22 ديسمبر، 2024 5:16 ص

وثيقة كلدانية إلى لجنة الموصل 1925

وثيقة كلدانية إلى لجنة الموصل 1925

تمهيد

ما يكتب اليوم لن يقرأ بتمعن إلاّ غداً. وفي مقالي السابق (وثيقة أثورية إلى لجنة الموصل 1925) أشرتُ إلى حقيقة هامة، وهي: إن مسيحيي العراق عموما (والأثوريين خصوصاً) كان لهم دور كبير في إقرار عصبة الأمم لعائدية الموصل إلى العراق، حيث تمكنتالسلطات البريطانية من إستغلال معاناة المسحيين وعذاباتهم في ظل الحكم التركي، لإلحاق الموصل بالعراق، لا سيّما وإن مجازر الأرمن والمسيحيين عامي1915 و1917 في الدولة العثمانية كانت وما زالت ماثلة في الأذهان.

ودون التقليل من أدوار بقية المكونات العراقية الأخرى التي ناضلت من أجل بقاء الموصل ضمن دولة العراق الحديث، إلا إن العرب والأكراد والتركمان تمتعوا بدعم محدود من السلطات التركيةنظراً للتقارب الديني بينهما، في ظل الدولة العثمانية الدينية، ما داموا لا يطالبون بالإنفصال عنها. بينما ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، مشكلة جديدة، هي مشكلة الأقليات التي بدأت تطرح بقوة في الأروقة الدولية.

إستثمار عذابات الأخرين

والواقع، إن بريطانيا إستطاعت بمهارة أن تلحق لواء الموصل بالعراق، مستفيدة من عذابات المسيحيين ومآسيهم الأخيرة مع الدولة العثمانية، دون أن تمنح هؤلاء المساكين شيئاً من حقوقهم، كما أشرنا، والحوار الذي دار بين ممثل بريطانيا السر برسي كوكس، وممثل تركيا فتحي بك في مؤتمر القسطنطينية لعام 1924 يُبين ذلك بوضوح. فقد كانت بريطانيا ترغب في ضم مناطق الأشوريين إلى العراق ضمن حدود لواء الموصل، وذلك لحماية الأشوريين وتطمينهم، والوفاء لخدماتهم، بينما كانت تركيا تنظر في إمكانية عودتهم إلى مناطقهم الأصلية في حكارى بتركياكمواطنين أتراك، على مضض. وفي جلسة الحادي والعشرين من آيار لعام 1924، صرَّح فتحي بك أثناء مناقشة مسألة الأشوريين لتحديد حدود العراق الشمالية في لواء الموصل، معترضاً على المقترحات البريطانية قائلا:

أرغب في التعقيب على هذا، بأن النساطرة سيجدون في البلاد التركية كل ما ينشدون من إستقرار ورفاه وطمأنينة سبق لهم أن تمتعوا بها في الماضي شريطة ألا يكرروا الأخطاء التي إرتكبوها بتحريض من الأجانب في مفتتح الحرب العامة”.

فرَدّ عليه السر بيرسي كوكس بشيء من السخرية، قائلا:

” إن زعم (فتحي بك) بأن النساطرة سيجدون في البلاد التركية كل ما ينشدون من إستقرار ورفاه وطمأنينة سبق لهم أن تمتعوا بها في الماضي شريطة ألا يكرروا الأخطاء التي إرتكبوها بتحريض من الأجانب في مفتتح الحرب العامة، هو زعم لا يتفق مطلقاً مع وجهات النظر النسطورية فذاكرتهم قوية جداً بعكس ذاكرة (فتحي بك) حول شكل المعاملة التي لقوها على يد الترك في الماضي“.

وهكذا إستثمرت بريطانيا آلام المسيحيين لتدر عليها ملايين الدولارات طيلة 44 عاماً، وكان نفط الموصل هو العامل الحاسم في هذه القضية.

وثائق عراقية في أرشيف العصبة

يضم أرشيف عصبة الأمم عدداً كبيراً من الوثائق التي تلقي الضوء على تلك الفترة المهمة والحساسة من تاريخ العراق.

وللأسف الشديد، لم يجري تسليط الضوء عليها، وتقديمها لعموم العراقيين. ولم يتناولها إلا القلة من الباحثين لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، وحتى الدبلوماسيين العراقيين العاملين في بعثة العراق الدائمة لدى الأمم المتحدة في جنيف ومنذ إنشاء البعثة المذكورة عام 1933 وإلى يومنا هذا، فإن أحداً منهم لم يكلف نفسه عناء الإطلاع عليها ونشرها، وقد مرَّ على هذه البعثة عدداً كبيرا منهميقارب الألف دبلوماسي، منذ 86 عاماً، ناهيك عن عشرات الألوف من الوفود العراقية التي زارت في الماضي، وتزور مقر الأمم المتحدة هناك، حتى الآن.

وثيقة كلدانية إلى لجنة الموصل
من بين الوثائق المحفوظة في أرشيف الأمم المتحدة، وثيقة كتبت باللغة الفرنسية وبخط اليد بشكل أنيق وراقٍ، لا أظن أن أحد من دبلوماسيينا اليوم-بحسب خبرتي- يستطيع ذلك. وهذه الوثيقة مرسلة من المطران يوسف غنيمة (البطريرك فيما بعد) بصفته نائباً بطريركياً عن البطريرك الكلداني في العراق يوسف عمانوئيل توما ، إلى سكرتير لجنة عصبة الأمم حول قضية الموصل، يطلب فيها عقد لقاء مع يوسف عمانوئيل الثاني بطريرك الكلدان في العراق، وفقاً لليوم والوقت الذي تحدده اللجنة بما يناسبها. ومن المؤكد إن موضوع اللقاء هو قضية عائدية الموصل للعراق ورأي العراقيين الكلدان في ذلك.

ترجمة الرسالة

بطريركية بابل الكلدانية

                                                                                                                                                          الموصل في 28 كانون الثاني/ يناير 1925

السيد الأمين العام

   إن غبطة المونسنيور يوسف عمانوئيل توما، بطريرك بابل على الكلدان، حريص على إجراء مقابلة مع اللجنة الموقرة لعصبة الأمم، وقد أوعز لي أن أطلب منكم، يا سيادة الأمين العام، أن تكونوا على استعداد لتحديد اليوم والوقت المناسب لهذا الغرض.

     وشكراً لكم مقدما، سيدي الأمين العام، أرجو أن تقبلوا فائق تقديري.

يوسف غنيمة

النائب العام– بطريرك الكلدان

حيثيات الرسالة
لا يُشكِّل توجيه الرسالة بتوقيع النائب البطريركي أية مثلبَة أو خللا بروتوكولياً، كما لا يشكل طلب البطريركية من لجنة الموصل التابعة لعصبة الأمم بزيارة البطريرك وفق الموعد المناسب للجنة، إذا ما علمنا أن البطريرك يوسف عمانوئيل كان بعمر 73 عاماً آنذاك، وكانت فترة خدمته في منصب البطريركية من أقسى الفترات وأصعبها، لا سيّما وإنها شهدت مذابح للمسيحيين في تركيا، وحرباً كونية عظمى على الصعيد العالمي.

ولا تسعفنا وثائق العصبة ومحفوظاتها فيأرشيف الأمم المتحدة اليوم ما يفيد بتحقق ذلك اللقاء وتاريخه، ناهيك عما دار فيه من نقاش. ولكن من المؤكد أن ذلك اللقاء قد تحقق في شهر شباط 1925، وإن البطريرك المذكور قد نَقل وبما لا يقبل الشَك- إلى اللجنة بحضور نائبه غنيمة، رغبة طائفة الكلدان في ضَم الموصل إلى العراق. فالموصل تشكل بالنسبة للكلدانولعموم المسيحيين حتى في تركيا قلعة حصينة لهم، كما إن فيها المقر البطريركي لطائفة الكلدان، الذي لم ينقل إلاّ في عهد خلفه غنيمة نفسه بعد عام 1950، إضافة إلى مقار طوائف أخرىكالأثوريين الذين نقلوا مقرهم البطريركي إليها بعد عام 1921، وغلق مخيم بعقوبة للاجئين الأثوريين. وقد كان لواء الموصل مقصد جميع البعثات التبشيرية إلى العراق منذ القرن السابع عشر الميلادي.

وهذا الموقف ليس غريباً، فقد وقفه البطريرك ذاته ووجهاء طائفته عام 1919 في الإستفتاء الذي أجرته سلطات الاحتلال البريطاني آنذاك، لإستطلاع رأي سكان البلاد في شكل الحكم الذي يريدونه، والمتضمن إبداء الرأي في ثلاثة أسئلة، كانت اللجنة تقلبها كما تشاء، مراعاة لمصلحة بريطانيا العظمى، هي:

أولا. ولاية الموصل هل يمكن فكّها من العراق؟ أو، هل تميلون إلى أن يكون العراق مملكة واحدة من شمال الموصل إلى خليج فارس؟

ثانيا. هل تحبون أمير عربي تحت حماية بريطانيا؟ أو، هل من المناسب أن تكون هذه المملكة الجديدة تحت أسم إمارة أمير عربي؟

ثالثا. من هو يكون الأمير؟ أو، إذا أردتم ذلك فمن ترونه مناسباً لهذه الإمارة في مستقبل العراق؟

وقد أقر الكلدان الكاثوليك في الموصل برغبتهم في البقاء هم ومدينتهم طبعاً (الموصل) تحت ظِل بريطانيا دون تحديد الأمير العربي الذي يرغبون به.

ومازال هذا الإقرار محفوظ لدى الأمم المتحدة لتوقيع البطريرك الكلداني وعدد من وجهاء المسيحيين الكلدان في الموصل، تخت عنوان “إقرار نمرة 14 (1) الموصل” وبأسم (إقرارات من أفاضل الكلدان الكاثوليك بقسم الموصل) موجّه إلى (حضرة صاحب السعادة الحاكم السياسي البريطاني الكولونيل لچمن الأفخم)، ومضمونه كما يلي:

” نحن جماعة الكلدان الكاثوليك نقدم تشكراتنا لحكومة بريطانيه العظمى حتى نقدر نظير سائر الشعوب أن تعيش بالتقدم والنجاح والرفاهية داعيين على الدوام لجلالة الملك جورج الخامس بطول العمر السعيد

                  في 6 يناير 1919                                                        بطريرك الكلدان عمانوئيل

المؤيدون: بطرس إلياس بزوعي، ونمرود رسام، وسليمان بولص، ويوسف نعمان الحلها، وشڤاني داود، ويوسف تمو، وشابور رسام، ويعقوب يوسف لموزه، وإنطوان غنيمة، وفتح الله بزوعي، وإيليا رسام، ويعقوب شعيا، والشماس توما فتح التوم، وإنطوان رسام، وتوما رفق العون، وعبد الله يونان، ورؤف سليمان، وسمعان يوسف بنا، وفتح الله، وشماس يوسف حداد، وبطرس زيوني، وعبد الأحد منصور، وبطرس سمعان، وبطرس حنانيش، وفتح الله بن نعمان شماس البوه، وميخائيل قس عبد الكريم نعمان، وبطرس سحار، وعبد الحميد جزراوي، وداود سليمان غزاله، ورزق الله بطرس غزاله، وحنوش يعقوب غزالة، وموسى بن داود، وحبيب جرجس صالح، وعبد الله ميخائيل، وناصر بن جرجس، وبيشون بن سليمان، وطوبيا بن جرجس، ومجيد بن إسطيفان، وحنا بن جرجس، وصفو توزى، ويوسف مقدسي إلياس“.

ويلاحظ على هذا الإقرار، عدم الدقة في كتابة الأسماء، كما يلاحظ أيضا تكرار كلمة (بن) لتوكيد النسب، وهو أسلوب متَّبع عند العرب والمسلمين حتى وقت متأخر.

المخاطبة بالفرنسية إمتياز دبلوماسي

وجدير بالذكر، إن الكلدان الكاثوليك كانوا يستخدمون اللغة الفرنسية في مراسلاتهم الأجنبية كنوع من الإمتياز، نظراً لتفافتهم ودراستهم في المعاهد التي أنشأها الفرنسيون في الموصل، والتي تخرج منها معظم رجال الدين الكاثوليك، أو من إنضم إلى تلك المعاهد، وأشهرهم كان معهد يوحنا الحبيب للآباء الدومنيكان في الدواسة. وقد كانت اللغة الفرنسية آنذاك، لغة الدبلوماسية الدولية، وظلت مهيمنة على الحقل الدبلوماسي، حتى أزاحتها اللغة الإنكليزية بعد الحرب العالمية الأولى. وقد كانت اللغة الأكثر إستخداماً في عصبة الأمم، وما زالت معظم وثائق تلك الحقبة مكتوبة بالفرنسية، والأكثر من ذلك، إنها ما زالت اللغة الثانية في مقر الأمم المتحدة في جنيف، حتى يومنا هذا. في حين يندر إن تجد في الكادر الدبلوماسي العراقي شخصاً يقف على هذه اللغة، وهذه هي إحدى أسباب معاناتهم هناك.

وعلى غرار ذلك، فقد كان الأثوريون المنشقون عن سلطة البطريرك مار شمعون يلجأون غالباً إلى السلطات الفرنسية، ويستخدمون اللغة الفرنسية تبعاً لذلك، وهكذا وجدنا إن بعض مراسلات هؤلاء مكتوبة بالفرنسية، والبعض منهم إعتنق المذهب الكاثوليكي، أو أتُهم به من قبل إخوانه الذين إنشقعنهم. في حين بقي أتباع المعسكر البريطاني يستخدمون لغتهم الأصلية السريانية، كما رأينا في المقال السابق والمشار إليه في أعلاه، ثم إستبدلوها باللغة الإنكليزية حتى يومنا هذا، وحافظوا على مذهبهم أيضاً.

وأقرب تواجد للفرنسيين من العراق هو سلطات الإنتداب الفرنسي في سوريا في ذلك الوقت، وهذا ما أغرى بعض أتباع مار شمعون إلى عبور نهر الخابور عند خلافهم مع السلطات البريطانية، واللجوء إلى السلطات الفرنسية هناك في آب/أغسطس 1933، وكان ذلك سبباً في وقوع كارثة سميل الشهيرة.

الموصل رأس جسد العراق

ومهما يكن من أمر، ففي 31/ 10/ 1924 قرر مجلس العصبة تشكيل لجنة تقصي الحقائق وتم الإعلان عن أسماء أعضائها، وهم:

1. م. فرنسن، وزير مفوضية السويد في بوخارست. رئيساً
2. الكونت تليكي العالم الجغرافي ورئيس الوزراء السابق للمجر.
3. الكولونيل إي بولص، قائد متقاعد في الجيش البلجيكي.

وفي الـسابع عشر من تشرين الثاني من ذات العام عقدت اللجنة في جنيف أول اجتماع لها وقُرر زيارة الأطراف الثلاثة للمشكلة (بريطانيا، أنقرة، بغداد) لاستطلاع آرائهم حول مشكلة الولاية ومصيرها. وبعد زيارة الأطراف الثلاثة، توصلت اللجنة إلى اعتقاد مفاده إن اللجنة عليها الدخول إلى المنطقة للتعرف على المشكلة عن قرب وميدانياً. وقد وصلت اللجنة بغداد في مساء الجمعة 16 كانون الثاني 1925 فكانت موضع رعاية العراقيين حكومةً وشعباً، ونزل ستة من أعضائها في دار الإعتماد البريطاني، ونزل الباقون في فنادق العاصمة”. وفي 27 من كانون الثاني عام 1925وصل أعضاء اللجنة إلى ولاية الموصل، وإتخذت من قصر الشربتي في المدينة مقراً لها، وبدأت اللجنة باستطلاع أراء سكان المنطقة ورغباتهم، وتفضيلهم البقاء مع أي دولة، وتحت ظِل أي حكم، التركي أو العراقي؟ وقد كانت رغبة غالبية السكان، وفي مقدمتهم مسيحيّو العراق وبقية الأقليات بالبقاء ضمن الدولة العراقية، نظراً للفظائع التي إرتكبتها تركيا بحقهم، والطلبات المقدمة للجنة المذكورة تفيض بمعاناتهم الكبيرة. وفي 21 آذار 1925، غادرت اللجنة العراق، ثم قدمت تقريرها إلى عصبة الأمم في 16 تموز 1925، والذي جاء في (113) صفحة من القطع الكبير مع إحدى عشرة خارطة.

وقد إتخذ مجلس عصبة الأمم قراره الشهير في الاجتماع الذي عقده بتاريخ 16 كانون الأول 1925 بعائدية الموصل للعراق، مشترطاً ثلاثة شروط، وهي:

1- عقد إتفاقية عراقية-تركية لتحديد الحدود بينهما وفقاً لخط بروكسل المشار إليه بقرار المجلس في 29 تشرين الأول 1924.
2- عرض إتفاقية جديدة بين بريطانيا والعراق لمدة 25 سنة، لضمان مساعدتها لإدارة العراق كدولة منتَدبة، ما لم يقبل العراق عضواً في عصبة الأمم قبل ذلك.
3- دعوة الحكومة البريطانية إلى أن تعرض على المجلس التدابير التي ستتخذها من أجل أن تؤمن للأكراد في العراق التعهدات المتعلقة بالإدارة المحلية التي أوصت بها اللجنة في إجتماعهاالأخير.

” وقد لاحظت لجنة التحقيق في الدرجة الأولى مستقبل المنطقة الشمالية، وحصرت نظرها في ترجيح الأسباب التي تضمن لهذه المنطقة في المستقبل الرقي والسعادة، وعلى هذا المبدأ بَنت حكمها الأصلي، وخلاصته:

إن سعادة هذه المنطقة أكثر إرتباطاً بالعراق منها بتركية، على شرط أن تساعد بريطانية العراق مدة ربع قرن. أما إذا حُرم العراق من هذه المساعدة، فالأضمن لمستقبل المنطقة الشمالية أن تبقى تحت السيادة التركية. كان حظ الترك بالنجاح كبيراً في بادئ الأمر، إن لم يكن في كامل القضية، ففي قسم مهم منها، لأن أعضاء مجلس عصبة الأمم كانوا حذرين من أن يظهروا بمظهر المتحامل على أمة شرقية، صيانة لأسم الجمعية ونفوذها، وهي في أول عهدها، وحريصين كل الحرص على إيجاد حل وسط يُرضي الطرفين الفريقين.

وجاء في المذكرة التي رفعها عبد المحسن السعدون رئيس وزراء العراق آنذاك عن الأسباب الموجبة لعقد المعاهدة البريطانية-العراقية عام 1926 تنفيذاً لتوصية لجنة عصبة الأمم حول الموصل ومواقف الدول منها، ما يلي:

” شعَر الشعب العراقي منذ إنفراده عن حكم الترك، بما لحدوده الشمالية من تأثير عليه، وتيقّن بأن العراق إذا –لا سمح الله– حُرم من الموصل لا يستطيع أن يكون وحدة تكفل له حريته وإستقلاله، لذلك كان لا يخطو في السنين الأخيرة إلا وكان يتساءل عما سيكون من أمر الموصل، هذا لإنه يعلم -حق العلم- إن مقام الموصل من مجموع العراق، مقام الرأس من البدن“.

لقد علم ممثلو الأمة في المجلس التأسيسي أن لا كيان للعراق بدون الموصل، ولا فائدة ترجى من قانون يُسن، ومعاهدة تبرم، ما دامت البلاد غير أمينة من حدودها الطبيعية. ومحتفظة بأجزائها الضرورية لسلامتها ومنعتها. لذلك أضافوا القيد المعلوم إلى تصديق المعاهدة، ودلوا به على ما للموصل من الأهمية في نفس الشعب.

وكانوا مترددين أمام إقتحام المسؤولية؛ وإعطاء حكم نهائي في قضية قد ينجم عنها ما لا يتفق مع أغراض الجمعية السلمية، ولذلك لم يدّخروا وسعاً في الوصول إلى تسوية مُرضية، بقدر الإمكان، وفي كل الأحوال كان من المتعذر -إن لم يكن من المستحيل- الوصول مع تلك الفكرة السائدة إلى قرار مقرون بإجماع الآراء، ولم يكن بعيداً عن الإحتمال إرجاء القضية إلى أجل آخر لولا أن ساعد الأتراك أنفسهم على حلها بما أظهروه من تعنت، وتعند، وما إرتكبوه في الأيام الأخيرة من فضائع ضد السكان: من مسيحيين، ومسلمين، على الحدود، أثبتها الجنرال ليدونر في تقريره الذي قدّمه إلى مجلس العصبة، وأيده بإختباراته، ومشاهداته الشخصية، فقنط أعضاء المجلس من موقف الأتراك وأعمالهم، وساقهم ذلك إلى أن قرروا بالإجماع جعل خط بروكسل حداً فاصلاً بين العراق وتركية، ولكنهم في نفس الوقت قيدوا قرارهم بالشروط الثلاثة المعلومة.”

وهكذا يرى رئيس وزراء العراق إن تعنت الأتراك وعنادهم، وما إرتكبوه في الأيام الأخيرة من فضائع ضد السكان: من مسيحيين، ومسلمين، كانت السبب الذي ساق اللجنة إلى إقرار عائدية الموصل للعراق، واعتبار خط بروكسل هو خط الحدود الفاصل بين البلدين. والأكثر من ذلك، فقد قَدّم الفظائعالتي حلَت بالمسيحيين على تلك التي حَلّت بالمسلمين، لأن الأولى أكثر وأقسى وأبشع.

وكان الملك فيصل الأول يرغب في دمج ولاية الموصل بالعراق لتحيق التوازن المذهبي بين السُنّة والشيعة في العراق، حيث أراد فيصل الأول دمج ولاية الموصل بالعراق، نظراً لغالبية السكان السنية، وأعتقد أنه بحاجة لها لتحقيق التوازن مع السكان الشيعة.

وفي البحث الذي كتبه القانوني المعروف الفقيه الأميركي كوينسي رايت عام 1926 عن نزاع الموصل في المجلة الأمريكية للقانون الدولي، خَلص إلى ما يلي:

” إن قرار (العصبة) من الناحية الواقعية قد قام أساساً على مبادئ الجنسية وتقرير المصير اللذان حظيا بشعبية متزايدة كمبادئ للتسوية السياسية خلال القرن التاسع عشر، وخاصة منذ الحرب العالمية. ويبدو إن الأتراك قد أدركوا أولوية هذه المبادئ في مطالبتهم بالإستفتاء، لكن البريطانيين قالوا إن الإستفتاء سيكون غير عملي نظراً للظروف الاجتماعية والتعليمية للسكان، وسوف لن يضيف شيئاً للمعلومات المتاحة سلفاً لهويتهم الوطنية ورغباتهم.

ما هي نتائج اللقاء بين بطريرك الكلدان واللجنة الأممية

لا تسعفنا وثائق الأمم المتحدة بتفاصيل اللقاء بين البطريرك الكلداني واللجنة الأممية، ولكن من المؤكد إن لقاءً كهذا قد تحقق لعدة أسباب، منها:

إن الكلدان الكاثوليك يشكلون أكبر طائفة مسيحية في العراق.
إن مقر الطائفة هو مدينة الموصل موضوع النزاع، وبالتالي فإن أخذ رأي البطريرك أمر له أهميته، ويعني الكثير للجنة الأممية في هذا المجال.
إن البطريرك الكلداني يعاني من الكبر، لذا فالإنتقال إليه أمر له ما يبرره.

ويبقى السؤال، ما هو موقف بطريرك الكلدان من قضية الموصل؟

من البديهي، أن البطريرك يرغب في التخلص من الحكم الديني الإسلامي للدولة العثمانية، لتعارضه معه من حيث إختلاف الدين. كما إن البطريرك يرغب ببقاء العراق تحت الحكم البريطاني نظراً للتقارب الديني، كما سبق للبطريرك إن عبَّر عن ذلك الموقف في الإستفتاء الذي أجرته بريطانيا من خلال مندوبها السامي أرنولد ويلسن عام 1918، برسالته المؤرخة في 6 كانون الثاني/يناير 1919 والموجهة إلى الحاكم السياسي البريطاني في الموصل الكولونيل لچمن، السالفة الذكر.

وأخيراً، فإن موقف البطريرك كان بالتأكيد مع ضم الموصل للعراق، لإنها الحصن الأخير لمسيحيي العراق عموما، والكلدان خصوصا منذ أكثر من سبعة قرون، وهي مدينة التعايش الإسلامي-المسيحي طيلة هذه الفترة، وبقيت كذلك رغم تقلبات الزمن، حتى حزيران عام 2014 عندما سقطت الموصل بيد تنظيم دولة الخلافة الإسلامية (داعش) فأكره المسيحيون على مغادرتها.

وقد أخذت اللجنة بنظر الإعتبار وجهة النظر تلك، خاصة وإن الكلدان كانوا من السباقين لإكتسابالجنسية العراقية، ووقوفهم مع دولة العراق الحديث، إلى جانب حكومة الملك فيصل الأول، مما حدا بالملك إلى تسمية البطريرك يوسف عمانوئيل عيناً في مجلس الأعيان الملكي الأول بإرادة ملكية صدرت بتاريخ 25 تموز 1925 من بين 20 عينا في العراق. كما إن نائب البطريرك المذكور يوسف غنيمة (البطريرك لاحقاً) أصبح عضوا في مجلس الأعيان العراقي منذ العام 1951 وحتى سقوط الملكية في العراق بقيام الجمهورية في تموز 1958.

https://drive.google.com/open?id=1b-WMrMzRucuMipnkiuB3zVnmNH-UjnvI

د. رياض السندي

كاليفورنيا في 28 أيلول/سبتمبر 2109

2