19 ديسمبر، 2024 1:16 ص

من المؤكد انه مابعد عام ٢٠٠٣ أتيحت للعراق فرصة تاريخية لبناء دولة عصرية متحضرة من خلال تبني نظام ديمقراطي دستوري يعتمد مبدء الانتخاب الحر للسلطات التي تأخذ على عاتقها إدارة مفاصل الدولة بهدف تحقيق التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي تحت مبادئ الدستور وسيادة القانون. فأحداث مابعد عام ٢٠٠٣ وفرت ضمنيا الارضيّة المناسبة لتغيير الواقع العراقي بشكل جذري من نظام شمولي يقدس أشباه الاله وتقديس الفرد، ( وهو نظام مغلق ) لعقود عديدة، الى حالة جديدة مختلفة تماماً تبلغ فيها مساحة الحرية الفردية والفكرية ابعاد واسعة لا تقارن. وكان البعض من شرائح المجتمع ( واعتقد الأكثرية ) متفائل جدا من هذا الحدث لتحقيق بلد يفتخر الانتماء اليه ، في حين كان البعض الاخر ( وهم الأقلية ) مستاء من هذا التغير لربما لتعارض مصالحه او لأسباب اخرى. وبعد اكثر من خمسة عشر سنة للنظام الجديد بدأ الشعب باغلب مفاصله يعاني درجة من الاحباط والتذمر وحتى فقدان الأمل في مستقبل واضح.
خلال الخمسة عشر سنة الماضية مرت على العراق ثلاث تجارب انتخابية ديموقراطية تمخضت عن تشكيل حكومات يعتقد انها جميعا لم تحقق الحد الأدنى من التقدم والتطور والازدهار والامان مقارنة بالإمكانات المادية والبشرية المتاحة. السؤال الوحيد والمنطقي الذي يفترض ان يسأله كل شخص واعي مهما تكن ثقافته ،،،، أين يقع الخلل؟ ولماذا كل هذه الصفات السلبية عن الواقع العراقي من فساد اداري ونقص في الخدمات والفقر والبطالة والعديد من ظواهر التخلف ؟ بشكل عام لا يحتاج المرء الى تفكير عميق وشامل لإدراك السبب او الأسباب الرئيسية وراء هذا الاخفاق في النهج السياسي ، حيث يمكن إجماله في سببين رئيسيين أولهما ضعف او عدم التثقيف الصحيح لفئات المجتمع ، وخصوصا عامة الناس ، بالاساليب الديمقراطية والمبادئ والأسس التي تبنى عليها الممارسات والتطبيقات الديموقراطية الصحيحة والمتعارف عليها في الأنظمة الديموقراطية المعروفة. فالتصويت مثلا لا يعني ممارسة ذاتية للفرد لاختيار المرشحين للانتخابات وفق الانتماءات المختلفة سواء كانت فئوية او عشائرية او طائفية وغيرها تحت اي من المسميات بقدر ماهي مسؤولية واعية لافراد المجتمع كافة في كيفية الاختيار والاسس التي يبنى عليها هذا الاختيار. وَمِمَّا لاشك فيه ان نتائج اختيار الفرد سوف تنعكس عليه وعلى غيره ، وهذا ما لم يفهمه الناخب العراقي.
اما السبب الثاني فيعود الى جهالة معظم الفائزين من المرشحين بالانتخابات بالدور الحقيقي الذي يفترض ان يقوموا به. ففي نظر معظمهم ان الفوز بالانتخابات هو مكسب بحد ذاته ويعكس محبة الناس ،اللذين صوتوا لصالحه او لصالح قائمته ، لشخصه وانتمائه فقط وليس لما هو مطلوب منه ان يؤديه وفق السياقات الديموقراطية الصحيحة والمتعارف عليها. المشكلة هنا تنحصر في محدودية تفكير وادراك هؤلاء للموقع الذي وضعوه الناخبين فيه، فهم يعتبرون الفوز في مواقع المسؤولية عبارة عن مكسب ذاتي وتفويض للعمل وفق الاهواء والقناعات الفردية . في حين ان الفوز في الانتخابات وتحديد الأشخاص اللذين يديرون شؤون الدولة لا يعتبر بحد ذاته مكسب شخصي او فئوي للتمتع بالامتيازات ( غير المنطقية) الممنوحة بشكل استثنائي وإنما يمثل الفوز بإدارة المفاصل الرئيسية للدولة ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) مسؤولية كبيرة ،،، انها مسؤولية وليست مكسب مادي او حتى معنوي ،،، يحاسب فيها المسؤول عن أدائه وفق السياقات القانونية والتنظيمية ، انها وظيفية كباقي الوظائف الاخرى السائدة لها حقوقها وواجباتها العادلة وتخضع لمعايير الكفاءة والاداء بدون اي حصانة شكلية تمنع المحاسبة العادلة بموجب القوانين السائدة.
امام هذا التشخيص ، فان معالجة السبب الاول يتطلب جهود كبيرة تتكاتف فيها جهات عديدة الى جانب تصحيح بعض التشريعات والقوانين السائدة والتي وضعت وفق ظروف معينة. ان الصعوبة هنا تكمن في إمكانية خلق جيل يفهم ويستوعب بشكل صحيح ماهية النظام الديمقراطي وأسس تطبيقاته كما هو معمول به في الأنظمة الديموقراطية العريقة لكي نضمن الاختيار الصحيح للأشخاص اللذين يتولون مسؤولية إدارة الدولة، اي خلق وعي ومعرفة وادراك حقيقي لمبادئ النظام الديموقراطي . اول الخطوات التي يفترض البدأ بها هي تثقيف النشئ الجديد ( ابتداء بالمراحل الابتدائية والمتوسطة ، وحتى الإعدادية ) بالمفاهيم الحقيقية للنظام الديموقراطي بما يتضمنه من مبادئ وأسس في كيفية الاختيار الحر الصحيح. اي ادخال مناهج بالتثقيف الديموقراطي للاجيال الواعدة ، اي تصبح مادة التثقيف الديموقراطي في المراحل الاولى للتعليم مادة أساسية لخلق جيل واعي ومدرك لهذا النظام.
طبعا لا يتوقف الامر على مسألة التعليم فقط وإنما يتطلب جهود ومساهمات مكثفة من وسائل الاعلام ومؤسسات المجتمع المدني والتواصل الاجتماعي لإرساء قواعد المجتمع الديموقراطي المتحضر. هذه المرحلة ستكون من اصعب المراحل لما ستواجهها من صعوبات وتحديات على مختلف الاصعدة ، ( وستكون عبارة عن مرحلة انتقالية ) لحين استيعاب وتقبل شرائح المجتمع للمفاهيم الصحيحة للتطبيقات الديموقراطية لإدارة الدولة. عندها ستبدأ بوادر الأمل لبناء دولة عصرية متقدمة يفتخر المواطن بالانتماء اليها.
اما بالنسبة للمشكلة الثانية فإنها مرتبطة أساسا بالمشكلة الاولى ، ولكن يمكن تعجيل إصلاح الوضع العام فيها وذلك من خلال تثقيف الأشخاص المكلفين بمسؤولية إدارة الدولة بالواجبات المطلوبة منهم . يبدو من خلال متابعة ثقافة ودرجة ادراك العديد من الأشخاص المسؤولين عن المفاصل الرئيسية في الدولة ومن خلال اللقاءات التي تجرى في وسائل الاعلام او التواصل الاجتماعي انهم يفتقدون الخبرة والمعرفة الكافية لمتطلبات الادارة في ظل الأنظمة الديموقراطية . المهم هنا ان يخضع الجميع من المسؤولين عن إدارة مختلف مفاصل الدولة ( باعتبارهم حديثي الخبرة بالممارسات الديموقراطية ) لدورات تعريفية وتثقيفية بأدوارهم ومسؤولياتهم وواجباتهم وفق أسس ومبادئ النظام الديموقراطي الصحيح والاطلاع على تجارب الدول الديموقراطية قبل البدئ بممارسة مهامهم ومسؤولياتهم ليستوعبوا بان مسؤولياتهم تقع ضمن نظام عام وليس ضمن نظام عائلي او فئوي او عشائري او طائفي او قومي.