قبل ثلاثين عامًا لم أكن أدرك ما معنى قول المعري “هذا ما جناه عليّ أبي ولم أجن على أحد”، هل هو ذم أم هو مدح لأبيه؟.
واليوم أدركت ما يعنيه الفيلسوف والشاعر الكبير أبي العلاء المعري، إنه كان غير راضٍ على أبيه حيث عاش ضريرًا بسبب مرض عرضي أطفئ له نور البصر. وأما قوله هذا فهو من باب العتب على أبيه، أو الرفض لما تسبب بمجيئه إلى هذه الحياة، إذ قذف به في أتون عالم مترامي الأطراف، فيه من التناقضات ما فيه، وفيه من معاناة الحياة الكثير؛ حياة فرضت علينا أن نعيشها بكل تناقضاتها، ورغما عنّا، والطامة الكبرى أننا لم نختر مجيئنا بمشورة منّا، وعن طيب خاطر، بل فُرضت فرضًا وبقسوة، وسبب هذا المجيء، كما يرى المعري، هو الأب حينما خدعته الغريزة الحيوانية فأنصاع إلى أوامرها بدون رويّة، ولا تفكير بعواقب الأمور التي تترتب على النتائج التي ستحصل كتحصيل حاصل.
الغريزة هذه عبّر عنها شوبنهور، حيما قال أن الطبيعة خدعتنا، أي أن الطبيعة فرضت علينا هذه الغريزة فرضّا، لسبب التكاثر وابقاء النوع، وعبّر بعضهم بقوله: إن الطبيعة لو لم تجد هذه الغريزة ستتحايل علينا بإيجاد طريقة أخرى في سبيل ابقاء النسل (وهذا الكلام منطقي). حتى اعتقد الفكر الديني (وهو اعتقاد مغلوط وغير صائب، ويدل على هشاشة هذه المنظومة) من أن الكون (وكلّ ما فيه من عجائب وغرائب، لا يستطيع العقل وصفها) لم يُخلق إلّا من أجل الإنسان ولأجل لإنسان ذاته، وهذا من المضحك بمكان.
وعودًا على بدء، أدركت قول المعري هذا بعد فوات الأوان، أي بعد أن بلغت من الكبر عتيًا، بأنني ارتكبت الخطأ نفسه الذي ارتكبه والد المعرّي، بدون واعز من وعي، فسرتُ الخطوات ذاته، وارتكبت الجناية نفسها، (كذلك فعلت كلّ البشرية) وأنا مغمّض العينين.
لكن المعرّي أدرك الأمر، وحسب له حسابه قبل الخوض في الأمر(أمر القدوم على الزواج وتبعاته) فأعرض عن الزواج، الذي سيؤول إلى الانجاب، حتى لا يتسبب في مجيء إنسان إلى عالم الوجود(هذا الوجود المضطرب) فتحصل النتيجة ذاتها التي فعلها الأب (ابيه) بدون حساب مسبق للنتائج التي تترتب على القضية برمتها.
المعرّي، قبل كُل شيء، إنسانًا مفكرًا وفيلسوفًا، وفي ذات الوقت شاعرًا يمتلك احاسيس فذة، خصوصًا وأنه يحمل في جنبه قلبًا ينبض بالإنسانية، إذ أن قضية الإنسان باتت تهمه وتقض مضجعه، فكان يدين الظلم والتعسف، ويطالب بحق الإنسان وبحريته، ويرفض الاستبداد والحيف الذي يقع على كاهل هذا الإنسان، وما مجيء الإنسان إلى هذا الوجود وقذفه فيها، كما يقذف البحر الهادر أمواجه، إلّا ضربًا في التعسف والظلم، والتعدي على هذا الكيان.
ومن هذا المنطلق، ندرك أنّ المعرّي كان وجوديّا، بل أول من قال بالوجودية، قبل أن يُنحت هذا المصطلح (مصطلح الوجودية) في القرن العشرين على يديّ دوستويفسكي و كيركيجارد ثم جان بول سارتر فهيدغر، وسواهم.
بعض المفكرين المعاصرين وضّح “الوجودية” بأنها تيار فلسفي يعلي من قيمة الإنسان ويؤكد على تفرده، وأنه صاحب تفكير وحرية وارادة واختيار ولا يحتاج إلى موجه. والوجودية حركه فلسفيه تقترح بأن الإنسان كفرد يقوم بتكوين جوهر ومعنى لحياته. وظهرت كحركة أدبية وفلسفيه في القرن العشرين، على الرغم من وجود من كتب عنها في حقب سابقه. وليس هذا فحسب، بل أنّ الوجودية ترى أن غياب التأثير المباشر لقوة خارجية. يعني بأنّ الفرد حرّ بالكامل، ولهذا السبب هو مسؤول عن أفعاله الحرة. والإنسان هو من يختار ويقوم بتكوين معتقداته والمسؤولية الفردية خارجاً عن أي نظام مسبق.
والأشياء هذه، وإن كان المعري لا يعرفها، أعني بأنها لم تكن موجودة في عصره، قبل أكثر من الف عام، لكن المعرّي، وهو المدافع الأكبر عن حرية الإنسان وعن قيمته العليا، كمخلوق جاء للوجود بغير أرادة فهو كائن مستلب الارادة، مُجبر إلى دخول عوالم لم يكن يعرفها وحتى الخوض فيها، ولم يكُن يعلمها قط، وهذه العوالم، فوق هذا وذاك، عوالم لم يدرك كنهها، بل قُذف به في لجة تلك العوالم، وتُرك يصارع مصيره وحده، مقابل تحدياك كبيرة ومحن جسيمة، ومتاعب لها أول وليس لها آخر، وليس الذنب ذنبه، ولا الأمر أمره، بل حينما جيء به كان غضًا غريرًا، لا يعرف أي شيء عن هذه الحياة، ولما فتح عينيه وجد امرأة ورجل، قيل له أنهما أبواه.
فواضح أن المعرّي كان رافضًا هذه الفكرة، أو قُل هذه المحنة التي ابتدعتها الطبيعة، وسيّرتها تحت بند من بنود قوانينها، ولو كانت الطبيعة تعي الأمر لما قامت بهذا الفعل الذي تحمّل اعبائه الإنسان، فصار بذلك اتعس مخلوق، فلربما ثمة كثير من المخلوقات الأخرى تعيش عيشة هانئة اكثر من الإنسان، فهي لا تفكر بل تأخذ الأمور على علّاتها، لأنّ عملية التفكير متعبة وقاسية وصعبة على كاهله، فتشل حركة وكيان الإنسان، وما ينتج عن تلك العملية (عملية التفكير) ردود أفعال تكون نتائجها وخيمة وصعبة المراس، ومن هذا نجد البعض ينهي حياته في الانتحار ليحدّ من هذه المهزلة والفوضى بلا مبرر، حتى أنّ الفيلسوف شوبنهور اعتبر أن الانتحار حق من حقوق الانسان لينهيها هو بنفسه ويقوض الحياة التي يعيشها بدون جدوى.
ما يميز الإنسان عن الحيوان هو جوهرة العقل، فهو الفاصل الوحيد الذي يفصل بينه وبين تلك الحيوانات، وبتعبير الشاعر المتنبي أن حامل العقل يتعب أكثر من سواه، ويعني به الإنسان الذي يفكر بعقله وبين الذي معطّلة عنده عملية التفكير، فهو أشبه بالحيوان.
العقل هذا، في كثير من الاحيان هو من يتعب الإنسان، ويضعه في دوامة، سواء في مستقبله أو في عيشه وربما سيؤول اليه من مصير لا يعلمه، في الأيام المقبلة وحتى في ما بعد الموت، فقضية ما بعد الموت، مثلاً، فهي قضية غامضة لا يدركها الإنسان، ولا يعلم حقيقتها أبدًا، وهي الشغل الشاغل للإنسان، قديمًا وحديثا وقد تطرق لها العديد من الفلاسفة والمفكرين، وعلى مدى مئات السنين، وللآن القضية متعلقة ولم تُحسم، كونها من القضايا الغيبية.
والخلاصة، أنّ لدى المعري كانت ملامح وجودية، وكما ذكرنا بأن الوجودية ترى أن للإنسان قيمة عليا في ذاته وفي صيرورته، وتتمثل هذه الصيرورة في تفكيره، وفي حريته التي يتخذها هو بنفسه، إذ لا تكون عليه وصاية فوقية، طالما يسير وفق مبادئ عقلية خاضعة لتفكير سليم.