18 ديسمبر، 2024 8:34 م

وثيقة أثورية إلى لجنة الموصل 1925

وثيقة أثورية إلى لجنة الموصل 1925

نبذة تاريخية
نزلت القوات البريطانية ميناء البصرة في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1914، بداية الحرب العالمية الثانية التي أعلنت في 28 حزيران/يونيو 1914، وبعد أقل من شهر من إنضمام الدول العثمانية إلى جانب ألمانيا في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1914. ومذاك اليوم، أصبح وادي الرافدين ساحة حرب دولية لصراع الدول العظمى. وإستمرت القوات البريطانية بالتقدم نحو ولاية بغداد فإحتلتها في 11 آذار 1917 بعد عدة معارك مع القوات العثمانية ودخلت باب المعظم في الرابعة مساءً، وأصدر قائد القوات البريطانية الجنرال مود بيانه الشهير في إن قواته جاءت لتحريرهم لا لإحتلالهم. وتقدمت القوات البريطانية شمالا فإحتلت كفري ووصلت إلى مشارف كركوك في آب/أغسطس 1918، وتوقفت عند هذا الحد. وأعلنت الهدنة ونهاية الحرب الكونية كما سميت آنذاك مع قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث وقّعت الدولة العثمانية المهزومة مع البريطانيين معاهدة مودروس في 30 تشرين الأول/أكتوبر 1918. هذه الهدنة دعت إلى وقف جميع الأعمال الحربية بين البريطانيين والعثمانيين. بعد ثلاثة أيام، في 2 تشرين الثاني، قام السير وليام مارشال، وهو جنرال بريطاني، بغزو ولاية الموصل حتى 15 نوفمبر 1918 عندما نجح أخيراً في هزيمة القوات العثمانية وأجبرهم على الإستسلام. وفي ذات اليوم 15/11/1918 غادر القائد التركي علي إحسان باشا مدينة الموصل تاركاً وراءه وكيلاً لإدارة الشؤون المدنية الذي ما لبث أن غادر هذا الوكيل نهائياً المدينة، وكان هذا آخر تواجد عثماني في الموصل التي تركوها إلى غير رجعة. لذا فإن إحتلال الموصل جاء بعد إنتهاء الحرب بأسبوعين، حيث إستغلت بريطانيا ضعف الدولة العثمانية وإنكسارها.
ومنذ ذلك التاريخ نشبت مشكلة عائدية الموصل؟ هل لتركيا أم للعراق؟ فظهرت قضية دولية سميت “قضية الموصل” Mosul Question. وهي أزمة دبلوماسية نشبت بين المملكة العراقية وجمهورية تركيا بعد الحرب العالمية الأولى حول مصير ولاية الموصل.
كانت ولاية الموصل جزءاً من الدولة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما احتلت من قبل بريطانيا. وكانت ولاية الموصل تشمل (السليمانية، أربيل، الموصل، كركوك، شهرزور، شاربازير، خانقين). وبعد حرب الاستقلال التركية، إعتبرت تركيا الجديدة الموصل واحدة من القضايا الحاسمة المحددة في الميثاق الوطني. وعلى الرغم من المقاومة المستمرة، تمكنت بريطانيا من طرح هذه القضية في الساحة الدولية، وتوسيع نطاق ذلك وصولاً إلى جعلها مشكلة حدود بين تركيا والعراق.

كان على العراق قبل أن يتقدم لعضوية عصبة الأمم أن تكون له حدود واضحة المعالم مع الدول المجاورة. لذا بدأ يعقد إتفاقيات الحدود مع الدول التي تجاوره، وكانت المشكلة تكمن في حدوده مع الدولة العثمانية التي إنفصل عنها. وكان البريطانيون يقومون بهذه المهمة نيابة عن العراق بإعتبارها دولة الإنتداب.
وفي 24 تموز 1923 تم التوقيع على إتفاقية لوزان والتي حددت ما يعرف ب (خط بروكسل) كخطٍ فاصل بين حدود العراق وتركيا. ونصت المادة الثالثة من الإتفاقية، على ما يلي:
“ترسم الحدود بين تركيا والعراق بشكل ودي يتم إبرامه بين تركيا وبريطانيا العظمى في غضون تسعة أشهر.
وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق بين الحكومتين في غضون الوقت المذكور، يحال النزاع إلى مجلس عصبة الأمم.
تتعهد الحكومتان التركية والبريطانية على نحو متبادل بأنه ريثما يتم التوصل إلى قرار بشأن موضوع الحدود، لن يتم القيام بأي حركة عسكرية أو أي حركة أخرى يمكن أن تعدل بأي شكل من الأشكال الحالة الراهنة للأقاليم التي مصيرها النهائي. سوف تعتمد على هذا القرار.”
لم يتم التوصل إلى إتفاق ودِّي بين بريطانيا وتركيا لذا أحيل هذا النزاع الحدودي إلى عصبة الأمم التي قررت تشطيل لجنة لدراسة الموضوع وتقديم توصياتها بهذا الشأن، سميت ب “لجنة الموصل”. لم تكن تركيا عضواً في عصبة الأمم آنذاك، وكانت بريطانيا أحد الأعضاء البارزين والمقررين في العصبة بغياب الاتحاد السوڤييتي والولايات المتحدة. وفِي 30 أيلول 1924 قررت العصبة تعيين لجنة دولية مؤلفة من ثلاثة خبراء مجري وسويدي وبلجيكي لدراسة المشكلة من جميع وجوهها وتقديم توصيات في هذا الصدد.
وصلت اللجنة بغداد في كانون الأول 1925 وبعد اتصالات دامت أكثر من شهرين عادت بتقرير مفصل أهم ما فيه:
1. خط الحدود المقترح من قبل بريطانيا بين العراق وتركيا والمعروف بخط بروكسل هو خط مناسب.
2. سكان المنطقة هم من الأكراد والعرب على مختلف طوائفهم.
3. كانت المنطقة تحت الحكم التركي عدة قرون ولكنها كانت تحكم منذ أمد بعيد من قبل باشوات بغداد.
4. الاعتبارات الاقتصادية تدعو لضم المنطقة للعراق.
5. سياسياً، إن المنطقة تركية إلى أن تتنازل عنها، وأكد هذا البند أنّ العراق لا يستطيع أن يتطور وينمو نمواً طبيعياً إِلَّا بضم ولاية الموصل، وأوصت اللجنة بعدم تقسيم المنطقة بين الطرفين بل أوصت بضمها إلى العراق بشرطين:
1. أن يبقى العراق تحت الانتداب البريطاني لمدة 25 سنة.
2. أن تُراعى مصالح الأكراد في الشؤون الإدارية.
عيّن مجلس عصبة الأمم لجنة تحقيق والتي أوصت بأن تعود ملكية الموصل إلى العراق، فأُجبرت تركيا على قبول القرار على مضض من خلال التوقيع على معاهدة الحدود مع الحكومة العراقية في عام 1926. قام العراق بمنح إتاوة 10 في المئة من الودائع النفطية في الموصل إلى تركيا لمدة 25 عاماً. وقد تنازلت تركيا عن ذلك البند لاحقاً مقابل استلام مبلغ 500,000 جنيه إسترليني ذهب، دفعة واحدة.

موقف العراقيين من الإستفتاء على الموصل
أدارت بريطانيا بمساعدة حكومة العراق العربية الفتية منذ عام 1921 قضية الموصل بدبلوماسية فائقة، وساعدها كثيراً أهل الولاية من مختلف الطوائف وفي مقدمتهم المسيحيين الذين عانوا كثيرا من قساوة العثمانيين وإنتقامهم خلال الحرب العالمية الأولى الأربع، والتي عرفت ب “مذابح سيفو” نسبة إلى إستخدام السيف في قتل الضحايا. وطلب ملك العراق فيصل الأول إستقبال لجنة الموصل التابعة لعصبة الأمم بما يليق بها من إحترام، وإبداء أرائهم في ضم ولاية الموصل لدولة العراق الحديث في زيارته التاريخية لمدينة الموصل عام 1924. “وتضامناً مع الحركة الوطنية، فقد أكد الملك فيصل على عروبة الموصل أثناء زيارته لها، إذ القى خطاباً، أعلن فيه إن ولاية الموصل جزء لا يتجزأ من العراق، ولن تستطيع حكومة بغداد أن تعيش يوماً واحداً بدونها، وأكد أن لمشكلة الموصل علاقة بالسلام في الشرق كله، وأعرب عن اعتقاده بطمع الأتراك بنفط الولاية ومعادنها، ورجا أن يكافح سكان الموصل لاستقلال العراق التام ومن ضمنه الموصل.”
في 30 أيلول 1924 قررت عصبة الأمم، تأليف لجنة دولية لبحث مسألة الموصل، وعلى هذه اللجنة أن تقدم الى مجلس العصبة كل المعلومات والاقتراحات الخاصة بقضية الموصل والتي تساعد المجلس على إصدار قراره. وقد وصلت اللجنة الى الموصل في 27 كانون الثاني 1925 وبدأت أعمالها على نطاق واسع. وإتخذت من قصر الشربتي في المدينة مقراً لها.
‏من الطبيعي أن يحدث انقسام بين أهالي ولاية الموصل عند قدوم اللجنة (لجنة تقصي الحقائق) بسبب اختلاف السكان وأوضاعهم الاجتماعية. فمنهم من كان يريد الرجوع إلى الحكم التركي بدافع الدين الإسلامي ورفض حكم الإنكليز غير المسلمين. أما الأقليات (المسيحية واليهودية) فكانت تصِّر على عدم العودة للحكم التركي الديني.
فسَارع المسيحيون من الأثوريين والكلدان والسريان والأرمن إلى كتابات عرائض تفيض بعذاباتهم من تصرفات العثمانيين وإنتهاكاتهم لحقوقهم، فحسموا أمرهم في البقاء تحت سلطة بريطانيا بإعتبارها دولة مسيحية. “وقد اجتمع رؤساء الدين من مسلمين ومسيحيين ويهود فقابلوا أعضاء اللجنة وكلفوا القس (المطران فيما بعد) يوسف غنيمة بأعداد كلمة للمناسبة بالعربية والفرنسية، فلبّى طلبهم وجاء في نص الخطاب:
يتشرف رجال الدين من مسلمين ومسيحيين وموسويين أن يرحبوا بقدومكم الميمون إلى حاضرتنا يا رجال لجنة العصبة الأممية الكرام، وان يبرزوا لكم أخص عواطف احترامهم الصميمي.
بديهي أن إيفادكم من عصبة الأمم مطمح أنظار العالم وناشرة ألوية العدل والقائمة بكشف ظلامة الإنسانية فهو دليل واضح عما لكم لديها من المنزلة الرفيعة والثقة التامة، وهذا ما يشدد عزائمنا ويوطد أركان آمالنا ويوطن أنفسنا على أن قضيتنا العادلة والحيوية معاً قد عنى بأمرها إلى أبناء جلدتها وقد أعطى السهام باريها. نحن أيها السادة الفِخام بصفتنا من رجال الدين في مدينة الموصل ومجاوراتها واقفون وقوفاً تاماً على روحية قاطني الحدباء وعلى حقيقة مشاعرهم وعواطفهم الثابتة.
إن أهالي الموصل أيها الكرام لا يبتغون إلا أمراً واحداً هو في غاية الأهمية وهو محط آمالهم الوحيد وضالتهم المنشودة وما ذلك الأمر الوحيد إلا الحياة. والحياة من لا يبتغيها ناشدتكم الله؟ أفتعجبون أيها الكرام إذا ما طالبكم اليوم الموصليون بلساننا بالحياة وما الحياة في كل اتساع معانيها سوى حق طبيعي لكل امرئٍ به وبه وحده يقر عيناً وينعم بالاً؟ اجل إن أهالي الحدباء ينشدون الحياة، حياة حرة لا تشوبها شائبة، حياة لا تمس فيها حرمة الأديان ولا كرامة العوائد وقومية الأخلاق. وصفوة القول إنهم يبتغون أن يعيشوا تحت ظل لواء قوميتهم العربية في ظل دائرة استقلالهم القومي.”
أما العرب فقد كان سُنّة الموصل قوميون حد النخاع، وأرادوا ضم الموصل للعراق تخلصاً من العنصرية الطورانية التركية، والإنضمام لدولة عربية يرأسها ملك عربي.
في حين إلتزم الأكراد الذين كانوا يسكنون مناطق شمال وشرق الموصل بالصمت، فقد كانوا يسعون لإقامة دولتهم الكردية، ولم تكن علاقتهم مع سلطات الإحتلال البريطاني قد تحسنت بعد، فالمجتمع الكردي مجتمع متدين، وكانت تربطه بالعثمانيين صلة الدين والولاء لأولي الأمر من المسلمين. وكانت الحركات القومية تثور بين آونة وأخرى، مثل ثورة الشيخ محمود الحفيد عام 1919، كما قتلوا عدد من المندوبين البريطانيين لديهم، ولكنهم أثروا الصمت وتفضيل البريطانيين على الأتراك، أملا في تحقيق بريطانيا لوعودها لهم بإقامة دولتهم الخاصة، ولم يشعروا بأنهم جزء من دولة يحكمها العرب إسمها العراق حتى يومنا هذا. وبدا موقفهم هذا بمثابة قبول ضمني لضم الموصل إلى العراق. لذا فقد كتب اللجنة في تقريرها قائلة: “لقد وجدنا بين الأكراد وعياً قومياً متنامياً، وهو بلا ريب قومي كردي وليس عربياً، وهو شعور متزايد بقوه كلما اتجهنا جنوباً ويتناقص شمالاً ويتلاشى في سهل ولاية الموصل وجبال (عقرة / آكري)”. وهكذا اعتقد المجلس (عصبة الأمم) أن الأكراد ككل لم يحركهم التضامن القومي. أما إذا أخذت المسألة الاقتصادية بنظر الإعتبار، فيمكن أن تكون ولاية الموصل ضمن حدود الدولة العراقية. ولكن في هذا الوقت وقعت حادثتان في تركيا قوضتا، وعل نحو خطير، المعسكر الموالي للأتراك في ولاية الموصل. ففي آذار/مارس 1924 ألغت أنقرة الخلافة العثمانية (الإسلامية) متنكرة لآخر حلقة مهمة بين المواطنين المسلمين السابقين للإمبراطورية العثمانية وتركيا. وفي كردستان تركيا أندلعت ثورة الشيخ سعيد بيران، وفي الوقت نفسه الذي كانت فيه اللجنة تقوم بتحرياتها تم قمع هذه الإنتفاضة الكردية، وقام الأتراك بتهجير قرى كردية بأكملها عنوة من مناطقها الأصلية الكردية.
ومن البديهي أن يقف يهود العراق والموصل خاصة إلى جانب الإقتراح البريطاني والعربي تخلصاً من تمييز الأتراك لهم على أساس ديني. وتفضيلا للإنتداب البريطاني على العراق، إسوة بالمسيحيين.
أما شيعة العراق فقد عارضوا الإحتلال البريطاني في البداية وأشعلوا ثورة العشرين عام 1920 المعروفة، إمتثالا للإجتهاد الديني بوجوب نصرة المسلمين الأتراك ضد البريطانيين الكفار، إلا إنهم رضخوا في النهاية لحكم ملك عربي، وقبلوا بدولتهم الجديدة بحكم الواقع.
وبقي أخيراً من أكثر المعارضين لضم الموصل لدولة العراق وسلخها من تركيا هم أتراك العراق الذين تجمعهم وشائج قوية بالأتراك على أساس العنصر واللغة والدين والتاريخ والمصالح المشتركة، ولكن قلتهم وضعف نصيرهم العثماني جعلهم في موقف غير مؤثر ولا يؤخذ بالحسبان.
والخلاصة، “ففي استفتاء 1921 تبين أن غالبية العرب في الموصل، التي يقطنها أيضاً الأتراك والكرد والأثوريون النساطرة وطوائف مسيحية أخرى، فضلاً عن الايزيديين واليهود، كانت ترغب في ضم الموصل إلى العراق. ووقف الموقف نفسه الإيزيديون واليهود والمسيحيون والأكراد (عدا سكان تلعفر). وبناء على ذلك رأت لجنة التحقيق أن من الملائم ضم ولاية الموصل إلى حكومة الملك فيصل، ورفعت رأيها ذلك إلى مجلس عصبة الأمم الذي أحال التوصية إلى محكمة العدل الدولية لإبداء الرأي في 23/9/1925. وفي 21/11/1925 اجتمعت محكمة العدل الدولية وقررت منح الموصل للعراق. وفي 16/12/1925 أقر مجلس عصبة الأمم اعتبار الموصل جزءاً من العراق. واضطرت تركيا إلى الموافقة على الضم في 7/6/1926 لقاء حصة من النفط”.

الدور المسيحي في تقرير ولاية الموصل
كان الكلدان وهم جماعة إنشقت عن الكنيسة الشرقية (الأثورية) قبل نحو خمسة قرون، بسبب الخلاف على مبدأ الوراثة البطريركي، قد إعتنقت المذهب الكاثوليكي وتبعت روما، تتصرف بعقلانية أوربية، لذا كانت أكثر ميلاً لحكومة عربية تحت سلطة دولة مسيحية عظمى هي بريطانيا، وقد أبرق رؤساء الطوائف المسيحية إلى قداسة البابا وكرادلة لندن وبروكسل وفينا وبودابست يحتجون على مطالب الأتراك اللاشعبية ويستنجدون بهم لدى عصبة الأمم لصيانة ولاية الموصل لأن الموصل هي الملجأ الوحيد لعشرات الآلاف من مهاجري مسيحيي العالم الشرقي. (صحيفة العالم العربي في 3 شباط 1925م).
وذكرت جريدة العراق؛ التي يُصدرها صحفي مسيحي؛ أن اللجنة افترت على النصارى واليهود بقولهم إنهم يفضلون الحكم التركي على الحكم العراقي من دون الانتداب، وأكدت أن نصارى العراق كلهم بقلب واحد يفضلون البقاء مع إخوانهم المسلمين العرب مهما كان مصيرهم ويفضلون أن يموتوا بين إخوانهم المسلمين العراقيين ومع العرب وبيدهم؛ عن أن يعودوا الى براثن النمر التركي الضاري الذي لا يروى دم جشعه. وأكد ساسون حسقيل وزير المالية العراقية وهو يهودي أن الموصل عربية وأن نواب ولاية الموصل وأعيانها يرغبون في البقاء في العراق. وقد أرسل رؤساء المسيحيين واليهود برقيات إلى الملك فيصل وإلى المندوب السامي البريطاني في العراق وإلى رئيس الوزارة العراقية وإلى عصبة الأمم يحتجون وينكرون ما نشر عنهم في تقرير اللجنة عن رغبتهم في الرجوع إلى تركيا ويصرحون بأنهم عرب ويريدون أن يعيشوا تحت العلم العراقي العربي مع إخوانهم المسلمين. وقد وقع على هذه البرقيات مطران السريان الكاثوليك ومطران السريان اليعاقبة ومطران الكلدان ونائب البطريرك وقس الأرمن وحاخام اليهود وغيرهم من الأطــــباء والمحامين والقسس من المسيحيين واليهود. (جريدة العالم العربي، في 4 أيلول 1925م). وأرسل رئيس بلدية الموصل ورئيس بلدية أربيل وبطريرك بابل ومطران اليعاقبة وحاخام اليهود برقيات شكر إلى وزير المستعمرات البريطاني ليوبولد إيمري.
وبإختصار شديد كان القرن العشرين هو قرن القومية العربية وثورتها التي قادها الشريف حسين شريف مكة عام 1916، بعد أن نبَّه البريطانيون المسلمين العرب إلى إن الأتراك ليسوا من آل بيت رسول الإسلام، وهم ليسوا بعرب ولا يمتون بصلة لقريش التي حملت الخلافة الإسلامية إلى العالم، بعد أن خضع لهم العرب قرابة سبعة قرون.
كانت إحدى الجوانب الرئيسية في المشكلة تكمن في المناطق التي كان يسكنها الأثوريون في جولاميك بحكاري، والتي يرغبون في العودة إليها. إلا أن بريطانيا واجهت صعوبات جمة في ذلك، فالقوات البريطانية لم تصل إليها لتحتلها وتفرض الأمر الواقع، وكانت تركيا ما تزال تسيطر عليها، وعيون بريطانيا ترنو إلى الموصل الغنية بالنفط بدلا من مناطق جبلية تضم قرى بائسة مشحونة بذكريات أقلية (الأثوريين).
أما الأثوريين فكانت ذاكرتهم مشحونة بإنتقام الأتراك وقسوتهم حتى الأمس القريب، وما تحملهم لكل تلك الخسائر وإنضمامهم إلى قوات الحلفاء والقتال إلى جانب بريطانيا العظمى كحليف صغير، سوى لتحقيق هدف استعادة مناطقهم والعودة إليها، إلا إن مناطقهم وقراهم وأراضيهم الزراعية وكنائسهم التاريخية ما زالت بيد الأتراك، وقد جرى هدم غالبيتها إنتقاماً من موقف الأثوريين السياسي المتمرد على الدولة العثمانية. لذا فقد تنازعتهم رغبتين متعارضتين هما: التخلص من الحكم التركي المسلم أولاً، والعودة لمناطقهم التاريخية شمال ولاية الموصل التي عاشوا فيها طيلة خمسة قرون ثانياً، شريطة أن تكون تحت حكم دولة مسيحية عظمى. وهاتان الرغبتان كانتا شبه مستحيلة، وتحقيقهما معاً ضرب من الخيال.
كان البيت الأثوري يعاني من الإنقسام والضعف. فمن جهة كان القيادة الدينية ممثلة بالبطريرك الأثوري إيشاي مار شمعون ذي 16 ربيعاً الذي سافر إلى بريطانيا لإكمال دراسته الدينية هناك. وكانت العائلة البطريركية قد إحتكرت التعاون مع البريطانيين لصالحها بعد التخلص من خصمها العنيد قائد القوات الأثورية الجنرال أغا بطرس حيث نفته بريطانيا إلى فرنسا عام 1921، ومات هناك في 1932، والذي جمع في شخصه أمرين مهمين هما: الأول، إنه كان أول من أدرك خداع البريطانيين، لذا أصَرّ على العودة إلى مناطقهم الأصلية، وثانيا، إنه كان يفصل بين الدين والسياسة، فيطلب تحديد صلاحيات البطريرك بالمسائل الدينية فقط، على أن يترك المسائل السياسية والعسكرية لغيره من المدنيين ، ولخَّص موقفه هذا بعبارة وجيزة شهيرة، قالها للبطريرك السابق بنيامين مار شمعون وهي: (ليكون لك الصليب، ودَعْ السيف لي). إلا إن البطريرك رفض ذلك، ودفع حياته وحياة رفاقه ثمناً لعدم تقبل تلك الفكرة، عندما ذهب في 3 أذار 1918 ليتفاوض مع إسماعيل آغا المعروف ب (سمكو) رئيس عشيرة الشكاك الكردية في إيران فقتله هو وحاشيته ومَثّلوا بجثته.
إعتقد الأثوريون بأن بريطانيا ستجعل مناطقهم التاريخية ضمن الدولة العراقية الجديدة، أو تحت حمايتها في الأقل، بينما كانت بريطانيا تقدّم مصالحها في أية مفاوضات مع الأتراك. وكان نفط الموصل هو المعبود الذي يصلّون له في الخفاء. بينما كانت عصبة الأمم ولجنة الموصل ترى إن المنطقة موضوع الخلاف كانت “مسكونة من قبل المسيحيين والأكراد والعرب والأتراك واليزيديين واليهود حسب الترتيب العددي”، وحيث إن رأي المواطنين كان عاملا مهما في تقرير مصير ولاية الموصل، فان الوجود الأثوري (الذي مثّل معظم المسيحيين) ورغبتهم المطلقة لإلحاقهم بالعراق تحت انتداب العصبة كان العامل الأهم لضمان ضم ولاية الموصل إلى العراق. حقا، إن توصية المفوضية بضم ولاية الموصل الى العراق، والتي اشترطت استمرار انتداب العصبة، كانت مطابقة تماما لرأي الأثوريين المقيمين في تلك المنطقة”.

رسالة الأثوريين إلى لجنة الموصل
من بين الرسائل التي يحتفظ بها أرشيف الأمم المتحدة، عثرنا على رسالة كان قد أرسلها الأسقف يوسف خنانيشوع خال البطريرك الأثوري إيشاي مار شمعون وعدد من رؤساء العشائر الأثورية إلى لجنة الموصل مكتوبة بخط اليد وباللغة السريانية ومؤرخة في 2 أذار (بالتقويم الشرقي) أي 16 آذار (بالتقويم الغربي) 1925، وقد قُمنا بترجمتها من السريانية، وهذا نصّها:
أصحاب السعادة رئيس وأعضاء لجنة عصبة الأمم
إسمحوا لنا أن نبين لسعادتكم أحوالنا بإيجاز.
لقد كتب الكثير من الكتاب عن تاريخ القديم للأثوريين، وما زال الكثيرون حتى هذه الأيام يكتبون عن ذلك.
نحن قسم صغير من الأثوريين الذين أقاموا في كردستان لقرون عديدة وسط صعوبات جمّة، وتضحيات دائمة بالأنفس، تمكننا أن نحافظ على وجودنا. ولقد ظُلِمنا كثيرا من الترك وأداتهم الكرد، لسبب واحد هو للقضاء على إسمنا وكياننا.
وقبل الحرب العظمى، حُوِلَت العديد من كنائسنا إلى مساجد، والكثير من قُرانا وأملاكنا أنتُزعت من أصحابها وأعطيت للأغوات الأكراد: ونتيجة لحالات القمع العديدة بالمئات: فقد هجر الآلاف لقُراهم، وهربوا إلى روسيا ودول أخرى طلباً للحماية.
وعند إندلاع الحرب العظمى في كانون الأول/ديسمبر 1914، إستعد الأتراك بكل ما أمكنهم لتدمير أمتنا بالكامل. ابتدأوا من الباق، وگاوار، وفي كل مناطق الجبال المسيحية التي أقاموا فيها، بالقتل والفناء وأعمال أخرى لإستعبادنا. ونحن بدورنا سعينا بكل ما هو ممكن لحماية أنفسنا وبيوتنا. ولكننا أصبحنا متروكين على قمم الجبال، حيث حصرنا أنفسنا، نعاني من نقص الغذاء والبرد القارص. وبمشقّة بالغة للحياة، وجدنا طريقنا إلى إيران، وهناك وجدنا خلاصنا تحت حماية الروس الذين كانوا في ذلك الوقت يحتلون البلد.
وبعد الإضطرابات في روسيا، إنسحبوا من هناك، وبقينا نحن مضطرين في إيران: فقام الأتراك مجدداً بالهجوم علينا. فخرجنا من إيران بصعوبة كبيرة خسرنا فيها ألاف الأرواح، وبقينا شهراً كاملاً في سفرنا، حتى عثرنا على الأمان بالقرب من الإنكليز.
وعند وصولنا إلى بعقوبة تحت رعاية بريطانيا العظمى، قامت بترتيبات مذهلة ومعاملة طيبة تجاهنا، لا يمكن نسيانها.
ومنذ وقت وصولنا إلى بعقوبة، لم ننفك عن مطالبتنا بمواطننا في جولامرك، وديز، وديز العليا، وشمزدين، وتياري، وتخوما، وجيلو، وباز، ودياز – وأن توضع تلك المناطق تحت حماية بريطانيا العظمى، ولكن طلبنا لم يلقِ أي عناية. وخلال السنوات الأخيرة، عاد قسم صغير منَّا إلى مناطقه في تياري وتخوما: وبصعوبة بالغة جداً، عمّروا بيوتهم وكنائسهم وحرثوا مزارعهم، وفي السنة الماضية، تم طردهم مجدداً من بيوتهم، وهم الآن يعيشون في الكهوف والقرى المهجورة في ظروف بائسة للغاية.
نحن الأثوريون لقد وصلنا إلى يأس عميق: ولكن قدوم لجنتكم إلى هذه النواحي قد أبهجنا، مع أمل جديد، لكي نضع أمامكم أحوالنا الشقية. لأننا نؤمن بأن عصبة الأمم قد أسست لرعاية وضمان حقوق الأمم الصغيرة التي نالها العذاب. والآن، نحن نطالب عصبة الأمم، بأن تتخذ إجراءً رسميا تضع فيه، مناطقنا المذكورة في أعلاه والتي هي مواطننا منذ قرون، تحت رعاية عصبة الأمم لحمايتها. وإذا تعذر ذلك، فإننا على أمل أن تضعنا عصبة الأمم تحت حماية بريطانيا العظمى، لنتمكن من العيش بسلام وأمان. وإذا ما أنتزعت منَّا مواطننا وأعطيت لتركيا، فإنه ليس بإمكاننا العيش في العراق بسبب حرارة الطقس.
آنذاك، نطلب بأخذ تعويضات من تركيا عما استحوذت عليه، وما فقدناه في مواطننا، ونحن سنرحل من هذا البلد إلى أماكن أخرى حيث يمكننا أن نحفظ حياتنا ووجودنا، ونعمل بسلام. لأن العيش بأسلوب التهجير المرتقب هو بحد ذاته بؤس وشقاء عظيمين.
كتب في مدينة الموصل بتاريخ 3 آذار 1925 م.
تواقيع: الأسقف يوسف خنانيشوع، المطران زيا سركيس – أسقف جيلووباز، ملك شمزدين، ملك إسماعيل، عبد الأحد م. يوسف، ملك خمو، ملك وردا، قاشا أبريم، قاشا كينا كورئيل، الكسندروس دقليتا، الشماس إسحق أشيتا، خيو عوديشوع، بوكو اوشانا، يعقوب … (الأسم الثاني غير واضح).

الموقف الأثوري من قضية الموصل
كما أسلفنا، فأن وضع الأشوريين كان يعاني من إنقسام داخلي عميق. لذا فإن موقفهم تجاه قضية الموصل كانت تحكمه ثلاثة إتجاهات متعارضة، كالأتي: –
أولا. كان الإتجاه الأول، والذي يمثل أغلبية الأثوريين، يرمي إلى العودة لموطنه الأصلي الذي غادروه أواخر عام 1915، حيث هناك قراهم ومساكنهم وحقولهم، بالإضافة إلى كنائسهم التاريخية منذ قرابة خمسة عقود. ويمكن تسميته ب (حلم العودة). وكان القائد العسكري آغا بطرس إيليا من أكثرين الساعين لتحقيق ذلك الحلم، بعد أن أدرك خداع البريطانيين. وبالفعل إستطاع بعض الأثوريين التسلل إلى مناطقهم ثانية بعد غلق مخيم بعقوبة للاجئين إبتداءً من عام 1921، وأعادوا بناء قراهم ومساكنهم وبعض كنائسهم المدمرة، إلا إن الأتراك أعادوا الهجوم عليهم إنتقاما منهم على مواقفهم من الدولة العثمانية الزائلة زمن الحرب العالمية الثانية. وجرى تهجيرهم تماماً عام 1925، ولم يعودوا إليها حتى يومنا هذا، وبعد مرور أكثر من مئة عام.
ثانياً. أما الإتجاه الثاني، والذي كانت تتبناه عائلة البطريرك الأثوري مار شمعون وبعض أتباعهم الخُلَصْ، فقد كان يسعى إلى بقاء الأثوريين تحت حماية ورعاية بريطانيا العظمى التي تحالفوا معها حتى أسمتهم ب (الحليف الأصغر – Smallest Alley). إن هذه الأمنية كانت أيضاً ضرباً من الخيال، فبريطانيا دولة مُحتَلة للعراق، ثم دولة مُنتَدَبة عليه، ومن المعروف أن كل هذه الأنظمة القانونية المعروفة في القانون الدولي، لها قواعد تحكمها، وتحدد موعد إنتهائها، لذا فهي مؤقتة وزائلة لا محال، ولو بعد حين، سواء أطالت المدة أو قصرت. وهذا يدل على عدم واقعية هذا الإتجاه، وضعف الوعي السياسي والقانوني لأصحابها، إضافة إلى تغليب المصالح الضيقة على المصالح القومية العامة. وكان أصحاب هذا الإتجاه غالباً ما يقترحون حلولاً بديلة لا منطقية، مثل اللجوء إلى الإنتداب الفرنسي أو إي دولة أخرى إذا تعذر الحل الأول. وهو يمثّل بحد ذاته خروجاً من حفرة للوقوع في حفرة أكبر.
ثالثاً. وبقي الإتجاه الثالث والأخير، والذي يمثل الإتجاه الوطني، لنسبة لا بأس بها من الأثوريين الذين تصرفوا بواقعية سواء أثناء عودتهم إلى مناطقهم في تركيا، أو بعد طردهم من هناك، حيث أدركوا إن حلم العودة أصبح مستحيلا، وعليهم القبول بالأمر الواقع الذي يفرضه الواقع السياسي الجديد، وإن مصلحتهم تكمن اليوم في البقاء مع العراق وإتخاذه موطناً بديلا لهم. وكان يتزعم هذا الإتجاه أحد أبرز قادة العشائر الأثورية وأتباعه، وهو ملك خوشابا ملك إسماعيل، رئيس عشيرة تياري السفلى، ورَفيق نِضَال أغا بطرس. وكان هذا الإتجاه هو الأكثر واقعية في المسألة الأشورية.

تحليل الرسالة
إن قراءة متأنية لهذه الوثيقة تقود إلى جملة إستنتاجات منها:
إنها مقدمة من عائلة البطريرك الأثوري مار شمعون وبعض الموالين لها.
إنها تستند على خلفية تاريخية من العلاقة السيئة مع الأتراك والأكراد، مما دفع مقدموها إلى الإرتماء في أحضان البريطانيين دون التنبه إلى إن البريطانيين لا يختلفون عن الأتراك كثيراً سوى في إسلوب العمل، فالأتراك إستندوا على الدين، بينما إستند البريطانيون على المال. والنتيجة واحدة وهي ضياع الأثوريين وتشتتهم.
إن الحلول المقدمة غير واقعية، مثل البقاء تحت حكم بريطانيا أو أي دولة مسيحية أخرى، وعدم العودة تحت الحكم الإسلامي، ولكن البقاء تحت حكم القانون هو الأفضل، وهذا ما لم يهتدوا إليه في حينه.
نية مقدمي الرسالة في الرحيل من العراق مسبقاً. وعدم الرغبة في البقاء في العراق بسبب حرارة الطقس. وهذا سبب غير منطقي في السياسة.
تشكل مسألة المطالبة بالتعويضات أساسا قانونياً مقبولا حتى يومنا هذا، وكان بالإمكان الإصرار عليه بشكل دائم.
وتبقى لغة الكتابة وأسلوبها وتنظيمها ما يدفع لإهمالها وعدم العناية بها، وعلى الرغم من ذلك، فقد كتبت باللغة السريانية، وقامت سكرتارية عصبة الأمم بترجمتها إلى الإنكليزية. بينما كتب البطريرك الكلداني يوسف غنيمة رسالته إلى لجنة عصبة الأمم في قضية الموصل باللغة الفرنسية، وبلغة وجيزة وخط يد أنيق.
وبهذا الصدد، يذكر يوسف ملك خوشابا في كتابه حقيقة الأحداث الأثورية المعاصرة، عن حيثيات تقديم هذا الطلب إلى لجنة عصبة الأمم، قائلا: –
” في سنة 1925 جاءت لجنة الأمم إلى الموصل وإجتمعت بممثلي الأثوريين في قصر الشربتي، فبينت لهم بأنها مخوّلة بإسكانهم في أراضيهم الأصلية إلا إنها لا تملك صلاحية تقرير الدولة التي ستكون تلك الأراضي خاضعة لها. وأوضح ملك خوشابا ومن شاركه رأيه لتلك اللجنة بأنه لا أهمية لمن سيحكم تلك الأراضي طالما كان ذلك خارج إرادتهم، وغنما ما يهمّهم هو إعادتهم إلى أراضيهم وتأمين سلامتهم ومستقبلهم. أما أتباع المار شمعون فصرحوا بأنهم لا يريدون تلك الأراضي ما لم تكن نحت ظِل العلم البريطاني. ولذا لم تتمكن اللجنة من إتخاذ أي قرار حول الموضوع بسبب الإختلاف في أراء الأثوريين حول إعادتهم إلى أراضيهم تحت أي حكم تقرره عصبة الأمم. ونتيجة لهذا الخلاف حاولت العشائر العبور إلى مناطقها الأصلية عبر حدود العراق الشمالية إلا إن الإنكليز والمار شمعون والحكومة العراقية منعوها من ذلك. فأرسلت سُرمة خاتون المطران يوآلاها مطران برواري بالا كما أرسلت الحكومة العراقية معاون الشرطة عزرا وردة للتجول بين العشائر الأثورية ناقلين أقوال سرمة خاتون إليها بأنها ليست ضد فكرة عودتها إلى أراضيها وإنما تريد أن تضمن ملكية تلك الأراضي لها ليكون الأثوريون أحراراً فيها قبل عودتهم إليها. بهذه الكلمات المعسولة تمكنت سُرمة خاتون من إقناع الأثوريين وتخديرهم مما أدى إلى فقدانهم لفرصتهم الأخيرة في الحصول على قبول لهم مرة ثانية من قبل الحكومة التركية التي إعتبرت عملهم بعد هذا التراجع ليس إلا لعبة.”
كان هدف الإنكليز من الإحتفاظ بالأثوريين لغرض إستخدامهم كمقاتلين ضد بقية طوائف الشعب العراقي. و” قد أخفت عائلة المار شمعون عن جماهير الأثوريين – الهدف الحقيقي لتشكيل الفرق العسكرية والمتمثل في خدمة المصالح الإستعمارية لإنكلترا، ومن أجل ذلك نشطت سورما خانم (عمة البطريرك) في تشكيل هذه الفرق.
وتثير شخصية سورما (شقيقة البطريركين بنيامين المغدور وبولص المريض، وعمّة البطريرك القاصر إيشا) الكثير من الجدل حتى يومنا هذا. فهذه الشخصية الأثورية التي عاشت قرابة 92 سنة، والتي تحكمت بمصير الأثوريين منذ عام 1915 وحتى عام 1933. فقد كانت المشرفة على مستودع الذخيرة الأثورية المستلمة من الروس في منطقة أورميا عام 1915. وقد كان لها “الدور الكبير في تأسيس هذه الكتائب. إذ كان لها كما للملوك والكهنة مصلحة مادية في توسيع تشكيلات الكتائب العسكرية، حيث كانت العائلة البطريركية وكبار القادة والكهنوت يتقاضون وفق الاتفاق مع القيادة الإنكليزية حصة نقدية من مرتب كل ضابط ومجند آشوري”.
لقد بلغ تعداد الكتائب الأثورية 10 آلاف مقاتل، وقد كان المقاتل يتقاضى 12 روبية شهريا عام 1920، ولو إفترضنا إنها كانت تتقاضى 2 روبية عن كل مجند أثوري، فهذا يعني إستلامها (2000) ألفي روبية شهرياً، وهي لا تساوي سوى مبلغاً ضئيلاً من نفط الموصل وحياة الأثوريين.

بريطانيا … وتقسيم غنائم الموصل
” بعد توقيع إتفاقية الصلح الحكيم في عام 1918م لم يكن لدى تركيا المكلفة بحَلِّ جيشها وكذلك إيران القوة الكافية لإعاقة عودة الأثوريين إلى ولاية هكاري ومقاطعة أورمي.”
كانت بريطانيا غير راغبة في التخلي عن الأثوريين تماما، وترغب في الإحتفاظ بهم كحزمة واحدة، بل تسعى للإستفادة القصوى منهم، وكانت في الوقت ذاته ترغب في التنصل من وعودها لهم، والتقليل من نفقاتها عليهم. لذا فقد كان لها دور في إعادة الأثوريين الذين عادوا متسللين إلى مواطنهم في تركيا للفترو من عام 1921-1925. وجرياً على ذلك، فقد فسَّر بعض الأثوريين محاولة إغتيال وأسر الوالي التركي لجولامرك أثناء زيارته لهم عام 1924 على يد بعض المقربين من مار شمعون، بأنه كان بدفع من الإنكليز. ورداً على ذلك، “بدأ الأتراك مطاردة الأشوريين من قراهم في هاكاري وأزاحوهم إلى العراق، وقد وصل آنذاك ما يقارب 8 آلاف إنسان أشوري.”
وربما كان القصد لذلك هو أن يكون الأثوريين بمجملهم ورقة رابحة بيدهم لتقرير عائدية الموصل للعراق والإستفادة من وارداتها النفطية بدلاً أن تكون بيد تركيا الحديثة، بدليل أن قرار عصبة الأمم حول عائدية الموصل للعراق ينصّ على أن يقوم العراق بمنح نسبة 10 في المئة من الودائع النفطية في الموصل إلى تركيا لمدة 25 عاماً. وقد تنازلت تركيا عن ذلك البند لاحقاً مقابل استلام مبلغ 500,000 جنيه إسترليني ذهب، دفعة واحدة. وهكذا باعت تركيا الأثوريين العائدين مقابل 10% من نفط الموصل لمدة 25 عاماً، أو مقابل نصف مليون جنيه إسترليني ذهباً. وكسبت بهم بريطانيا الملايين من نفط الموصل لمدة تزيد على 25 سنة.
وكانت بريطانيا قد أستطاعت قبل ذلك من إقناع فرنسا بتنازلها عن الموصل التي كانت من حصتها وفقاً لتقسيمات خارطة سايكس – بيكو 1916. ووافق كليمنصو على طلب لويد جورج نقل الموصل إلى سلطة الانتداب البريطاني بشرط أن تنال فرنسا حصة من نفط الموصل، وأن توضع دمشق وحلب وبيروت والإسكندرونة تحت سلطة الانتداب الفرنسي. وهذه الوقائع تؤكد أن بريطانيا وفرنسا اعتبرتا سورية والعراق أسلاباً يوزعونها حصصاً كما توزع المغانم. وفي 24/7/1923 وُقعت معاهدة الصلح بين الحلفاء وتركيا (معاهدة لوزان) التي نصت على تعيين الحدود بين العراق وتركيا خلال تسعة شهور بالتفاوض الثنائي، وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن خلال المهلة المذكورة، فيُرفع الأمر إلى مجلس عصبة الأمم. ولما لم يتم التوصل إلى أي تفاهم في شأن مصير الموصل فقد قرر مجلس عصبة الأمم في 30/9/1924 تأليف لجنة تحقيق لدراسة تلك القضية.
” وقصارى القول إن النفط كان العنصر الحاسم في تقرير مصير ولاية الموصل، علاوة على الواقع الجغرافي والسكاني، وإن لم يظهر النفط في مناقشات ترسيم الحدود إلا بشكل خفي. وتبين لاحقاً أن “شركة النفط التركية”، وهي شركة دولية في الأساس ظهرت في سنة 1912 جراء اتفاق بين ألمانيا وبريطانيا وشركة دارسي للنفط على أن تكون حصة ألمانيا 25% وبريطانيا 25% وشركة دارسي 50%، قد نالت امتياز تسويق الحصص، ومنح رجل الأعمال الأرمني البريطاني الجنسية كالوست غلبنكيان 5% من الأسهم اقتطعت بالتساوي من حصة بريطانيا ومن حصة دارسي، ثم مُنحت فرنسا حصة ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب.”

خاتمة
إن الإنقسام والتشرذم وإنعدام وحدة القرار هي أهم الأمراض التي تصيب الأقليات من أمراض إجتماعية وسياسية، ويضاف إليها المصالح الشخصية الضيقة التي تقدم مصلحة الشخص على المجموع. وكما يقال فإن المصالح تبقى الصخرة التي تتحطم عليها أعظم المبادئ، ولم تكن المصالح المالية والشخصية الضيقة بعيدة عن عائلة البطريرك مار شمعون.
كانت القيادة الأشورية، قيادة دينية، وفي ظِل غياب قيادة سياسية، كانت تعاني من ضعف الدهاء السياسي في مواجهة إمبراطورية الدهاء البريطاني، ولا تجيد إدارة الصراعات مع الدول. لذا فقد جرى إستغلال هذه الطائفة لأغراض إستعمارية مقابل منافع رخيصة. وكان النفط في مقدمة تلك الأغراض وما زال حتى يومنا هذا. وكان على الأثوريين مساومة بريطانيا والحكومة العراقية الفتية في الحصول على بعض المطالب مقابل دورهم المتميز في تقرير عائدية الموصل للعراق، بدلا من الذهاب إلى عصبة الأمم للشكوى، فالعصبة أولا أخيراً إنما هي منظمة دولية تعتمد في ميزانيتها على مساهمات الدول المالية وإشتراكاتها، وتستطيع الدول أن تضغط عليها في هذا الجانب، وحتى يومنا هذا عادة ما تتلكأ الولايات المتحدة في تقديم مساهماتها المالية للأمم المتحدة لغرض فرض وجهة نظرها. كما إن المنظمات -بعكس الدول-لا تمتلك جيشاً ينفذ إرادتها وتعتمد في ذلك على الدول، لذا فمن الخطأ التعويل عليها بشكل مطلق، وهذا ما حدث مع الأثوريين لاحقاً. ونجد ذلك واضحاً في رَد البريطانيين على القائد الأثوري آغا بطرس، “عندما طالبهم بتعويضه مبلغ (38) ألف روبية إدعى إنه صرفها على حملته الفاشلة، وقد هددهم بتقديم شكوى إلى عصبة الأمم، وفرنسا، والبابا، إذا لم ينفذوا له ذلك، إلا إنه دهش عندما أجابه الأنكليز بأن عليه أن يذهب إلى هؤلاء جميعا وإلى الشيطان إن شاء.”
كما إفتقرت القيادة الأثورية إلى الواقعية السياسية في المفاوضات، والتي تقوم على تقليل الخسائر والحصول على المكاسب قدر الإمكان. وكان معظم الأثوريين قد إعتادوا على نمط حكم معين طبقه العثمانيين عليهم وعلى غيرهم من الجماعات والمكونات الأخرى داخل الدولة العثمانية، وهذا ما يطلق عليه الدكتور علي الوردي نمط “الحكم السائب”. فقد إعتاد العثمانيون على عدم التدخل في شؤون العشائر الأثورية، وتركوا ذلك لقيادتهم الدينية الممثلة في البطريرك الأثوري الذي كان يعد -في ظل الدولة الدينية- مسؤولا أمام الخليفة أو السلطان العثماني عمّا يرتكبه أتباعه من مخالفات. لذا، فقد واجهوا مشكلة في التأقلم مع الدولة العلمانية التدخلية، وتمنّوا أن تطبيق الدولة الجديدة نفس أسلوب الدولة السابقة التي هربوا منها، ويشكون من ظلمها وتعسفها. ويرى الوردي إن هذا الأمر، ينطبق على الشيعة في الأساس، فيقول: ” أن الشيعة لا يميلون للخضوع للقانون ، ويحبذون أن يعيشوا حياتهم الخاصة التي إعتادوا عليها، حتى لو كانت في نظر الآخرين فوضى، “وكل ما يطمحون إليه هو نظام حكم يجاريهم في عاداتهم هذه، وهم لا يبالون إذ ذاك أن يكون الحاكم مسلماً أو كافراً، نجفياً، أو غير نجفي، سنياً كان، أو شيعياً. ولهذا كانوا راضين عن الحكم التركي قبل الحرب، فلم يثوروا عليه؛ لإنه تركهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم، ولم يتدخل في شؤونهم إلاّ قليلاً. ولم يكد الحكم التركي يتدخل في شؤونهم خلال الحرب حتى ثاروا عليه، وأعلنوا العصيان. وكذلك فعلوا مع الحكم الإنكليزي؛ إذ هم لم يثوروا عليه إلاّ بعد أن تدخل في شؤونهم”. وقد إتبع الأتراك نظام “الحكم السائب”، وكانت صلة الحكومة بمواطنيها تنحصر في أمرين فقط، هما الضرائب، والتجنيد.
وقد دفع الأثوريون ثمنا باهضاً جراء تلك الأخطاء، بينما حقق البريطانيون والعراب غايتهم في ضَم ولاية الموصل إلى العراق.