22 ديسمبر، 2024 7:20 م

وحي السماء أم عقل وضمير الإنسان 16/20

وحي السماء أم عقل وضمير الإنسان 16/20

أرجع لأبين ما معنى قولي آنذاك بأني «أشهد ألا إله إلا الله بلا شرط» من جهة، ولكني من جهة أخرى «أشهد أن محمدا رسول الله بشرط لا». أو ما معنى أني «أشهد ألا إله إلا الله شهادة قطعية»، بينما «أشهد أن محمدا رسول الله شهادة ظنية». الظن درجة من درجات العلم، ودرجة من درجات الإيمان، ولكنها لا ترقى إلى درجة القطع واليقين. والقرآن يعتبر الظن تارة بمثابة الإيمان المقبول عند الله سبحانه، والممدوح منه، بقوله تعالى: «وَاستَعينوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، وَإِنَّها لَكَبيرةٌ إِلّا عَلَى الخاشِعينَ، الَّذينَ يَظُنّونَ أَنَّهُم مُّلاقو رَبِّهم وَأَنَّهُم إِلَيهِ راجِعونَ»، ولكنه تارة أخرى يدين التعويل على الظن بقول «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغني عَنِ الحقِّ شَيئًا». وهذا لعله وحسب فهمٍ تأويليٍّ ليس بالضرورة بتناقض، فإن بلوغ العلم بالحقائق والإيمان بها بمستوى اليقين أمر لا يتأتى لكل إنسان. ولذا فالإيمان بدرجة الظن، لاسيما إذا كان ظنا راجحا، أي ترجح كفة تحققه على كفة احتمال عدمه، يعتبر إيمانا مقبولا، وكلما رجح احتمال صدق المُؤمَن به، كلما أوجبت السيرة العقلائية ترتيب الأثر على ذلك الظن الراجح. ودرجات الرجحان متفاوتة من شخص إلى آخر، وأعلاها الظن المتاخم لليقين، كما يُعبَّر. والإيمان بملاقاة الله – كما ورد في الآية – أي بحقيقة المعاد والحياة الأخرى، هو من ضرورات العقل الفلسفي حسب فهم الإلهيين العقليين، كونها من لوازم الجزاء (ثوابا أو تعويضا أو عقابا)، وكون الجزاء من لوازم العدل الإلهي، وكون العدل من لوازم الكمال المطلق، وكون الكمال من لوازم واجب الوجود، الذي هو نتيجة حتمية للاستدلال بأدلة قانون العلية الذي مفاده «كل وجود ممكن معلول وجوده بعلة أو مجموعة علل مباشرة، وكل تحول في ماهية كل وجود ممكن معلول تحوله بعلة أو مجموعة علل مباشرة»، ولاستحالة تسلسل العلل، واستحالة الدور. وإذا كان الإيمان بما هو من ضرورات العقل لمن يراه كذلك مقبولا على نحو الظن، فمن قبيل الأولى أن يكون الإيمان بما هو دونه ضرورةً عقليةً، أي النبوة، مقبولا على هذا النحو. نعم يمكن الوصول إلى حقيقة النبوة، إذا ما افترضنا صدقها، بطريق غير مباشر، وذلك إذا ثبت أنها الطريق الوحيد للتبليغ عن الله، وإذا ثبت أن التبليغ واجب، بدليل قبح العقاب بلا بيان، ولكن هذا مما يمكن أن يُرَدّ عليه، بكون الرسول الباطني (العقل والفطرة والضمير) كافيا ومغنيا عن الرسول الظاهري (الرسل والأنبياء)، وهذا ما يمكن تأييده من خلال الآية: «مَن آمَنَ باللهِ وَاليَومِ الآخرِ وَعَملَ صالحا فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنونَ»، باعتبار أن الإيمان بالله واليوم الآخر مما يمكن للإنسان أن يصل إليه بالأدلة العقلية، دون الحاجة إلى الوحي؛ أن يصل إلى كلٍّ من حقيقة وجود الخالق، فكماله، فعدله، فجزائه، فاليوم الآخر. أما العمل الصالح فهو نتاج هذا الإيمان، ونتاج العقل العملي والوجدان والضمير والفطرة الإنسانية التي فطر الله الإنسان عليها، أو نتاج أحدهما.