18 ديسمبر، 2024 8:37 م

وحي السماء أم عقل وضمير الإنسان 5/20

وحي السماء أم عقل وضمير الإنسان 5/20

2. الحقائق العلمية الثابتة
وهنا لا بد من التمييز في المقولات الدينية بين ما يقع في دائرة ما يسمى بالمعجزات الإلهية، أي الظواهر الخارقة للعادة، والتي يعجز العلم عن تفسيرها، بل قد يرفضها، وهو محق في رفضها، وبين الكلام عما يعتبر حقائق كونية، على سبيل المثال عن الشمس والقمر والأرض وحركة كل منها. فكل ميدان يجري التعامل معه على نحو مختلف عن الآخر. فإذا ورد في أي كتاب مقدس – بنظر المؤمنين به – وأي وحي مدَّعى ذكرٌ لقضايا كونية، أثبت العلم بالقطع واليقين الذي لا يقبل الشك عدم صدقها، والتي أي تلك النصوص الدينية مما لا يمكن تأويله إلى غير التعارض المؤكد مع تلك الحقائق العلمية، فهذا دليل كاف على عدم صدق نسبة ذلك الكتاب المتوهمة قدسيته إلى الوحي الإلهي، بحكم الضرورة العقلية بعدم جواز صدور الخطأ أو الكذب عن الله، إذا سلمنا بوجوده بأدلة قانون العلية، واستحالة التسلسل اللانهائي للعلل، ودليل واجب الوجود الذي يمثل العلة الأولى غير المعلولة بعلة. ولم يضع هذا البحث من مهامه إثبات وجوده تعالى، وإنما هي مجرد إشارة، أما إقامة الحجة على ذلك فمحل بحثه في وقت ومكان آخر. أما بالنسبة لما يسمى بالمعجزات أو الآيات حسب المصطلح القرآني، فمقدمة القبول بالمعجزة – إمكانا بقطع النظر عن الحدوث الفعلي – هو أصل الإيمان بالله، والذي يتفرع عنه الإيمان بصفات الكمال والجلال له سبحانه، ومنها القدرة المطلقة التي لا يحدها حد. من هنا يكون رفض المعجزة مطلوبا، إذا كانت المعجزة من الممتنعات العقلية. ولكن كون المعجزة كعدم الاحتراق بالنار، والولادة من غير أب، ليست من الممتنعات العقلية بالمعنى الفلسفي، بل إنها – كما تبدو – من الممتنعات العلمية، حسب قوانين علم الطبيعة، لذا علينا أن نتوقف قليلا قبل حسم القطع في رفضها، وبالتالي اعتبارها مبررا لرفض الدين الذي ورد ذكرها في كتابه (المقدس). فهناك تفسيران للمعجزة أو الظاهرة الخارقة للعادة. الأول كون الطبيعة وقوانين الطبيعة مخلوقة من الله سبحانه، فإنه غير خاضع لتلك القوانين، بل بمقدوره تعطيل أي منها، إذا كان في تعطيلها مصلحة أو حكمة. ولكن هناك تفسير آخر، مفاده، أن الله لا يعطل قانونا طبيعيا عندما يظهر المعجزة، بل يخضع الظاهرة (المعجزة) لقانون طبيعي آخر، لم يكتشفه الإنسان في وقت ظهور المعجزة. فولادة إنسان – عيسى مثالا – من أم دون أب على سبيل المثال كان يبدو محالا، حتى أثبت علم الجينات والاستنساخ إمكان ذلك من الناحية النظرية. وهكذا فإن عدم احتراق إبراهيم في النار خاضع على ضوء هذه النظرية لقانون يَحول دون احتراق الجسم القابل عادة للاحتراق. في كل الأحوال الامتناع العلمي حسب رأيي آنذاك ليس مبررا لرفض مقولة ليس فيها امتناع فلسفي. ولكن تبقى هذه القضية معلقة حتى يفحص المرء بقية أدلة الإثبات وأدلة النفي، لوجود وحي إلهي ودين منزل منه سبحانه. فإذا تضافرت أدلة الإثبات لا يجوز التوقف عند هذه المفردة، أما إذا تضافرت أدلة النفي، فتضاف هذه النقطة الشائكة إلى بقية أدلة النفي، أو تكون مُعضِّدة لها، إلا إنها لا تقوى بمفردها في إثبات النفي. أما بالنسبة للنوع الأول من التعارض مع الضرورات العلمية، فإن القرآن بحسب تصوري آنذاك، لا يشتمل على آية أو جزء آية يتعارض مضمونها مع الحقائق العلمية المكتشفة بشكل واضح وغير ممكن التأويل، ولكن هناك ما يكفي وأكثر من شبهات التعارض. أما بالنسبة للذين بالغوا في تأويل آيات إلى ما ينسجم مع مكتشفات علمية بشكل مُتكلَّف ومبالَغ به جدا، إذ راح هؤلاء يؤلفون الكتب عن الإعجاز العلمي أو الإعجاز العددي ناهيك عن الإعجاز البلاغي في القرآن لحد الإسفاف، فلا يمكن القبول بمنهجهم حتى من العقلاء والمعتدلين من نفس المؤمنين بالدين. ولكن بعيدا عن هذا المنهج المرفوض، نستطيع أن ندعي أن القرآن يشتمل فعلا على عدد من الحقائق العلمية السابقة لزمن اكتشافها، يمكن أن تكون اقتبست من نصوص سابقة للقرآن تشتمل على تلك المعاني، وحالات يمكن أن تعد من الإعجاز العددي، كورود كلمة يوم 365 مرة، إلا أن قيمة هاذين الإعجازين العلمي والعددي، حتى لو أقررنا بهما، قد ضاعا في صخب توسيع ما يُدَّعى أن فيه إعجازا علميا أو عدديا، والتكلف في لَيّ الآيات لَيّا إلى حيث يريد المدعي، فأساء هؤلاء إلى قيمة الإعجاز الفعلي، إذا ما افترضنا وجوده فعلا، بادعاء إعجازات مفتعَلة ومُدَّعاة وغير مقنِعة، بل بعضها مَدعاة للسخرية، التي أساء أصحابها إلى القرآن أكثر مما خدموه.