18 ديسمبر، 2024 11:18 م

وجيب قلب.. في سماعة طبيب مستجد

وجيب قلب.. في سماعة طبيب مستجد

إلتزام معايير علمية واخلاقية، إقرار ضمني في الشهادة الطبية، تدون وتؤدى أثناء قسم التخرج، في أية كلية طبية؛ بقصد نمو الإحساس المعنوي، بموازاة التطور المعرفي.. إحترافيا.. في ما بعد.
الفكر / الضمير، والعقل / العاطفة، والإيمان / الإخلاص، نماذج من ثنائيات يقوم الوجود عليها، والخلل في أي منها (تهدل) الدنيا، متلكئة عرجاء كسيحة نصف حية وشبه ميتة، يجب غرسهما في مناهج العمل، وتنشيطهما بإستمرار، وإيقاظهما معا.. بسياق طردي متوالي.. لا تناوب فيه، كلما مالت كفة أحدهما لصالح الاخر، يعدلها المعني.

اهم هذه المعايير الاخلاقية المثبتة عالميا هي: “إحترام إرادة المريض وترجيح رغبته” و”إيلاء مصلحته إهتماما يفوق كل الإعتبارات” و”تحاشي إيذائه” و”إحترامه ومعاملته إنسانيا” و”المساواة في تقديم الخدمات الصحية لكل من يحتاجها” و” تبصير المريض بالقرار، ضمن الحدود النفسية المساعدة على تسهيل العلاج وعدم إرعابه”.

تلك الاقانيم، هي إصول المهنة، التي درسناها منهجيا، بطريقة تؤكد، ان الطب أسمى العلوم ورسالة إنسانية راقية، يمنح محترفه مؤهلا للتعامل مع كيان فطره الرحمن على صورته؛ فأية قدسية، تلك التي تترتب على “ترتيش” صورة رب السماء.. أرضيا.

عليه ان يتأهب بكل ما تعلم، جاهزا في أطراف مخيلته وعقله، يستحضره بداهة، من دون تلكؤ، عند معاينته مريضا، يكشف على حالته.

إنها ثوابت لا يتردد الأستاذ عن تكرارها على مسامع طبيب متخرج حديثا، ليضعها نصب عينيه، طوال حياته العملية المقبلة، وهو يلتحق بوحدته الصحية.

القوة والفعل

صدرية الطبيب، مسوح كاهن، والسماعة صولجان فارس.. يتذكر والده.. أهداه صدرية جديدة وسماعة راقية التصميم والمنشأ؛ بمناسبة تخرجه واضعا “باج” الدكتور على صدره، وسامَ شرفٍ.

شعر يومها بحلمه يتحقق، حاصل مزج الذكاء الفطري بالموهبة المنظمة والإجتهاد المواظب.. أشار أستاذه الى فسيلة نخل يزرعها فلاح، قائلا:

* انك لهذه الفسيلة ستزرع في ارض المهنة وسيتم نسيانك وسقيك وعليك ان تبقى شامخا كالنخلة.. تسقط عنك السعف اليابس؛ لتنمو مثمرا.

سأل الطبيب الشابُ أستاذَه:

* هل درست كل هذه السنين لاصبح فسيلة؟ أجاهد وأكدح لأنضج بالغا مرحلة النخلة؟.

أجابه:

* نعم.. غذاء السعف صبرك وتعليمك المستمر وأخلاقك.. تكون او لا تكون؟ هذا هو السؤال الذي ينطوي على إجابة ضمنية.. والآن اذهب يا ولدي لتسلم أولى خفاراتك.. واجه مرضاك وحدك! ولا تنسى العلم والاخلاق والصبر والعزيمة.

شكر الطبيب الجديد عمه، معاهدا:

* عمي سأكون عند حسن ضنك.

وغادره ناقلا نظره بين الفسيلة والنخلة.. وصل العيادة الخارجية، ليجد زحاما من مرضى في الباب، فسحوا له المجال احتراما لصدريته، وتسلم العمل مناوبا زميله، الذي مكث معه رويدا.. يرشده، ريثما يتماهى مع المكان.

بغية التأمل بأسرار العمل الإجرائي.. ميدانيا؛ طلب من البواب التأني لحظات قبل ادخال المريض الاول.. سوى هندامه وصدريته ومسح باجه وأخذ صورة ( سيلفي) لأول مشواره الطبي، فهو اليوم اصبح دكتورا بالفعل، أمدته الكلية بالقوة!

تكاسل مستفز

تذمرت الأصوات، وراء بابه الموصدة، تستعجله؛ فأوعز بإدخال المرضى تباعا، وكجزء من التوثيق صور نفسه مع المراجع الاول في حياته الطبية.

تعالت الأصوات قرب الباب الموارب، سامعا احدهم يقول:

* اطباء جهال.. احنا بيا حال والطبيب ملتهي بالتصوير.

تلقن درسا عمليا مبكرا؛ أزال نشوة التباهي بالوظيفة؛ مدركا أنها ليست صدرية وسماعة، إنما خدمة لحاملي هموم تحت وهن الألم، مندفعين نحو ردود فعل غير قياسية؛ لأن المرض إستثناء والصحة قاعدة؛ فلا تتوقع ردة فعل طبيعية؛ من إنسان في وضع عضلي ونفسي غير طبيعيين!

وجم صامتا، يتأهب للرد، فبادره موظف الخدمة:

* يلله دكتور مشي، كل اللي قبلك مروا بهذا.

تأمل واقعي

ماذا حصل؟ ولماذا؟ وهل يزهف المبتدئ حاكما على مستقبله بالنهاية قبل البدء؟ هذا هو الدرس الثاني، الذي لخصه في ثوان فاصلة بين بركان الغيظ وهدأة الأمراء.

آمن بأن “خير البر عاجله” و”من عمل عملا فليتمه” لذا حرص على تقديم افضل الخدمات؛ سال الاول عنما يشكو؟.. أجلسه جنبه؛ متبعا أصول وفن المهنة، الذي تعلمه أثناء الدراسة.. تحدث المريض عن آلامه، التي تبدء من الرأس الى الأقدام؛ فكل شيء في جسده “مألوم” يتمزع!

واصل الإستفهام عن نوع الألم وإمتداداته وتاريخه المرضي والعائلي.. جردة أسئلة، نفذت الى صميم الحالة، طالبا منه النوم على سرير الفحص، وأشار لموظف الخدمة بغلق الباب؛ حفاظا على حرمة الخصوصية! عورة الجسد الواهن، وأسراره، لا يصح ان يطلع عليها سوى الطبيب؛ بإعتباره ربا ثانيا، بعد الله جل وعلا.

فحصه وفق ما تعلم، مستحضرا خطوات المعالجة، مضفيا عليها احتمالات تشخيص مقترحة، بذكاء ميداني، منها تحاليل وفحوصات؛ لإكمال التشخيص وإيجاد العلاج.

درس ثالث

طول الفحص إستفز المراجعين الذين إكتظت بهم صالة الانتظار؛ فتعالت أصوات الاحتجاج:

* ماذا يفعل صار له ربع ساعة مع المريض؟، نحن متى يصل دورنا؟

اجابهم البواب بانه حديث عهد:

* بعد ما ماخذ شمره!

فأقلقهم، بدل التهدئة:

* يعني يتعلم بروسنه.

* إحنا والله مستعجلون.

قال ثالث:

* آنة كلش تعبان ما أتحمل.

رابع:

* راح اموت!

أقبل موظف صائحا:

* دكتور.. تره هيج ما يصير، اذا كل مريض عشر دقايق؛ يعني ستة في الساعة، واني هسه عندي اكثر من ثلاثين مريضاً والعدد في تزايد مستمر، تره هسه يهجمون ويكسرون العيادة، يلله هم إيدك ومشيهم وهم واقفون.

وقف واضعا السماعة جانبا، وقال له:

* الانسان ثروة وطنية وعلي تقديم افضل الخدمات الصحية له، فكيف لي ان اقدمها لهذه الإعداد وبهذا الوقت.. ضميري وعلمي لا يسمحان.

اجابه الموظف:

* أخذ الدرس مني ومعليك من اللي قريته.

.بهذا تعلم درسا عمليا ثالثا، يتلخص بأن ثقافة قصور الخدمات، تعيقه عن شمول المريض بما يلزم.. صار يهمش على المخاطبات الرسمية: “أجري اللازم” من دون إجرائه!