوبة ومداها اللامنتهي غير متناسب مع حجم الظلم والإفساد المتحقق أو المدعى. أما الآيات التي لا تذكر مبررا للعذاب غير الإيمان بغير ما مطلوب منهم أن يؤمنوا به، فلا بد أن تُؤوَّل إلى ما ينسجم مع ضرورات العقل، والتي منها العدل الإلهي الواجب عقلا، هذا إذا ما سلمنا بأدلة مقنعة بإلهية القرآن، لكنه سيكون تأويلا قسريا. من هنا يجب دراسة الآيات بهذا الخصوص، ولي رأي تفصيلي في هذا الموضوع الشائك، أسأل الله أن أوفق يوما لتقديم دراسة مستفيضة ووافية أكثر عنه. وإلا فإني متيقن من عدل الله، الذي لا يكون الله من غيره هو الله – تعالى عن ذلك -، ومطمئن من رحمته التي هي أوسع من كل تصورات البشر.