من بين مؤلفات الناقد الكبير الدكتور علي جواد الطاهر (؟-1996)* كتاب هام يحمل عنوان ” تحقيقات وتعليقات” وهذا الكتاب الهام لم تُسلَّط عليه الأضواء ولم تجده في واجهات المكتبات، بالرغم من الحاجة الماسّة إليه!
والكتاب المُجَلد هذا والمطبوع بطبعة بيروتية أنيقة وفاخرة، هو في حقيقته، تقويمات وتصحيحات، وتنبيهات وتعليقات على أغلاط وأخلاط وأخطاء وهنات شائعة وغير شائعة وقع فيها كُتّاب مبتدئون ومتمرسون وأدباء صغار وكبار وصحفيون معروفون وغير معروفين بل وحتى أساتذة أكاديميون!!
فقد درج أستاذنا الطيب الذكر منذ مطلع اهتمامه في النقد الذي يستلزم فيما يستلزم قراءة جلّ ما تلقي به المطابع من كتب ومجلات ودراسات في شتّى فنون المعرفة – وهو القارىء النهم- حيث راح بنظرة ثاقبة يدوّن ملاحظاته وتصحيحاته وتعديلاته على أخطاء من كل نوع ومن كل عيار، نحوية وصرفية وإملائية وبنائية تتعلق في بناء الجملة ومعرفية، أدبية كانت أم علمية بل راح يعيد صياغة العبارات الركيكة ويجعلها أكثر متانة ووضوحا..حتى تكونت لديه ذخيرة كبيرة فجمعها وصنّفها في كتاب يحمل عنوان “تحقيقات وتعليقات” فهو كتاب في النقد اللغوي التطبيقي بل يتعدى ذلك الى موضوع النقد الأسلوبي وهذان الركنان الأساسيان من النقد قلما تجدهما في النقود المطروحة هذه الأيام وما اكثرها وما أحوجها هي ذاتها الى مراجعة وتدقيق!!
جاء في رسائل “أخوان الصفا وخلّان الوفا”: ” يقوم المنطق للعقل مقام النحو للسان والكلام”. وأحسب أن هذه الفرزة القصيرة المكثفة العميقة تغني عن أي شرح في أهمية اللغة، والأسلوب اللغوي لكل كاتب سواء كان شاعراً أوناثراً ولهذا اهتم النقدة العرب القدماء منذ الجاحظ “ت255” في “البيان والتبيين” و “الحيوان” الذي ثبّت قواعد نظرية أهمها اهتمامه باللفظ دون الأفكار التي جعلها توابع للفظ: “إنّ المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج وتخيّر الماء..” (الحيوان تحقيق عبد السلام هارون 3/331-332 الخانجي، القاهرة) ..
ولا يختلف الأمر عند الناقد الشاعر أبي الحسن ابن طباطبا العلوي(250-322): ” وللمعاني تشاكلها فتحسن فيها (أي في الألفاظ/خ) وتقبح في غيرها فهي لها كالمعرِض للجارية الحسناءالتي تزداد حُسناً في بعض المعارض دون بعض.” (عيارالشعر،تحقيق طه الجاحري ومحمد زغلول ص8 القاهرة 56). ولا أريد الاستزادة في الاقتباس من مقدمة ابن خلدون حيث يتكرر الرأي في تقديم اللفظ (الأسلوب)، ولا يُفهمن مما سبق الاستهانة في الأفكار بل هي محمول اللغة وتابع لها..
ولو قُدر لهؤلاء الأفذاذ أن يعيشوا زماننا هذا لغرفوا من علوم الغرب في مجال اللغة ولطوروا معارفهم في علوم بدأها العرب واستكملها علماء الغرب من أضراب:علم الفونوتيكا أي علم الصوت وإخراج الأصوات من مخارجها، الذي يقوم عليه فن عظيم وهو فن الإلقاء..والمورفولوجيا أو علم الصرف أو علم صور الكلمات والصرف عند العرب ظل مقرونا بعلم النحو (النحو والصرف)..وعلم الايتمولوجيا وهو يقابل علم الاشتقاق، وقد فرغ علماء أوربا من هذه العلوم في القرن التاسع عشر فما أحوجنا أن نستفيد من منجزات الغرب لتطوير لغتنا ومناهجنا وتيسيرها للدارسين وفق تطورات علوم اللغات والألسن..
واستمر الاهتمام ذاته لدى كبار المعاصرين من نقّادنا اللغويين أضراب العلّامة مصطفى جواد(1904-1969) والدكتور إبراهيم السامرائي والدكتور علي جواد الطاهر والدكتور مهدي المخزومي..كلّ هؤلاء بذلوا جهوداً خارقة في حماية اللغة وأخص الأوليْن منهم فالأول جهوده معروفة في دراساته ومؤلفاته وبحوثه ولا أقل من سلسلته الذائعة “قل ولا تقل”حيث جعل النقد اللغوي سائراً على ألسنة الناس.. وثمّن كثيراً أبا حاتم السجستاني البصري (ت250) من بين المعجميين لأنه لم يعتمدعلى الموروث اللغوي وحسب وإنما أدخل ماشاع في عصره من ألفاظ وعالجها بروح علمية..(راجع دراسته في اللغة، مجلة المجمع العراقي، عدد1 لسنة 1950).واستدرك على معجم الأدباء لياقوت الحموي بإضافات هامة وصحح ماشاء له أن يصحح ويضيف مستفيداً من المناهج الحديثة في موضوع المعجميات..
والعلامة الدكتور إبراهيم السامرائي (1918-2001) في كتابه القيّم ” لغة الشعر بين جيلين”، قد أكد على فقر النقد الحديث في مجال النقد اللغوي، وربط بين اللغة ومحمولها من الأفكار ربطاً جدلياً خلّاقا، وكذلك ربط بين المفردة وأخواتها ضمن سياق النص حيث يقول: ” ربما أغفل النقاد عنصر اللغة في النقد الأدبي الحديث، وفاتهم أن اللغة مادة في الأسلوب وإن الأسلوب يستمد الحياة والقوة من طريقة استخدام المفردات المناسبة، ومن السر في ربط الكلمة الحية القوية بأختها بحيث يتهيأ من هذا المركب طريق الى التفكير..” (ص38،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2 بيروت).
* هناك تفاوت في ميلاد الدكتور الطاهر بين 1911 و1922 ولكنني أرجح منتصف العقد الثاني مستنتجاً مما كتبه هو عن حياته.