23 ديسمبر، 2024 1:30 ص

العراق: سلمتك بيد الله!!

العراق: سلمتك بيد الله!!

يذكرني حال العراق بعد عام 2003، بتقاطع للطرق (دوار) يقع في وسط مدينة اربيل بالعراق، وهو عبارة عن مفترق لعدة شوارع مزدحمة ليل نهار، مكتضة بالسيارات والمركبات المسرعة من كل حدب وصوب. السائقون يقودون عجلاتهم على هواهم و”شطارتهم”. وقعت في الدوار، الذي يخلو من اشارات المرور ورجال الشرطة، العديد من الحوادث المرورية ازهقت فيها الارواح. لهذا اطلق الناس عليه تسمية بالكردية ( به تاماى خوا) بالعربية (التوكل على الله)، يعني ان سائقي المركبات يرون ان وقوع اي حادث في هذا الدوار الخطير متروك لأمر لله ويسلمون مصيرهم بيده. على إيقاع اغنية (سلمتك بيد الله).
لقد ادت الظروف غير المستتبة والتدخلات الخارجية السافرة في الشأن العراقي وفشل احزاب الاسلام السياسي الموالية لاطراف ايرانية، والتي استحوذت على المشهد السياسي في العراق خلال ال 15 عاما الماضية، الى تهديم مؤسسات الدولة واستغلال موارد البلد لمنافعها الشخصية والحزبية، دون تقديم الحد الادنى من الخدمات او ايجاد سبل عيش كريمة للمواطن. كما وافرزت المحاصصة الطائفية والفساد وجيشا من الفضائيين وبنية تحية منخورة ووضع معيشي وخدمي بائس. وتم نهب وتبذير الثروات، وازدادت الفجوة بين مكونات الشعب لاسباب مذهبية ودينية، وتعرض اتباع الديانات والمذاهب الى حملة شعواء وتهديدات واختطافات وقتل على الهوية وتفجير اماكن العبادة والمراقد المقدسة وتغييرات ديموغرافية.
وادى الوضع الامني المتدهور واجتياح داعش لمدن وبلدات عراقية، الى سقوط اكثر من 450 الف شخص وجرح وتعوق اكثرمن 650 الف وقتل نحو 500 صحفي، واثر سلبا على مجالات الحياة المتعددة، حيث نخر الفساد جسد الدولة وتدنى مستوى المعيشة وازدادت البطالة وتدهورالمستوى الاقتصادي والخدمي والاجتماعي والمعيشي والثقافي والتعليمي، وانتج ما يقرب من 6 ملايين مواطن أمي، ووصل مستوى العيش تحت خط الفقر الى 35%.
ولم تشفع عودة القطاع النفطي الى اسواق العالم وتخفيف شروط الحظر الدولي بعد عام 2003 وارتفاع اسعار النفط، التي وفرت لموازنات الدولة موارد كبيرة، في اي تحسن في حياة الشعب العراقي. ولم يستفاد من الفرصة المؤاتية، لا بل اسيئ استخدامها سواء بفساد التعاقدات او في زيادة اعداد الموظفين (غالبيتهم من الفضائيين) في الحكومتين الاتحادية واقليم كردستان، والتي تقدر حاليا بنحو 3 ملايين شخص. ونتيجة للسياسات الخاطئة تفاقمت مشاكل البطالة المقنعة التي نجم عنها هدرا كبيرا بالاموال.
وبحسب منظمة الامم المتحدة، فقد تناقصت انتاجية العمل لدى موظفي دوائر الدولة البالغ عددهم الكلي 2894000 لعام 2018 الى 17 دقيقة في اليوم. حيث ان البطالة المقنعة في عموم العراق تتجاوز ال 66%. كما بقي القطاع الخاص هامشي والاقتصاد العراقي سوقا استهلاكية، وحصلت تشوهات في ميزان التجارة، وتم تسريب رؤوس الاموال العراقية الى الخارج، وهجرة اصحاب الكفاءات نتيجة الحروب والقلق من الاحترابات الداخلية واعمال العنف الطائفي، التي تصاعدت منذ شباط 2006 والاوضاع الاقتصادية المتردية. بالمقابل توسعت ثروات شريحة فاسدة استغلت مواقعها بالدولة، فصعدت طبقة جديدة من اصحاب المليارات، استثمر البعض منها امواله في تأسيس قنوات فضائية وشبكات اعلامية حاولت السيطرة على الرأي العام وتأجيج اجواء السلم الاجتماعي، مستفيدة من هامش حرية الصحافة والاعلام والتعبيرعن الرأي المتاح في العراق بعد عام 2003.
وظل المواطن العراقي، بعد الانتخابات البرلمانية في العراق في 12 آيار 2018 بنسبة مشاركة 44% وما رافقها من اتهامات بالتزوير وشراء الاصوات وشكاوى للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات بسوء الاداء، يترقب حكومة تلبي طموحاته وتحقق مطاليبه المشروعة، واستبشر بتكليف عادل عبد المهدي، مرشح التسوية، لاجتياز حقل الالغام السياسية وتشكيل نموذج حكومة، مختلف هذه المرة.
بيد ان عبد المهدي الذي كلف يوم 24 اكتوبر الماضي بتشكيل الحكومة، لم يتمكن من تمرير اكثر من 14 وزيرا من مجموع 22، تحوم حول عدد منهم شبهات في قضايا فساد وارهاب. وعاد عبد المهدي مجبرا في استلام وزارة الداخلية بالوكالة، بعد ان كان قد وعد بالغاء نظام الوكالات. وتوزعت التشكيلة الوزارية، التي قدمها الى البرلمان: الشيعة 12 وزارة والسنة 6 وزارات والكرد 3 وزارات ووزارة للمسيحيين. ولم يتم اختيار ايا من 15 الف مرشح عبر النافذة الالكترونية.
وازدادت شكوك العراقيين في قدرة رئيس الوزراء الجديد في اختيار حكومة قوية بعد ان رضخ لضغوطات الاحزاب والكتل السياسية. واحبطت آمال العراقيين وتطلعاتهم. لهذا اصدر المرجع الديني محمد اليعقوبي في 30 تشرين الاول الفائت بيانا جاء فيه: “لقد كان للشعب بصيص أمل في الحكومة الجديدة بان تكون حكومة وطنية توفر له الامن والخدمات والاقتصاد المزدهر، لكنه اليوم بعد اعلان هويات اعضائها فقد هذا الامل حيث ضمن الحكومة بعض من اتهموا بالارهاب والفساد وتزوير الشهادات والعضوية في قيادة البعث المنحل والانتماء الى الجنسية الاجنبية، فكيف نتوقع تحقق تلك الاهداف من امثالهم”.
ان حال العراق لا يختلف كثيرا عن وضع الدوار المضطرب في اربيل. وخير مثال على ذلك، جاء من خلال تصنيف موقع (باسبورت إيندكس) موقع الجواز العراقي في المرتبة قبل الاخيرة دوليا بعد ان رفضته 164 دولة في الدخول الى اراضيها بدون تأشيرة سفر مسبقة.
ترى هل سيلوح عبد المهدي باستقالته ويعتذرعن التقصير، بعد ان اصطدمت جهوده بجدار كونكريتي سميك؟ فقد استقال من وزارة النفط (2014- 2016)، واستقال من منصبه نائبا لرئيس الجمهورية جلال طالباني. وهل سيراجع مقالته التي كتبها قبل بضعة اشهر من تكليفه. جاء في خاتمتها: “من معرفتي بمباني وعلاقات القوى الفاعلة، ورغم وجود الكثير من المخلصين والواعين فيها وفي خارجها، ارى- واتحمل مسؤولية الاجتهاد- صعوبة قيام كتلة الاغلبية البرلمانية الوطنية المتماسكة، القادرة على توفير متطلبات الحكومة الناجحة والقوية والمنسجمة والكفوءة نظريا وعمليا، ودعمها والتصدي للتجاذبات اعلاه- ومع دعمي لكل الجهود المخلصة- اعتذر مسبقا من المنافسة، والله المسدد”؟
ولا يبقى سوى ان نقول للعراق: سلمتك بيد ألله.