23 ديسمبر، 2024 5:41 ص

وجهاً لوجهٍ مع الدكتور كمال مظهر أحمد : الحضارة ملك الجميع ، وأدعو إلى تفاعل الحضارات لا إلى صراعها

وجهاً لوجهٍ مع الدكتور كمال مظهر أحمد : الحضارة ملك الجميع ، وأدعو إلى تفاعل الحضارات لا إلى صراعها

كمال مظهر احمد

* كفانا شر لغة الشعارات الرنانة الفارغة ،والعنتريات المضحكة التي تحول البسطاء من العراقيين وحدهم إلى وقودها ،وثمنها الباهظ
تحدث إليَّ الدكتور كمال مظهر أحمد، وفي يده مهفةٍ أنيقةٍ تنسجم مع أناقته في الملبس، و تعاطيه مع طلابه ، وزملائه، وأصدقائه.
نجحت المهفة في تحريك بعض نسائم الهواء الحار في ذلك اليوم التموزي القائظ ، ضحى الأحد الموافق ٢٠٠٣/٧/٦ م في غرفة الأساتذة بقسم التاريخ بكلية الآداب /جامعة بغداد.
فتح د. كمال كيس نايلون، أخرج منه شمسية ، أو مطريةً قلما يستخدمها العراقيون للإستظلال من الشمس ، وقدم لي قدحاً دافئاً من الماء إعتذرتُ عن قبوله ؛ توقيراً له.
كان الناقد حسب الله يحيى قد كلفني قبل إسبوعين بإجراء حوارٍ  مع الدكتور كمال مظهر أحمد ، أستاذ التاريخ الحديث ،  وحين إطلع على أسئلتي أثنى عليها، وطلب مهلة إسبوعين للإجابة مع ملاحظة وجوب الإتصال به هاتفياً، وتذكيره، الأمر الذي أثمر بإكماله الإجابة ، وجلبها اليوم.
قال لي د. مظهر : إنني أتابع، وأقرأ كل حرفٍ يكتبه الناقد حسب الله يحيى في (التآخي)، و(طريق الشعب) وأنني أدافع عنه ؛ فهو رجلٌ وطنيٌّ.
ثمَّ سلمني إجاباته عن أسئلتي، وطلب مني إستنساخها وإعطاءه نسخةً من الحوار المكتوب.
قال : إنني أشعر بالثقة نحوك بشأن نشر الحوار كاملاً بلا زيادةٍ ، ولا نقصانٍ، وفي مكانٍ بارزٍ في جريدة (التآخي) ، ثمَّ دعاني إلى الحضور معه إلى قاعة الإدريسي لمتابعة مناقشة رسالة ماجستير في (الديانة الزرادشتية وأثرها في الدولة الساسانية) لأحد المعممين في مشهدٍ لم يكن مألوفاً قبل سنة ٢٠٠٣ م ، ولم يكن ذلك المعمم سوى الباحث (جاسب مجيد جاسم الموسوي) (١٩٦٦ م ـ ٢٠٢٠ م) الذي أكمل الدكتوراه  فيما بعد في سنة ٢٠٠٧م وكان موضوع أطروحته ( الدين ، والمعتقد في حضارة وادي الرافدين) ، وصار من أبرز الوجوه التلفزيونية في مجال التحليل التاريخي والسياسي خاصةً في قناة ( العهد) الفضائية وبرنامجه الشهير (دواعش التاريخ) مع معده الشاعر عماد كاظم عبد الله.
أخذتني هيبة العلماء الحاضرين خاصةً أعضاء لجنة المناقشة  وكم تمنيت أن أكون تلميذاً عندهم وهم كل من د. مرتضى حسن النقيب، ود. أحمد مالك الفتيان.، ود. قحطان عبد الستار الحديثي، وأستاذ اللغة الفارسية الدكتور عبد الإله محمد حسين العبيدي.
من خلال سير النقاش عرفت أن ملحمة الشاهنامة كتبت عدة مرات قبل (الفردوسي) وان معناها سيرة الملوك الساسانيين وأمجادهم وبطولاتهم.
عرفتُ أيضاً أن الزرادشتية مطورة عن البوذية.
غادرت القاعة قبل إنتهاء المناقشة لأتابع الدوام في الجريدة حاملاً الحوار الثمين الذي بحوزتي الذي أدخل السرور على قلب الناقد حسب الله يحيى ، ودفعه إلى التنضيد.
وقد نشر الحوار كاملاً في جريدة (التآخي) العدد( ٤٠٣٧ ) الخميس الموافق ٢٠٠٣/٧/٢٤ م  بعنوان ( وهو يدعو إلى تفاعل الحضارات .. د.كمال مظهر أحمد :هل تعاني أمريكا من عقدة التاريخ حقاً ؟ )
وبعد نشره قابلت الدكتور ثالثةً فأبدى رضاه التام عن الحوار، و ظهوره ، وقال  : إنَّ الكثير من الأصدقاء إتصلوا به معلقين على الحوار، وهذا يدل على أهميته.
لم ألتق الدكتور مظهر بعدها ، لكنني ظللت أتابع أخباره حتى بعد إحالته على التقاعد سنة ٢٠٠٨ م ، وإستمرار نشاطه العلمي  في المجمع العلمي الكردي في أربيل، والتفرغ لكتابة مذكراته الشخصية.
أُعيد نشر هذا الحوار بعد إجراء بعض الإضافات اللازمة ضمن سلسلة مشروع كتابٍ عنوانه الأولي ( وجوهٌ في ذاكرة الأرض) ؛ لعله ينفع من يريد السير في حقل التاريخ من دون أن ينفجر عليه لغمٌ !
( الحوار)
الدكتور كمال مظهر أحمد هو أنموذجٌ للعالم الذي يحق أن نفتخر به علماً وتواضعاً وأدباً وهديةً للإنسانية.،  يوصف بأنَّه مؤرخٌ ينتمي إلى المدرسة الواقعية التي تؤمن بالتحليل التاريخي .
يقول  :(ما أريده هو التحليل وهذا هو الجانب الذي ينقص العديد من الدراسات التاريخية)،  ويرى أنَّ مهمة المؤرخ ليست سرد الأحداث بقدر تحليلها بصورة موضوعية ، ويدعو إلى ضرورة دراسة عصر المؤرخ لأنَّ ذلك يوصلك إلى مقدار ما يتعرض له المؤرخ من ضغوط خلال كتابة الأحداث ، وهو يميل إلى إعادة كتابة التاريخ وفقاً للحقائق التاريخية لا وفقاً للأهواء والميول ، وهذه المنهجية ، والمسلك الصريح والصحيح في النقد والتحليل  جعلت من (كمال مظهر أحمد) مدرسةً في كتابة التاريخ.
ولد في السليمانية سنة ١٩٣٧م، وحصل على البكالوريوس في التاريخ بمرتبة الشرف من جامعة بغداد سنة ١٩٥٩م ونال الدكتوراه من معهد الإستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية سنة ١٩٦٣ م.
ثم  حصل على شهادة الدكتوراه ( علوم  C. S. D)  من المعهد نفسه سنة ١٩٦٩ م .
مارس التدريس الجامعي منذ سنة ١٩٧٠ م ومنح لقب الأستاذ في شباط سنة ١٩٨١ م  هو صادقٌ ، وصريحٌ ، وهما صفتان تضافان إلى جملة صفاته المميزة التي عرَّضته إلى مضايقات كثيرةٍ !
من كتبه 🙁 كوردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى ـ بغداد ١٩٧٥) ، و(ثورة العشرين في الإستشراق السوفيتي ـ بغداد ١٩٧٧ م) ، و (أضواء على قضايا دولية في الشرق الأوسط ـ بغداد ١٩٧٨ م)  ، و ( دراسات في تاريخ إيران الحديث والمعاصر ـ بغداد ١٩٨٧ م)
ترجم بعض كتبه إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والفارسية والتركية والأرمنية.
يقول الدكتور كمال مظهر أحمد  في مستهل الحوار : لقد ُمنحت جوائز وأوسمة علمية تقديرية عدة بما في ذلك لقب عالم درجة (أ) الذي سحب مني قبل سقوط النظام بنيف وسنةٍ مع عدد من أفضل علماء العراق من أمثال الدكتور عبد الهادي الخليلي، والدكتور نزار الطالباني العميد المنتخب حالياً لكلية طب الأسنان بجامعة بغداد.، والدكتور وائل الرفاعي الرئيس المنتخب حالياً للجامعة التكنولوجية.، وأستاذي الفاضل في مرحلة البكالوريوس الدكتور عبد الجليل الزوبعي.
أعتقد أن ذلك كان إجراءً غريباً للغاية في بابه ، لا نظير له في الدنيا على حد معلوماتي.، إذ كيف يصح أن تصبح عالماً ، ثمَّ تصبح في الغد غير عالمٍ بجرة قلمٍ ! ولحسن الحظ قلتُ هذا الكلام حرفياً للسيد رئيس جامعة بغداد الأسبق الدكتور عبد الإله الخشاب أمام جمع العلماء عندما إلتقانا بعد إختيارنا لأول مرة، وعلى ما أتذكر كان الدكتور ذنون بيريادي المعروف في الوسط الثقافي الكوردي من بين الحضور في ذلك اليوم.
*قلتُ له: ثمة مقولةٌ تقول 🙁 إنَّ الأمة التي لها تاريخ يمكنها أن تصنع المستقبل) .. كيف يمكن أن نستفيد من التاريخ لصنع المستقبل ؟
ـ قال : شخصياً لا أميل إلى هكذا مقولة.، إذ أرى فيها قدراً غير قليلٍ من التعالي ، والتوجه العنصري ، بوسعك أن تجد في ثنايا كتابات هتلر، وموسوليني ، و منْ لف لفهما من صغار العنصريين في  منطقتنا أقوالاً، وصياغاتٍ كثيرةً من هذا القبيل.
في مناقشات هكذا أمور مع طلابي في مرحلة الدراسات العليا.، ومع غيرهم أيضاً ، أقول : أعطوني ظروفاً متشابهة لأعطيكم نتائج متشابهة ؛ فإنَّ تاريخ أي شعبٍ أو أي أمةٍ يعتمد على التفاعل بين مجموعةٍ من العوامل الإجتماعية ، والإقتصادية، وعلى ظروف الزمان والمكان دون ريب ، فإذا نعيد صلاح الدين الأيوبي مثلاً إلى ظروف ومتطلبات النصف الثاني من القرن الثاني عشر في موطن أجداده كوردستان أو إلى حيث مكان مولده في تكريت لما سجل مثل تلك الصفحات الخالدة في التاريخ دون أن يعني ذلك أي نقصٍ أو قصورٍ في أهله هنا، أو هناك ، فلا أمّة ، لا تاريخ.
بالنسبة للمقطع الثاني من سؤالك، يمكن القول : لم يأتِ إهتمام المفكرين والساسة، والمؤسسات الجامعية بالتاريخ منذ زمنٍ سحيقٍ من فراغٍ ، فالتاريخ يأتي على رأس قائمة العلوم الإنسانية من حيث الأهمية.، و الخطورة ما دام يتصدى لمعالجة ما يتعلق بحياة البشر وتطورهم ، أو تعثرهم منذ أن ظهروا.
من هنا يرى كبار المفكرين المعروفين من غربيين ، وشرقيين ، أو مثاليين ، وماديين في التاريخ علماً أو فناً مفيداً يضعه بعضهم في مقام ( رسالة صادرة من السماء)  : حسب صياغة المؤرخ والمفكر الرومانسي البريطاني توماس كارلايل في أواسط القرن التاسع عشر ، كما أراد الجميع دون إستثناء أن تكون دروس التاريخ عبرةً لمن يريد أن يعتبر ، الأمر الذي يعتمد إلى حدٍ كبيرٍ على موقف صناع الحدث التاريخي ، وفي المقدمة منهم المنتمون إلى النخبة حكاماً كانوا أم محكومين.
علينا جميعاً أن ننظر من هذه الزاوية إلى تجربتنا القاسية الأخيرة حتى نستنبط منها أفضل درسٍ لصنع المستقبل ، وأن نؤدي دورنا في أن لا ندع أصحاب الشهوات أن يتحكموا مرةً أخرى بأصحاب العقول فينا كما يحاول بعضهم ذلك من خلال العمل جهاراً ، نهاراً للعودة إلى الساحة تحت واجهات، ومسمياتٍ شتى من دون أن يتعظوا من الدرس القاتم الذي عشناه ، والذي لا نظير له في التاريخ الحديث والمعاصر حتماً.
*قلتُ : للعراق حضارةٌ عمرها أكثر من ستة آلاف سنة ، وأمريكا حضارتها حديثة نسبياً ، فهل يمكن التزاوج بين هاتين الحضارتين ، وإذا لا يوجد تزاوج  أو تفاعل فهل يوجد حوار حضاري في الأقل ؟
ـ قال : الحضارة ملك الجميع ، ونتاج فكر وجهد الجميع، فهي واحدةٌ كاملةٌ متحركةٌ، غير راكدة ، لذا تكون حلقاتها متصلة في سياق تطورها الدؤوب ، فلم يكن بوسع السومريين أن يحجبوا الحرف الذي إبتدعوه عن غيرهم ، كما عجز كل ظلاميي الدنيا في أن يحولوا دون إنتقال أفكار فلاسفة الإغريق على طبق من ذهبٍ إلى من غدوا بحاجةٍ إليها سواء أكانوا في روما القريبة ، أم في بغداد البعيدة ، وعلى الغرار نفسه حاولت محاكم التفتيش الكنسية سيئة الصيت عبثاً أن تمنع أفكار إبن رشد وإبن العربي ، وآخرين من وزنهما من أن تخترق الأسوار الإقطاعية المنيعة التي عدت بالية مرفوضة لتكون أعز ضيفٍ على قلب صاحب (الكوميديا الإلهية) دانتي البجيري في عقر داره بفلورنسا الإيطالية من حيث قرع لأول مرة جرس بزوغ فجر النهضة الأوربية الحديثة التي لولاها لما كنا كما نحن الآن.
من هذه الزاوية سمحت لنفسي أن أوجه في إحدى قاعات بغداد إنتقاداً لاذعاً إلى عبارة ( الولايات المتحدة ، وعقدة التاريخ) التي إختارتها جمعية المؤرخين ، والآثاريين العراقية قبل سنتين أو ثلاث سنوات مضت شعاراً لندوتها التي كانت مع ذلك ندوةً علميةً مرموقةً فعلاً كنا بأمسّ الحاجة إليها ، وإلى أمثالها.
إنني أستغرب كيف ينسى من يؤمنون بمنطوق هكذا شعار، أن قطاعاً واسعاً جداً من الشعب الأمريكي الحالي ، هم أحفاد شرعيون لمن بنوا حضارات الإغريق ، والرومان ، والنهضة الأوربية الحديثة ، وأنهم هم أنفسهم رفعوا قبل أقربائهم الفرنسيين بسنواتٍ راية ثورتهم الكبرى قبل أن يضع القرن الثامن عشر أوزاره بمدةٍ ، ليتحولوا بفضل ذلك إلى عامل خارجي مؤثر مهد الطريق لقيام الثورة الفرنسية نفسها التي دشنت بداية عهدٍ جديدٍ في تاريخ البشرية ، وهل يجوز لنا أن ننسى أيضاً الحرب الأهلية الأمريكية التي نشبت بعد الثورة بنيفٍ وقرن من أجل تحرير آلافٍ مؤلفةٍ من العبيد المغلوبين على أمرهم ، وأن ننسى عمالقة الفكر والفن والسياسة من أمثال  : جورج واشنطن ، وفرانكلين روزلفت، وارنست همنغواي ، وشارلي شابلن ، ولوريل وهاردي ، ومارلين مونرو ، وأول إنسانٍ نزل فوق سطح القمر، وغيرهم ممن قدموا لنا أفضل الأدوية ، و اخترعوا لنا السيارة ، والطيارة ، وأدخلوا البهجة ، والحبور إلى قلوبنا دون أن ينسينا ذلك سيئات غيرهم ، وظلمهم ، وعدم تفهمهم لقضايا الشعوب العادلة ، وتحيزهم إلى الآخرين لندين ذلك على رؤوس الأشهاد، ونتصدى له دفاعاً عن النفس والحق ولنتوجه إلى الرأي العام الأمريكي ، ونطلب منه رفع عقيرته دفاعاً عن الموطن الأول لأعرق الحضارات.
خلاصة القول : علينا أن نتحدث ، ونتعامل بلغة العصر، وان لا نخلط بين الأوراق ، ولا نجري وراء العاطفة. كفانا شر لغة الشعارات الرنانة الفارغة ، والعنتريات المضحكة التي تحول البسطاء من العراقيين وحدهم إلى وقودها ، وثمنها الباهظ . أعود لأقول أن الشرقيين عموماً، والعرب والمسلمين خصوصاً أولى من غيرهم أن يؤكدوا بإصرار على تفاعل الحضارات لا على صراعها ؛ ما دام البشر يتوقون إلى الأفضل في الحياة ، وليس بوسع الإختلاف في خصائص وظواهر حلقات الحضارة الناجم عن أحكام الزمان والمكان أن يفسد أو يعرقل حالة التفاعل الحتمية بينها. تصب هذه المعادلة في صالح الحضارات الشرقية التي أعطت أكثر بكثير مما أخذت.
ومن نافلة القول أن السياسة تؤلف وجهاً خطيراً من أوجه الحضارة وإحدى أهم أدواتها منذ بدايات ظهورها ، بوسعها أن تبني وتطور أو تفكك وتدمر، ومن نافلة القول أيضاً لا سياسة من دون مساومة في سياق المرونة في التكتيك، والثبات في الستراتيج ، وكان الرسول الكريم خير أنموذج لذلك فقد ساوم آل بني سفيان من أجل رفعة الإسلام حين رفع دار عميدهم دون الجميع إلى مقامٍ يوازي ، أو يكاد يوازي بيت الله الحرام ، وان المساومة بهذا المفهوم لا يمكن لها أن تمس الكبرياء القومي ، أو تنتقص منه، إنَّها على العكس من ذلك تساعد على تهيئة الأجواء المطلوبة للحوار الحضاري المطروح.
وفي سياق التواصل الخلاق فإن الحضارة المعاصرة هي ثمرة جهود الجميع ومن ثمَّ فإنها ملك الجميع وبُناتها لابدَّ أن يكونوا من العقلاء الخيرين الذين لا يمكن لهم أن يميلوا إلا إلى الحوار والتعاون والتفاهم فلا حدود ولا جنس ولا طبقة للعقل المبدع في إطاره العام.
*قلتُ : لك بحوثٌ في تاريخ الكورد ، وتاريخ إيران .. فما الذي تراه جديداً في هذه الأبحاث؟
ـ قال : حاولت قدر المستطاع أن ألقي الضوء على جوانب مختلفةٍ من تاريخ الكورد ، وتاريخ إيران الحديث، والمعاصر في سياق البحث عما هو جديد، ومطلوب فيهما كما في غيرهما مما لقي إستحساناً طيباً من لدن القراء. سيصدر لي قريباً كتاب ضخم يحمل عنوان (كركوك وتوابعها.. حكم التاريخ والضمير دراسة وثائقية عن القضية الكوردية في العراق) أرى فيه أفضل إنتاج علمي لي وقد أهديته إلى ( كل عربي يرفض أن يكون ظالماً بقدر ما يرفض أن يكون مظلوماً ) من أمثال الأستاذ عبد الحسين شعبان الذي يجسد حب العرب المتجسد في أعماقي أكثر فأكثر ويزيدني حنقاً على من هم نقيض له.
*قلتُ : يتعرض المؤرخ إلى ضغوطٍ عند كتابته التاريخ منها : طبيعة الحكم السائد ومنها :المصادر المحدودة التي يستند إليها، فكيف إستطعت التقليل من هذين العاملين لكتابة تاريخٍ حقيقي ؟
ـ قال : عانى المؤرخون، ولاسيما طلبة الدراسات العليا الأمرين في ظل سيف السلامة الفكرية الذي سُلط عليهم منذ لحظة قبولهم إلى حين تخرجهم ، وفي ظروف التخلف المخيف عن الركب الحضاري في عصر الإنترنيت ، وكانت الأمور في هذا المضمار تسير من سيئ إلى أسوأ ، فقبل سقوط النظام بسنة أو أكثر بقليلٍ وضعت أغرب الضوابط في مجال إستخدام الوثائق العراقية ، بما في ذلك وثائق العهد الملكي التي مضى على معظمها ، ما لا يقل عن ثلاثة أرباع القرن في حين أن بوسع الباحث أياً كان أن يصل إلى أخطر الوثائق البريطانية ، وأندرها بعد مرور ثلاثين سنة فقط على صدورها ، وبموجب الضوابط الجديدة أصبح طالب الماجستير ، أو الدكتوراه ملزماً أن ينتظر رغماً عنه على مدى أشهر طوال إلى أن تصدر الموافقات الأمنية الخاصة التي تسمح له بالإطلاع على الوثائق العراقية المهمة بالنسبة لموضوع دراسته ، مع العلم أن المدة الممنوحة لطالب الماجستير لكتابة رسالته هي سنةٌ دراسيةٌ واحدةٌ.
الوضع كان يختلف بالنسبة لشخصٍ مثلي ، فقلما كنت أحتاج إلى المكتبات العامة بفضل مكتبتي الخاصة ، التي فتحت أبوابها أمام الباحثين أيضاً، ولاسيما طلابي ، وبفضل علاقاتي مع عدد غير قليل من شهودٍ عيانٍ يحتفظون بأخطر وأندر المعلومات المتعلقة بالقضية الكوردية ، واستغل هذه المناسبة لأشير إلى واحدٍ من هؤلاء الأفاضل لإطلاعه عن كثب على معلوماتٍ  في غاية الأهمية تخص رموز النظام السابق من أمثال أحمد حسن البكر، وصالح مهدي عماش صاحب شعار (النزهة العسكرية) الغريب ، وعبد الخالق السامرائي ، وشفيق الكمالي ، وطاهر يحيى ، وغيرهم من القضية الكوردية، ومن شخص البارزاني الأب ، وهذا الشخص  :هو السيد أحمد أمين مدير عام الشرطة بعد إنقلاب شباط ١٩٦٣ م ، والسكرتير الشخصي للرئيس أحمد حسن البكر بعد العام ١٩٦٨ م  ، وسفير العراق لدى يوغسلافيا في عهد تيتو ، والأردن في عهد الملك حسين ، والذي تعرف عن طريق السيد طاهر الحيدري بالشهيدين صالح اليوسفي ، ودارا توفيق ، وشهدت داره إجتماعات خاصةً مهمةً سجل تفصيلاتها في مذكراته التي إطلعت عليها شخصياً ، وهي طافحةٌ بمعلوماتٍ موثقةٍ أشك في أن أحداً يعرف جميع تفصيلاتها ، فضلاً عن أنها مدونةٌ بأسلوبٍ موضوعي يجعلها شهادةً تاريخيةً لها قيمةٌ إستثنائية.
*قلتُ : كم تعطي نسبةً مئويةً للحقيقة في كتابة التاريخ بالنسبة للكتب التي توجد في أيدينا ، القديمة منها، والحديثة ؟
ـ قال : بإستثناء مؤلفاتٍ سطحيةٍ ، والكتب المنهجية الحديثة التي تعاني من ثغراتٍ غير قليلةٍ ، بما في ذلك حتى من ناحية السبك ، والأسلوب ، والصياغة اللغوية ، فإن المكتبة التاريخية العراقية بقيت بخير بفضل جهود عددٍ غير قليلٍ من المؤرخين ، والأساتذة ، والطلاب المخلصين ممن أتحفوا مكتبتنا بعددٍ غير قليل من الرسائل والأطاريح الجامعية التي لا تقل شأناً عن نظيراتها في أفضل الجامعات الأجنبية ؛ لذا حظيت بإهتمام القراء على نطاقٍ واسعٍ ، وللإستدلال فقط أشير إلى أن أكثر من عشرٍ من الرسائل الجامعية التي أشرفت عليها شخصياً ، وجدت طريقها إلى الطبع داخل العراق ، وخارجه أيضاً  ، ومن ذلك رسالتان كُرستا لدراسة حياة نوري السعيد ، ورسالتان أُخريان كُرستا لدراسة حياة محمد رضا الشبيبي ورسالة كُرست لدراسة حياة الملك فيصل الأول ، فضلاً عن رسالتين كُرستا لدراسة (الحزب الوطني الديمقراطي) بزعامة كامل الجادرجي و(الوطني التقدمي) بزعامة محمد حديد.
عندما إنتهى الدكتور من حواره الشائق ، فقدت بريقها عندي جملةٌ شهيرةٌ تقول : (التاريخ يكتبه المنتصرون) ، لأنَّ التاريخ الحقيقي يكتبه المنصفون !