في عملية بسيطة لوضع نقاط اليقين فوق حروف الشك، لايختلف اثنان بأن هناك جوانب معينة من مفاصل البلد كانت في زمن حكم صدام مستقرة مقارنة بزمن مابعد سقوطه، ويأتي في صدارتها الجانب الأمني. وقطعا لم يكن هذا الاستقرار يتحقق لولا استخدام النظام سياسة القمع والبطش، والتي عادة مايرافقها الظلم والقسوة وسلب الحقوق وكتم الحريات، وجلنا يذكر الأساليب المخابراتية التي زرعت الخوف والرعب في نفوس المواطنين، يوم كان رب الأسرة العراقية يخشى نقد النظام أمام أبنائه، وكان الزوج لايجرؤ على إبداء الامتعاض او التذمر من النظام او الحزب على مسمع من زوجته، وكذاك الحال بين الأصدقاء والأقرباء والجيران، إذ كانت أبواب (الفرقة) و (الشعبة) و (الفرع) مفتوحة على مصاريعها، لكل من لديه تبليغ او إفادة يدلي بها، فيذكر أسماء أشخاص كانوا قد تفوهوا بما يمس (الحزب والثورة والسيد الرئيس حفظه الله ورعاه) فيشي للـ (رفاق) هناك عما في جعبته من معلومة، و (الرفاق) بدورهم يطبقون منهج البعث في الترهيب والوحشية وانعدام الضمير وسوء الأخلاق وقلة الأدب، وما الى ذلك مما عرفوا به من سمات مخزية.
كذلك من أسباب الاستقرار الأمني الذي كان مستتبا حينها، هو أن المقبور كان يعمل ويخطط لصالح أعداء العراق، فكان بنهجه وسياسته الداخلية يغنيهم عن التدخل بإثارة القلاقل والمشاكل، فما يقوم به يصب بتحصيل حاصل في مصالحهم، ويلبي حاجاتهم ومآربهم من دون الحاجة الى تجييش جماعات إرهابية، أو إرسال قطعان الأجساد المفخخة او تسخير العقول المدججة بالمعتقدات التكفيرية، لبث افكارها العدوانية ونشرها بين أبنائهم لتكتمل مراحل حربهم ضد الشعب العراقي بصفحاتها كافة.
وبعودة الى المقبور.. -أقصد صدام.. لاستحقاق كثيرين هذا اللقب وهم أحياء- يحضرني اليوم لقاء كانت قد عرضته إحدى الفضائيات العراقية، وكان لقاءً سريعا مع امرأة مسنة تبدو عليها قسمات الظروف التعيسة والعيشة الصعبة، والتي يعاني منها العراقيون جيمعهم -ماخلا السراق والفاسدون-. وقد سألها القائم باللقاء:
* حجية.. مارأيك بصدام؟
أجابته وثقتها عالية بصحة إجابتها مؤكدة مصداقيتها بالقسم في معرض ردها.. إذ قالت بألم وحرقة:
– “والله ياابني.. صدام وجهه أسود.. لكن الأجو وراه بيضوا وجهه”..!
هي شهادة بليغة وتصريح صادق من مواطنة عراقية، لاقت الويل والمرار على يد من أخلفوا صدام في إدارة مفاصل البلد، منذ اثنتي عشرة سنة. وفي حقيقة الأمر فإن المقبور، كان يعي مايفعله جيدا، لكن عنجهيته ونرجسيته وغطرسته كانت تجمل له قبح أفعاله، وهذا ديدن مرضى النرجسية الذين سبقوه من قادة ورؤساء وسياسيين في العالم، إذ سعى صدام بنهجه الإداري السيئ الى وضع المواطن في زاوية ضيقة، ليس أمهمه سوى خيارات قليلة في العيش، فإما الانجراف مع تيار البعث وأساليبه اللاأخلاقية في التعامل مع مفردات المجتمع، وإما الهروب خارج أسوار الوطن والجري وراء متطلبات الحياة في عالم الغربة والاغتراب، وإما القبوع خلف قضبان السجون ودهاليز أقبية الأمن والاستخبارات، وإما التسلق الى أعواد المشانق، او الغوص في أحواض التيزاب، او الدفن حيا، وبين كل هذه الخيارات عاش العراقيون ماضيهم الأسود الممتد طيلة ثلاثة عقود ونصف، وعلى قول “حجيتنا” فإن السواد الذي عم أجواء العراق إبان حكم المقبور، صار نهج ساسة اليوم أكثر عتمة وحلكة منه، الأمر الذي حدا بها الى ذمهم بالصورة البليغة التي بينتها، ولا أظن أحدا منهم لم يسمع ماقالته، او يراها وهي تنطق بالحكم الذي يشاركها فيه باقي العراقيين، فهل هم يرعوون؟ وهل من سقف زمني لنهاية غطرستهم وغيهم فيما يعملون ويصرحون ويقررون؟ وهل هم يتقون يوما تسود فيه وجوه لايبيضها جاه ونفوذ ومنصب ومال وبنون؟
[email protected]