لا يكفّ الإنسان منذ الأزمان الغابرة عن التساؤل عن معنى وجوده؛ وقيمة ما يفعله من عدمه؛ وكذلك قيمته ذاته وسط كل هذا الخضم من الصراعات التي لا تنتهي، والتحدِّيات اللانهائية التي تعكِّر صفو حياة البشر وتجعلهم ينزلقون لهوة نوبات ضعف أو إكتئاب، أو، على النقيض، قوَّة أو عنف وشراسة. ومع الوقوع في حبائل تلك التساؤلات وتبعاتها، قد يفضي ذلك بالإنسان إلى السقوط في ألوان متباينة من الشِّعور وردود الأفعال؛ مما قد يجعل السلوك الفردي والدوافع غير مبررة في بعض الأحيان، وغير متوقعة في كثير من الأحيان.
وتلك التساؤلات العميقة شغلت الفلاسفة منذ قديم الأزل في محاولة منهم لاستكشاف الوجود الإنساني وتوجُّهاته السلوكية في خضم عاصفة هائلة من الخوف والرهبة والقلق عند مواجهة عالم سخيف يضع القيود على الإرادة الحرَّة، ويكبِّل الشجاعة والحرِّية والفضيلة، مما يؤدِّي إلى نشوء أزمات وجودية.
ولقد حاول الأدباء إثارة تلك القضايا في إنتاجهم الأدبي التي كانت أيضًا نابعة من خبراتهم الشخصية وواقعهم السياسي والاجتماعي، مما أفرز العديد من الأعمال الخالدة؛ لما تحتويه على مشاعر صادقة تمسّ كيان القارئ في أي مكان وزمان. ومن الأعمال الخالدة رواية “الوشم” للكاتب العراقي “عبد الرحمن مجيد الربيعي” (1939-2023) الذي عمل فنَّان تشكيلي، لكنه آثر أن يعطي لألوانه وأعماله الفنية صوتًا أعلى عندما كتب عمَّا يؤرِّقه، فبرع في الرواية والقصَّة القصيرة، ومنح صوتًا للحظات الانكسار والانهزام التي يقاسيها الإنسان العربي عند مجابهة قضاياه الداخلية، وبالتالي منح سيرة أبطاله أبعاد قومية؛ حيث أنه يثير قضايا تمسّ الوطن العربي بأكمله في ظلّ أنظمة متشابهة.
واعتماده على التيار الغربي في الفن دفعه لاستخدام النقد والأدب الغربي كركيزة أساسية لانتاجه الأدبي؛ فظهر في انتاجه الأدبي أصداء لتيارات الواقعية والماركسية والوجودية. هذا بالإضافة إلى استناده إلى الأسس الأصيلة للنقد والأدب العربي، وتأثُّره بالعديد من الشخصيات الأدبية الهامة مثل محمود أمين العالم ويوسف إدريس وجبران خليل جبران؛ فهو مؤمن بأن الأدب والنقد كلاهما مكملًا للآخر ولا يمكن الاستغناء عنهما، وكذلك لا يمكن للإنسان أن ينفصل عن واقعه العربي واستبداله بالانغماس في تيارات غربية.
واعتماده على عالمين في العالم الأدبي ووقوعه بينهما يعكس أسلوبه في الكتابة الذي يقع أيضًا في عالم ال”ما بين”؛ فجميع كتاباته تقع بين الواقع المُعاش والسرد المُتَخيَّل، وبهذا يفتح كتابته على الغريب المدهش والواقع القاسي من أجل الانفتاح على جميع الأسئلة الوجودية التي تؤرِّقه وعدم الاجابة عنها يسبب إحباط ليس فقط له، بل لجميع القوميات العربية التي تعاني من نفس الظروف. والاستفاضة في البحث في منطقة ال”ما بين” هذه هي وسيلته لبلوغ الحرية المنشودة والتي السبيل لها يبدأ بمحاولة سبر أغوار هويته واستكشاف مناطق قوتها ومناطق ضعفها.
وعبر تلك الفكرة تنطلق روايته الوشم التي نشرها عام 1972، في حين تقع أحداثها في فترة زمنية غير محددة، وإن كانت وقائع الرواية تدل على أن الأحداث تدور في الفترة ما بين 1958-1967 في العراق، أي في الفترة التالية لثورة 1958 في العراق، حيث يبحث من وجهة نظره اليسارية ما حدث بالعراق من حملات اعتقال واسعة وشعور عارم بالانهزامية وهذا من خلال وجهة نظر بطل الرواية الذي خاض جميع المعارك الواقعية والنفسية التي عاشها أبناء جيله. والبناء السردي المحكم والمتطوِّر عمل على تحويل الرواية إلى منظار يكشف النقاب عمَّا يحدث بالأنظمة العربية في ذاك الوقت، لوجود تزامن وتشابه في الأحداث. ومن ثمَّ، استحقَّت الرواية عن جدارة أن تدخل ضمن قائمة أفضل مائة رواية عربية.
وينبلج أسلوب الرواية وبنائها من خلال العنوان: “الوشم”؛ فالوشم ما هو إلَّا وسيلة لإبراز هوية أو التعريف بيها. فالوشم يكون “وسمة” إذا تم استخدامه وسيلة للتجميل والإغواء، ويكون “وصمة” إذا تم استخدامه كوسيلة لتوكيد مرتبة دنيا، سواء لإنسان أو حيوان؛ فعلى سبيل المثال، توصم المواشي بخاتم لتحديد ملكيتها، وكذلك توصم العاهرات في العراق بالوشم المصنوع من السماج للتوكيد على أنهن من بنات البغاء. وفيما يبدو أن “عبد الرحمن مجيد الربيعي” كان يكتب وفي ذاكرته الكاتب الأمريكي “ناثانيال هوثورن” Nathaniel Hawthorne (1804-1864) وروايته “الحرف القرمزي” The Scarlet Letter، فكانت الخواطئ توصم بهذا الحرف لتمييزها عن الشريفات. وبنفس الطريقة، الوشم الذي أصبح عنوان رواية “عبد الرحمن عبد المجيد الربيعي” هو وشمًا كان على عاهرة سمراء اللون كان يصفها باشمئزاز، ونفس هذا الوصم والشعور بالاشمئزاز يعكس ما يشعر به بطل الرواية حيال ذاته وكل من حوله الذين فضلوا الخيانة لتحقيق مكاسب شخصية، تمامًا مثل بنات الهوى.
وتسر رواية “الوشم” سيرة الشاب القروي “كريم الناصري” ذو الميول الثورية الذي ينضم إلى الأحزاب السياسية عبر ثورة 1958 التي ثار فيها الجيش على النظام الملكي لتحويل بلادهم للنظام الجمهوري، وهذا من أجل تحسين أوضاع الفئات الأكثر فقرًا، وعلى رأسهم القرويين الغارقين في الفقر والعوز. لكن ما حدث كان على عكس التوقُّعات؛ فالثورة بعد نجاحها عملت على تقييد الحرِّيات الفردية؛ وأمَّا الثوار الذين لم تخمد ثورتهم بعد، تم الزجّ بهم داخل السجون والمعتقلات.
وتتعمَّق الرواية في بحث العديد من ألوان الخيانة، التي يفتح الباب لها الفقر والحاجة. ففي القرى التي يعاني أبائها، يترك الفلاحين بيوتهم وأراضيهم ويخونوا الأرض التي آوتهم لسنوات طويلة من أجل تحقيق مكاسب شخصية، وعلى رأسها توفير لقمة العيش للأفواه الجائعة التي لم تشهد إلَّا تفاقم لسوء لأوضاعهم بعد الثورة.
وكان “كريم الناصري” يشهد تلك الخيانة صغيرًا، وقاسى من سوء أوضاع قريته يافعًا، ولذلك انضم للأحزاب السياسية. وفي المعتقل، يعترف “كريم الناصري” أمام نفسه أن ثورته وحماسته لم يكن الغرض منهما خدمة الدولة، بل الطمع في نيل منصبًا سياسيًا ومكاسب شخصية. وبينما كان في المعتقل لفترة ستة أشهر، وكلما وجد أحدهم يخرج من السجن بعد الإرشاد عن رفقائه، كان يسرّ لنفسه أنه على أتم استعداد ليماثلهم فعلًا من أجل نيل حريته. وبالفعل، عندما واتته الفرصة، أرشد عن جميع رفقائه بسهولة.
وعلى هذا، يخرج من السجن. وبالرغم من أنه يعمل في وظيفتين، فإن هيئته كالمشرَّدين وثيابه الرثَّة تصير كالوشم الذي يدل على دناءة وضعه. ولاحساسه بخيانة نفسه ومن حوله، ينغمس في حياة السهر ومعاقرة الخمر والاتصال بالعاهرات، وجميعها أشياء يشمئز منها، ولكنه ينغمس فيها لأنه يشمئز من نفسه ويعاقبها لأنه لبس ثوب البطل، وكانت نهايته الخيانة والتشرُّد الأخلاقي.
الاختيارات الشخصية تحددها القضايا الإنسانية العميقة مثل الأمل والأوضاع الإنسانية والمآزق الأخلاقية ومدى الإيمان وقوة الشعور بالحرية، وكل قضية منهم تعتبر اختبارًا لمدى صلابة الفرد وقدرته على مجابهة الذات.