وجه يتكرّر – قصة قصيرة

وجه يتكرّر – قصة قصيرة

لا شيء هنا ينتمي إلى زمن، ولا إلى مكان. مدينة تتنفس في ضجيج باهت، تُعيد تشكيل نفسها كل صباح كالسر الذي لا يُقال.

هي، لا تنتمي إلا إلى لحظة ضائعة بين رقصات الهواء. تقف عند المحطة، حيث يتلعثم عمود كهربائي بلا سبب، كما ان الطلاء المتقشّر على الجدار كأنّه نُقش نسيه الزمن نفسه.

لا تنزل. لا تسير. فقط تصعد الحافلة ذاتها، في ذات التوقيت الذي لم يتغيّر منذ ما لا يُعدّ،
تجلس في المقعد الأخير، بجانب النافذة المفتوحة قليلاً كفتحة صغيرة في حلم عميق.

لا أحد يعرف وجهتها، ولا هي تعرف لماذا لا تُغلق تلك النافذة.

عبر الشارع، يقف هو. لا يرفع عينيه كثيرًا، لكنه يرسل ظلال نظره كأنها أسئلة تلتقط أطراف الذاكرة.

نفس اللحظة. نفس المكان. لا شيء يتكرر إلا في الإيقاع المخفي. وجوده يملأ الفراغ كما يملأ السؤال نهايته. صمتٌ يسمع في ضجيج غير مسموع.

في دفترها الرمادي، تخط كلمات لا تحوي معانٍ، فقط صدى:

هو لا ينتظر الحافلة، بل ينتظر أن تُغلق النافذة.”وقوفه، سؤال لم يُطرح، جواب لم يولد.”

ثم يغيب.غيابه ليس حدثًا، بل اختراقًا في التوازن.كأن الهواء نفسه أصبح أثقل، وأصبحت المدينة خدرًا بلا صوت.

الحافلة تسير بلا وجه، المقاعد ظلال بلا جسد، والنوافذ تعيد وجهها مشوّهًا، وجود زائد لا يحتمل.

ثم يبدأ في الظهور في الانعكاسات: في زجاج مبتل، في نظرة طفل غاف، في صمت رجل يشبهه دون صوت.

وفي يوم لم يُسمّ بعد، حين اختنقت المدينة بصمت غريب، رأته. كان واقفًا على الجانب ذاته، لكن لم يعد ظلاً.

اقترب، ويده تحمل ورقة مطوية كأنها لمسة أخيرة. لم يتكلم، لكنها سمعت الكلمات بين الصمت:

كنت أراك كل يوم… وكنتُ أنتظر أن تغلقي النافذة.”رفع عينيه نحو السماء بلا لون، وأضاف دون صوت:حين يفتح أحدهم نافذته عمدًا، يريد أن يُلامسه غياب ما.”

فهمت، أخيرًا. لم تكن تنتظر أحدًا. كانت تفتح نافذتها لتسمح للغياب بالمرور.

وفي اللحظة التي التقت فيها عيونهما، توقفت الحافلة.ولأول مرة، كان المقعد بجانبها مشغولًا.