23 ديسمبر، 2024 3:36 م

وجوه أخرى للذاكرة الفلسطينية

وجوه أخرى للذاكرة الفلسطينية

قرأت، قبل كتابه هذه السطور، ما تفضل به الأستاذان، عدلي صادق وصقر أبو فخر، في “العربي الجديد”، “غياب اليوميات ” و” التاريخ الفلسطيني والنار”. ومع موافقتي الكاملة على نصيهما، إلا أن دافعي للكتابة، هنا، في الموضوع نفسه، ينطلق من زاوية أخرى، تقترب مما تناولاه.

وجدت على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي شريطاً مصوراً، وضعه شقيق الشهيد حمدي سلطان التميمي، أحد قادة القطاع الغربي في حركة فتح، والذي اغتاله الإسرائيليون في قبرص، مع الشهيدين مروان كيالي وأبو حسن قاسم. أثار عنوان الشريط “حمدي في معركة بيروت” استغرابي، إذ أعرف أن حمدي غادر بيروت، ليساهم في قيادة منطقة الجبل إبان اجتياح 1982. شاهدت الشريط، فوجدته يصور مقاتلاً أسمر، يلقم راجمة صواريخ في بيروت. وأجزم أن حمدي، القائد والمقاتل الصلب، لم يفعلها يوماً، وقطعا لم يكن للشهيد حمدي أدنى صلة بمن هو في الشريط، ولكن أهله الذين لم يشاهدوه منذ مغادرته الخليل أوائل السبعينيات توهموا أن هذا المقاتل ابنهم، لتشابه في الملامح، أو تماثل في المكان. وكثيراً ما أواجه مثل هذه الأسئلة من أهلٍ يودون التزود بأية معلومة عن أبنائهم وقصصهم ومآثرهم، فأجيب أحياناً، وأقف عاجزاً عن الإجابة في مرات أكثر.
ووصلت إلي نسخة من كتاب صدر حديثاً في رام الله، عنوانه “قتال العمالقة” من إعداد اللواء الصديق مازن عز الدين. والكتاب، كما يصفه كاتبه، عن العسكرية الفلسطينية 1973-1994. وعلى ما فيه من جهدٍ في إعداده، الا أنه صدمني، فهو ليس أكثر من استمرار للرواية الفلسطينية الرسمية التي سادت في تلك الفترة، من دون أي نظرة نقدية أو تقييمية، عدا عن النهج التبريري في الكتاب، وعدم الدقة في تفاصيله، وغياب قصص وشخصيات أساسية عنه. لم ينس الكتاب مشاركة وحداتٍ من القوات الفلسطينية في الدفاع عن نظام عيدي أمين في أوغندا، لكنه نسي كلياً العمل العسكري في الأرض المحتلة، ولم يتطرق له، ولو بكلمة.


هنالك جهود لأفراد ومناضلين في محاولة لتوثيق أجزاء من هذا التاريخ. لكن، في غياب أي دور مؤسسي فلسطيني، نجح أبناء عشرات القرى المنكوبة في إعداد دراسات مهمة عن قراهم ومدنهم، وبجهد فردي خاص

ما سبق دفعني للتفكير، مجدداً، بالرواية الفلسطينية للتجربة العسكرية والنضالية للثورة الفلسطينية المعاصرة. أين هي هذه الرواية؟ في ذاكرتي المتواضعة، لم أجد سوى كتاب يزيد صايغ “الكفاح المسلح والبحث عن دولة”، والصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وبضع كتب ودراسات سابقة، خرجت عن نمط البلاغات العسكرية العامة، وصيغها الإعلامية المعروفة، لعدد من الكتاب، أبرزهم الهيثم الأيوبي وياسين سويد، في غياب أي دراسات جادة من خارج الصندوق الرسمي عن التفاعلات التي كانت تجري في داخل الفصائل الفلسطينية وتياراتها وقواها الحية، وعلاقتها مع الوسط الرسمي والشعبي المحيط بها.
هنالك جهود لأفراد ومناضلين في محاولة لتوثيق أجزاء من هذا التاريخ. لكن، في غياب أي دور مؤسسي فلسطيني، نجح أبناء عشرات القرى المنكوبة في إعداد دراسات مهمة عن قراهم ومدنهم، وبجهد فردي خاص. لكن، لم ننجح في إصدار رواية، أو رواياتٍ، للتاريخ الفلسطيني المعاصر، بكل تفاصيله، كما لم تنجح مؤسساتنا في كتابة تاريخنا المعاصر إلا ببضع حالات جزئية ومحدودة.
قبيل حرب 1982، سعى مركز التخطيط الفلسطيني إلى تشكيل فريق مختص للبحث في الوثائق العثمانية. ماتت هذه الفكرة بعد الخروج من بيروت. ووثائق مركز الأبحاث الفلسطيني وأرشيفه، والذي أدركت القيادة الفلسطينية أهميته، حين أصرت على أن تسترجعه من إسرائيل في إحدى صفقات التبادل، أودع في أحد المعسكرات في الجزائر، وترك نهباً لعوامل الزمن وغذاء للفئران. كتب أبو جهاد (خليل الوزير) كتابه “بدايات”، ودفعه إلى المطبعة، وعندما صدر الكتاب، تراجع عن توزيعه، وجمع كل النسخ في منزله تحسباً من حساسيات قد يسببها ذلك الكتاب، وأخذت طبعات تحمل الاسم نفسه تظهر في الأسواق. لكن، ما أعرفه أن الكتاب الأصلي ما زال حبيس منزله، تماماً كما آلاف الوثائق، وعشرات من دفاتر يومياته، وأشرطة الفيديو، موضبة ومحفوظة في الصناديق، تحتاج لمن يمعن فيها بحثاً ودراسة. ووثائق عديدة هي أوراق فاكس (ثيرمو)، وتفقد محتواها مع الزمن، وهذا كما أشارت إليه مقالة صقر أبو فخر، بشأن حال أرشيف الرئيس ياسر عرفات، وغيره الكثير.
ثمة جانبٌ آخر من الذاكرة، يكاد يذوي مع الزمن، يتعلق بتجارب المناضلين أنفسهم، بقصصهم، بحكاياهم، بمعاناتهم وبطولاتهم وهزائمهم وانتصاراتهم، بزملائهم الذين مضوا على درب طويل. في كل يوم وبحكم العمر وسنة الحياة، نفقد أحد هؤلاء، ومعه نفقد جزءاً من ذاكرتنا الجمعية، ونخسر حكاية من تاريخٍ، لم يدون بعد.
أنتسب إلى جيلٍ فلسطيني عرف عن عز الدين القسام، وثورة 1936، وحرب 1948، وعاش آثار النكبة، وشهد انطلاقة الثورة المعاصرة وعايشها. لم يشهد جيل أبنائنا هذا كله. وكتب التاريخ الرسمي لن تشفي غليله، إن لم تكن قد بلبلت ذاكرته. وفي عصر العولمة، لن يحميه إلا تاريخه الحقيقي، لكي يتمكن من صناعة مستقبله الحر، وإنجاز ما حاول جيلنا القيام به.
هذه ليست مهمة أفراد فحسب، إنها مهمة كل المؤسسات الوطنية الفلسطينية