لم يعرف العرب التدوين قبل الاسلام، وكل تراثهمالفكري والأدبي، تناقلته الأجيال المتعاقبة شفاهاً،وإن أول مدونة معتبرة لديهم كانت القراَن الكريم،ومن الأسباب التي دعت طه حسين الى الطعنبصحة المعلقات في كتابه ( في الشعر الجاهلي) هوغياب التدوين في تلك المرحلة، وحين نبحث في هذاالتراث، نجد إن أغلب مرويات عرب الجاهلية، قدطغت عليها مكارم الاخلاق ورافقها الشعر، كييسهل تعلقها بالذاكرة وتناقلها عبر الأجيال، حتىقال ابن عباس (الشعر ديوان العرب) فقد حفظالشعر الجزء المهم من لغتهم وتراثهم.. لكن مصطلحمكارم الاخلاق لم يكن في حينها بالصورة التيحاول الاسلام تفسيرها وايجاد مخارج دينية لهافيما بعد، على الرغم من وجود تعالق اعتباريبينهما، حين قال النبي محمد ص (إنما بعثت لأتمممكارم الاخلاق) .. فقد كانت مكارم الاخلاق عند عربالجاهلية، تمثل نمطية اجتماعي، تسيدت على العقلالجمعي العربي، وأثرت على الحراك الاجتماعيللإنسان العربي عبر التاريخ، اختلطت مع الكثيرمن العادات والافعال المشينة والغير انسانية، حتىعجزوا عن فك الارتباط بينهما، بسبب غياب الثوابتالمعرفية والقيمية والسلوكية لذلك.. فكان عربالجاهلية يتخذون من مكارم الاخلاق ساحة للتفاخرعلى الاخرين وسلاح يضاهي السيف في نزاعاتهمالقبلية، واستطال هذا الامر بعد ظهور الاسلام وفيالصراع السياسي الأموي القائم مع الانصاروالعلويين، حتى قال شاعر الامويين جرير مادحا عبدالملك بين مروان :
الستم خير من ركب المطايا واندى العالمينبطون راح
وقال الأخطل مخاطباً الأنصار، وهو يذمهم وينتقصمنهم كونهم يعملون في الفلاحة:
خلوا المكارم لستم من أهلها وخذوا مساحيكمبني النجار ذهبت قريش بالمكارم والعلا واللؤمتحت عمائم الأنصار فكانت مكارم الاخلاق احدىاهم المتاريس التي يتحصن بها العرب مخافة الذم،وشكلت الأحساب والأنساب هاجس لديهم، يحاولونالحفاظ عليهما من كل دنس بأي ثمن، فكانوا اذااصابهم القحط سكنوا (الوهاد) وهي الاراضيالمنخفضة، كي لا يرى المسافر نارهم ويحل ضيفاًعليهم، فلا يجدوا ما يطعمونه فيذمهم فيما بعد.. وكان اذا حل الفقر بالإعرابي وسئل عن حاله قال ( لقد سكنت الوهاد ) ويعني قد اصابه الفقر فأختبئمن الضيوف .. لذا كان الهدف من وراء اغلب هذهالافعال (مكارم الاخلاق) هو التباهي والتفاخر علىالاخرين، وتجنب الذم او الذكر السيئ في مجالسالعرب، اكثر مما هي فعل انساني قيَمي، قبل انتندرج هذه الافعال في خانة الثواب والعقاب والجنةوالنار، حين حلت مفاهيم الاسلام محل تلك النمطيةالاجتماعية، وانزاحت الضبابية في الفصل بين(الفضيلة والرذيلة، والحلال والحرام، والخطأوالصواب) على سلوك الفرد المسلم فيما بعد، كإرثاجتماعي ورثه من اجداده عرب الجاهلية، مازالقائماً وفعالاً لغاية الاَن .. فنجد الكثير من حراكناالاجتماعي وسلوكياتنا القائمة اليوم، حتى الدينيةمنها، لا نبتغي فيها الجانب الانساني او القيمي اومرضاة الله، بقدر ما نسعى بها الى الرياء والتباهيوالتفاخر على الاَخرين، إلا ماندر.. وتعد مكارمالأخلاق صفات ملاصقة للبيئة العربية تنفرد فيها عنالكثير من الأمم الأخرى، فهي عادات وقيم مشرقيةتعود جذورها الى مهد الديانات الإبراهيمية فيالشرق الأوسط، وهناك شواهد كثيرة وردت فيالتوراة عن هذا السلوك، كما جاء في سفر (التكوين) إن نبي الله ابراهيم قد غير مفهوم كرم الضيافة منواجب اجتماعي الى طقس ديني، فكان اذا جاءهضيوف يسجد لهم، ويفسر فعله هذا بأنه يرى الربمعهم، وابن اخيه نبي الله لوط فضل ضيوفه علىبناته حين جعلهن بديلاً عنهم، حفظاً لكرامتهمولواجب الضيافة، كما جاء في سورة هود (وَجَاءَهُقَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ . قَالَ يَا قَوْمِ هَٰؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ . فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَاتُخْزُونِ فِي ضَيْفِي . أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ) .
أستمر هذا الموروث في المشرق، واصبح نهجاً دينياًفي اسفار العهد القديم، إلا إن طبيعته قد تغيرت فيالعهد الجديد (الانجيل) فاصبح الكرم والضيافةصفة متماهية مع الرياء، وإن الكرم الحقيقي هواطعام الفقراء كما جاء في انجيل لوقا (إِذا صَنَعتَغَداءً أَو عَشاءً، فلا تَدْعُ أَصدِقاءَكَ ولا إِخوَتكَ ولاأَقرِباءَكَ ولا الجيرانَ الأَغنِياء، لِئَلاَّ يَدْعوكَ هُم أَيضاًفتَنالَ المُكافأَةَ على صنيعِكَ.. ولَكِن إِذا أَقَمتَ مَأَدُبَةفادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان).. لذا لانجد ذكر لمثل هذه الثقافة (مكارم الاخلاق) في اغلبادبيات الغرب المسيحي، وان المستشرق لويسغارديه في كتابه (اثر الاسلام في العقلية العربية) لميجد مفردات في لغات العالم الغربي المسيحي،يمكن أن تعبر عن مكارم الاخلاق الموجودة عندالعرب، كونها ثقافة غريبة عنهم، فكان يستخدممفردة (كبرياء) حين يمر بإحدى مفردات مكارمالاخلاق.