23 ديسمبر، 2024 9:35 ص

وثيقة حماس الجديدة.. مغادرة الديني والعجز عن تمثل الوطني

وثيقة حماس الجديدة.. مغادرة الديني والعجز عن تمثل الوطني

الضغوطات الإقليمية والدولية ساهمت بشكل كبير في إصدار وثيقة حماس لعام 2017 والتي ستكون مقدمة حقيقية لإقرار الحركة بمبدأ اقتسام الأرض.

مفتاح فهم التغيرات السياسية والاستراتيجية للفصائل الفلسطينية ولا سيما منها حركتا فتح وحماس يكون بالعودة إلى 1988، العام الذي عرف إعلان حركة التحرير الفلسطينية فتح شطب بند تدمير إسرائيل من ميثاقها الأساسي وإقامة دولة فلسطين الهلامية وهو ذاته العام الذي أصدرت خلاله حركة المقاومة الإسلامية، حماس، ميثاقها التأسيسي بالسعي إلى إزالة إسرائيل باعتبارها كيانا صهيونيا غاصبا.

اليوم، وبعد ثلاثين سنة، تُصدر حركة حماس وثيقتها السياسية الجديدة والتي تتضمن شطبا تاما لمبدأ إزالة الكيان الصهيوني من على الخارطة، وتحتوي على نصف اعتراف ناعم بإسرائيل عبر قبولها بدولة فلسطينية على حدود 1967.

يحيلنا تحليل الخطاب السياسي إلى براديغمات علمية دقيقة تؤكد أنّ غياب بعض المصطلحات والمفاهيم المركزية قد يكون أكثر قدرة على التفسير والإحالة من حضور المدونة الخطابية، ذلك أن فسخ البند المتعلق بإزالة إسرائيل وتدميرها يؤكد أن المسار السياسي الذي تتوجه إليه حركة حماس بعيد كل البعد عن سياقات المواجهة والمنازلة والمقاومة مع تل أبيب، وأنّها باتت اليوم أقرب ما يكون إلى صقور فتح منها إلى حمائم حماس.

حركة حماس تؤسس للبديل السياسي والتاريخي ولا تنسج سرديات فكرية وثقافية قادرة على الاستنبات في التمثل الوطني الفلسطيني والعربي ككلّ

وكما أحالت وثيقة “النقاط العشر” لمنظمة التحرير الفلسطينية في 1974 والتي نصت على إعلان الدولة الفلسطينية فوق أي شبر من أرض فلسطين التاريخية، إلى فكرة الاجتزاء الجغرافي وإلى ضرب الثنائية الرمزية والميثاقية بين الأرض والدولة، فإنّ وثيقة حماس لعام 2017، ستكون مقدّمة حقيقية لإقرار حركة حماس بمبدأ اقتسام الأرض وبحلّ الدولتين.

ولعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا إنّ الضغوطات الإقليمية والدولية ساهمت بشكل كبير في إصدار هذه الوثيقة، ذلك أنّ المزاج الدولي المحارب للإخوان المسلمين لا سيما مع صعود دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأميركية، وتمكّن اليمين المتطرّف من أكثر من عاصمة أوروبية ومنافسته الشديدة للاستيلاء على دفة السلطة في الإيليزيه.

إضافة إلى الوضعية الحرجة التي تعيشها اليوم تركيا من حيث أزمة الحكم والحاكم والمحكومين، مع الضغط الإقليمي والدولي المسلّط على الدوحة، كلها تجمعت لتكون بمثابة الإرهاصات المنطقيّة لتزحزح حماس عن منطق المجابهة ومنطوق الرفض ونطاق التناقض الاستراتيجي للكيان الصهيوني.

المفارقة أنّ حركة حماس التي أعلنت تبرؤها اليوم بعد مراجعة عميقة من اعتبار الصراع مع الكيان الصهيوني صراعا دينيا، وهو كذلك لعدة اعتبارات لا مجال هنا لسردها، لا تؤسس للبديل السياسي والتاريخي ولا تنسج سرديات فكرية وثقافية قادرة على الاستنبات في التمثل الوطني الفلسطيني والعربي ككلّ.

وهنا بالضبط تكمن المعضلة، إذ أنّ حركة حماس التي كثيرا ما دبجت خطابها بالتكثيف الديني واللاهوتي لمعاني الصراع مع اليهود، والتي استثمرت قراءة معينة للنص الإسلامي لتوظيفها كرصيد معنوي وأخلاقي للنزاع مع الكيان الصهيوني، تنسلخ اليوم في الوثيقة الجديدة من هذه المقاربة الدينية من دون أن تصنع البديل الوطنيّ الحقيقي وأن تبني الأسس الجديدة لصناعة الوعي التناقضي مع تل أبيب.

على العكس تماما، فحماس التي تخرج من جلباب أسلمة الصراع مع اليهود، تأتي بمدونة سياسية ناعمة عاجزة عن التأسيس للصراع الطويل والاستراتيجي مع إسرائيل الأمر الذي يفضي في المحصلة إلى نتيجتين تصبان بالضرورة في سلة تل أبيب والغرب معا.

النتيجة الأولى أنّ حماس تتحوّل من حركة هدفها تحرير فلسطين عبر المقاومة المسلحة والعمل السياسي (وفق ما هو معلن على الأقل) إلى حركة تهدف إلى مأسسة سلطتها على غزة عبر شعارات المقاومة وتحرير فلسطين. وهكذا تستبدل الأدوار بين الأهداف والأدوات.

حركة حماس تنسلخ من المقاربة الدينية لمعاني الصراع مع إسرائيل من دون أن تصنع البديل الوطني الحقيقي

النتيجة الثانية أنّ حماس لم تستجلب أيّ أيديولوجيا قومية أو وطنية ترفض الاعتراف بإسرائيل، مما يعني أنّ الحركة تخلصت من كافة مقولات الرفض لإسرائيل.

وهي بهذا تقترب كثيرا من مقولة “أردغنة وقطرنة” حماس، أي إسقاط تمثّل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وقطر للصراع مع إسرائيل، من حيث أنّ الطرفين يختلفان مع الكيان الصهيوني سياسيا وأخلاقيا وقانونيا، ولكنهما في المقابل يقبلان بتل أبيب ويؤيدان حقها المزعوم في العيش والأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط. وثيقة حماس هي الوثيقة الأخطر في تاريخ الحركة، هي وثيقة تحويل مقارعة إسرائيل من فضاء الصراع الميثاقي إلى النزاع الحدودي، وهي أيضا المدونة الأولى من مسار القبول بإسرائيل عبر ضرب الثنائية الحتمية بين الدولة الفلسطينية والجغرافيا التاريخية.

المفارقة أنّ إسرائيل التي تستقبل تنازلات حماس بالكثير من الخبث والدهاء، كما استقبلت في وقت سابق تنازلات أنور السادات وياسر عرفات بالبرود السياسي والتفاوضي والاستعجال غير المباشر لضرب الوحدة العربية والفلسطينية، تتمسّك أكثر بيهودية الدولة ويهودية الصراع وتتشبث بصهيونية إسرائيل.

وفي الوقت الذي يتراجع فيه الكثيرون إلى الخلف ويسقطون الشرط وراء الآخر، ترفع تل أبيب سقف الشروط والإملاءات والابتزازات، ولا ترضخ إلا لمن يقاوم بطول النفس ومعركة الأمعاء الخاوية خير دليل.

في وقت ليس ببعيد أكّد وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو أنّ أنقرة سلطت ضغوطا كبيرة على حماس للاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف. سكتت الحركة وعمّ صمت القبور مرحلة معينة قبل أن تأتي وثيقة الحركة لتؤكد الانخراط الناعم لحماس في مسار أردوغان وقطر.

نقلا عن العرب