ليس لي بعدٌ آخر إنما أنت أنا ، هكذا كان ، إنسانٌ ذاب في إنسان ، كيانٌ ملؤه الشفقة والحنان ، هو تجلياتٌ لرحمة الإيمان، منهاجُ حياةِ مَن لايسأمُ ولايكِلُّ ، سلامٌ هي حتى مطلع الفجرِ .
في علاقةِ الربِّ مع المربوبِ تتمظهرُ أسمى صور الإنسانيةِ ، متكاملةً في شخص الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي بُعث رحمةً للعالمين ، هدايةً وإرشادًا وأسوةً صالحة ، إذ هو الميزان الذي تساوت كفتاه ولم تعرف الميلان يومًا في التعاطي الواعي مع الآخرين في قضاياهم المصيرية.
كلُّ يومٍ بل كلُّ ساعةٍ من حياتهِ الشريفة دروسٌ وعبر ، هي حياةٌ متجددة تُكسبُ الحياةَ معنى خلودِ الحياة في طريق الاستقامة ، ونحن نعيش ذكرى وفاته نستذكر هذا العطاء متمثلاً في شخصه الكريم ، عبر مواقفَ يقفُ فيها إنسانٌ صادقٌ إزاء مسؤوليته حتى غدا متكاملاً ، وبعد كلِّ هذا لسائلٍ أن يسأل : هل رسولُ الله موجودٌ بيننا أم غيَّبه الثرى خلف أسماء الورى ؟ أم اسمه ما زال له الظهور على مَن كان ويكون حتى المنتهى ؟ .
غُيِّب الرسولُ عن حياتنا بدءًا من وفاته عندما رجع مَنْ رجع القهقرى ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ )) [ آل عمران : 144] ، سوءًا في الفهم والقراءة وانحرافًا في المنهج والسلوك حيثُ الغلبةِ لحب الدنيا وسلطان النفس والموقع ، والانقلابُ هنا انقلابٌ عقائديٌّ، أهوى بالضمير الإنساني في قعر جهنم.
واستمرارًا في ميلان الكفة وسِعةِ دائرة الاختلال ، ليس غريبًا أن يتكرر مشهد الانقلاب اليوم في ميدان الفكر ، بعد أن أضحى العقلُ لقمةً سائغةً أمام حشود العاطفة ؛ هذان البعدان في أفُقِ الذات _ العقلُ والعاطفة _ جنبتان يكملُ أحدهما الآخر ، وقد يرجُحُ أحدُهما في بعض الظروف التي تستوجب ذلك ، لكن أن يكون التغليب دائمًا لحظة اتخاذ القرار للعاطفة على حساب العقل هو استمرارٌ لذلك الانقلاب ، فهو اختلال آخر ليس بأقل خطورةً من سابقه ، لأنه سيُفضي إلى تكبيل العقل حتى يصيره ( إن حضر لا يُعد وإن غاب لايُفتقد ) سبيلاً إلى الزلات ويبقى محتملاً لوزرها ، وهو ما استعاذ منه أمير الحكمة والبيان (( نعوذُ بالله من سُباتِ العقلِ وقُبح الزلل )) نهج البلاغة ، قبل أيامٍ كنّا نقيمُ مجالسَ العزاءِ على مصابِ سيد الشهداء بأبهى صُوَره حزنًا وأسىً بكاءًا وغيرها مما يطول ذكره ، بيد أننا لم نلمسْ نصفَ هذا الحماس أو أقل من ذلك تفاعلاً من قبلِ خطباء المنبر( المحمدي الحسيني ) والشعراء والرواديد فضلاً على عوام الناس مع ذكرى وفاة الرسول ، أو ليس هذا اختلالٌ في موازين التفاعل والانفعال ، العاطفةُ الحسينية مهمةٌ لتُلهب الحماس ولتبقيه مستمرًا متوهجًا في النفوس لا أن تكون بيدها زمام التوجيه في حركة الانقياد وتحديد المصير و إلاّ عُدنا إلى عصر الجاهلية .
إن التعاطي مع مناسبات المعصومين بالحزن والعزاء لايكفي إزاء ما قدموه من تضحياتٍ في سبيل هداية الناس إلى سبيل الرشاد ، بل إن التأسي الحقيقي إنما يكون في تبني السيرة العطرة لهم وتمثلها في مواقف الحياة ، ولن يكون للتأسي سبيلٌ إذا ما غُلِّبت عواطفُنا على عقولنا ، فحريٌ بنا أن نعيدَ الميزان إلى نصابه المتزن بتغليب العقل على العاطفة في كل مواقف حياتنا ، تخليدًا لذكرى سيرةِ رسولِ الله فيها ، وجعلها نصبَ أعيننا ما حيينا لتحقيق التأسي الذي دُعينا إليه والخروج من دائرة العقوق ، كما قال تعالى : ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )) [ الأحزاب : 21] ، فإن الأخلاق والتدين ما هو إلا استجابةٌ لطبيعة الإنسان التكوينية في رحلةِ البحث عن المفقود ، وهو مانلهج به عبر نداء التلبية مرددين (( لبيك يا رسول الله )) .