23 ديسمبر، 2024 5:17 ص

في غفلة من الزمن وفِي ضجيج من الانقلابات الثورية جاء البعث الى الحكم في العراق في عام ١٩٦٨م ، بعد سلسلة من الانقلابات المنقلبة على بعضها ، إبتداءً من تولية الضباط الذين خانوا الدولة العثمانية على السلطة في بلاد الرافدين من قبل البريطانيين .
وجاء البعث بصدام حسين ، احد أكثر الوحوش دموية ، حيث تقدمت به المنافسة البريطانية الامريكية من قاتل مأجور الى الحارس الخاص لقيادة الانقلاب التموزي ، ومن ثم الى مسؤول مكتب العلاقات ( المخابرات ) الذي كان نواة مأسسة الاجرام ، لتختاره الإدارة الامريكية – بعد انتصارها على النفوذ المخابراتي البريطاني – نائباً للرئيس البكر ، الذي لم يتأخر كثيراً في تقديم استقالته ممهداً الطريق الرئاسي لصدام في عام ١٩٧٩م ، بعدما هالته فنون الوحشية الجديدة عليه – رغم كونه احد أمراء الوحشية القديمة – والتي كادت تطول عائلته لولا تنحيه ، ومن ثم تم منحه وأولاده خيار الموت الرحيم .
كنّا نعجب كثيراً مما تنقله كتب التاريخ حول قسوة الأمويين والعباسيين تجاه معارضيهم ، الا اننا صعقنا لاحقاً بما تم نقله عن جرائم المغول تجاه البشرية . لكننا لم نكن ندرك ان الوحشية تتطور كما تتطور عجلة التقنية .
فما جاء به البعث الصدامي من جرائم مروعة وابادة جماعية وتجويع ومطاردة وحروب وخيانة وغدر واغتيال وسرقة وكذب وتزوير وتغيير ديموغرافي وطبيعي وتشريد للشعوب يفوق ما جاء في خيال هولاكو بالتأكيد .
ان صدام كان يستهدف على الدين والهوية ، فهو يقتل كل متدين حقيقي ، سني او شيعي ، ومن ثم يقتل كل شيعي لا ينتمي الى البعث . وبعد ان كانت دول الخليج وغالبية الدول العربية تبارك جرائمه في الثمانينات ، وتباركهم جميعاً الولايات المتحدة الامريكية ، ذاقت هذه الدولة المشيخية ويلاته بعد ذلك العقد ، لكنها لم تذق طعم حكمه المر .
كيف انتقل صدام بتلك الجموع من البدو المنتشرة بين تكريت والموصل وكركوك والرمادي من قساوة الصحراء وشمسها المحرقة الى ترف السلطة ، وكيف ان تلك الجموع الصحراوية البدوية لم تستطع تجاوز وحشية السلوك حتى بعد تلك الحياة الفارهة ، اذ انها ربما تحتاج الى قرون من المدنية كغيرها من الشعوب لترتكز فيها علائم الحضارة .
ان بقاء هذه الجموع كأدوات وحواضن لمشاريع القتل الامريكية حتى بعد سقوط صدام دليل على انها لم تهضم الإنسانية بعد ولم تدخل في قواعد المدنية ، لذلك انتمت في غالبيتها الى داعش . بل ان دواعش العراق الذين صنعهم صدام فاقوا دواعش الشام في قساوتهم وتخريبهم . وقد تجاوزوا حتى توقعات المنظّر الأمريكي لمشروع القتل في الشرق الأوسط .
لقد كانت هذه الجموع عاجزة – رغم ما يشيعون اليوم من كذب – عن إدارة الدولة المدنية وهي في ذروة سيطرتها السياسية والاقتصادية ، وكان غيرهم يدير معالم الصناعة والاقتصاد والعلم ، فيما كانوا يسيطرون على جميع المرافق العسكرية كعادتهم . كانت مؤسسات هيئة التصنيع العسكري والنفط والمشاريع الزراعية والطبية والتعليمية خاضعة كلياً لإدارة غير هؤلاء البدو . بل حتى حين شكلوا لجانهم الحزبية تحت إشراف غيرهم ليتعلموا منهم ومن ثم قتلوا الجميع وولوا أعضاء تلك اللجان الوزارات والمؤسسات المدنية والصناعية أفشوا الفشل والسرقة والاختلاس والرشوة . لكنهم استخدموا القتل مرة أخرى لتغطية عيوبهم ، وصنعوا المزيد من الوهم .
ثم راحوا ينفقون المزيد من المال على العرب البعيدين ، الذين لا يعلمون من هو صدام وماذا يفعل من جرائم في شعبه ، وان هذا المال الذي ينفقه عليهم يزيد العراقيين فقراء وجوعا . لا يعلم العرب ان صداماً اهلك اكثر من مليوني عراقي .
ينقل احد منتسبي الأمن في السبعينات من القرن الماضي ان قيادة البعث كلفتهم في تلك الفترة بواجب في براري تكريت ، يقضي بجلب مجاميع البدو بالقوة وباستخدام طائرات الهليوكوبتر ، فوجدناهم يهربون أمامنا وهم حفاة في حالة رثة ، لكنني تفاجئت بعد عدة أشهر ان اجد احد هؤلاء البدو الذين احضرناهم وهو معي ضابطاً في نفس دائرة الأمن . ليكون لهؤلاء البدو نصيب في تشريد قوم هذا المنتسب ذاته في المستقبل .