15 نوفمبر، 2024 5:59 م
Search
Close this search box.

وتبقى لميعة ُ لميعــة ً

وتبقى لميعة ُ لميعــة ً

كنت ألتقيها في ساندياغو يوم أعلن إتحاد الأدباء والكتاب تسمية دورة مهرجان المربد لهذا العام باسمها “دورة الشاعرة لميعة عباس عمارة”. وسألتها إن كانت فرحة لذلك وهي التي حظيت  بالتكريم ومُنحت جوائزه وشهاداته وأوسمته. وتقرأ الفرح في عيون لميعة المازالت تلمع بالحياة قبل أن تسمعها منها أو تقرأها: “فالشاعر يهوى الزّهو… ويَعشِقُ أن يـُعشقْ”.
لميعة التي تقطع أواخر شوط الثمانينات من العمر، وإن دعوت لها بالعمر المديد تقول: لا، ليس العمر بطوله. فأقول هو الدعاء بأن يكون مقرونا بالصحة والعافية وديمومة العطاء. وهي والله دائمة العطاء متابعة دؤوبة، أنيسة مُحبة محبوبة، وذاكرة لا أحسدها، فما قرأت لها بيتا مما كتبت إلا أكملت عليه، وحين استعرضنا مراحل في الحياة كانت التفاصيل حاضرة بالأسماء والتواريخ.
والمربد في ذاكرتها ليس من مهرجانه وحسب، بل بسوقه الأول، ما ألقى فيه جرير والفردق وبشار بن برد وأبو نؤاس من شعر، وما عرض فيه الفراهيدي وسيبويه والجاحظ والأصمعي وابن المقفع من لغة وأدب، وما دار فيه من فسلفة للكندي وغيره. إحياؤه إحياء للشعر والأدب وعلوم اللغة، وأسماؤه استحقاق علو وقدر وقيمة واعتراف فضل الإسهام. فإن يقـر أطلاق اسم الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة على دورة المربد الحادية عشرة فهو استحقاق تكريم بجدارة، لريادية هذه النخلة البرحية المازالت باسقة، والتي حملت كتابتها شعرا وهي في الصف الرابع الإبتدائي، ونشرت لها المجلات قصائد وهي بعمر مبكر، حتى صقلت دار المعلمين العالية الموهبة وفتحت أمامها مجالات الظهور والتباري. ويملء الحب جوانح لميعة فتطير بها أجنحة الشعر فضاءات ونعيش معها فضاءات وإلى الآن. هو تكريم للمرأة الشاعرة والأديبة ورائدة المجالس الثقافية ليبقى العراق راعيا دونما تمييز، بل متباهيا بشعرائه وأدبائه نساءا ورجالا. وهو تكريم محبة هذه المرأة لدارها التي ترعرت في العمارة بميسان ولمنزل الطفولة في الكريمات ببغداد ولكل مدن العراق التي خصتها  ذكرا من كردستان العراق ونبوءتها فيها أنها ستعود خضراء زاهية آمنة وترقص باعياد نوروز، وإلى تحياتها للبصرة ” ليُزهر ألف جيكور  يناغي بالهوى بدره”، ومحبتها لكل الوطن العربي بالأقطار التي زارتها والأخرى التي عاشت ردحا فيها.
” وإن قلت بغـــداد أعـــني العراق …. الحبيب بلادي بأقصى قراها
من الموصل النرجسية أم الربيعين…. والزاب يجلو حصاها
إلى البصرة الصامدين نخيلا…. تشبّثَ من إزل في ثـراها
تكريم اللاتمايز في مكونات العراق وتعدد أديان أبنائه، فيكون في لميعة الصابئية المندائية تكريم إستحقاق لأهليها بوجودهم الممتد جذرا في العراق والمورق ظلا والمثمر عطاءا وإسهاما آلالاف السنين، لتظل  تخاطب يوحنا المعمدان وتسأل:
 ” لمن الصوتُ الصارخ في البريّة
واعجبي
 يسأل عني من بين عباد الله؟
….
صوتك يُحيني،
عمِّدني بعماد (ابراهيم) الأقدم”
 
 تكريم لإنسانية هذه الشاعرة التي لم يحدها حد، لأنها ترى أن كل البلاد بلاد الله، فأنى عَشقتْ وعُشقت، وأنى قـَدرتْ وقُدِّرتْ، عاشت. لعنتْ التمييز على أي خلفية ولأي سبب. والدين عندها المحبة والأمان وقيمته في الإشتراك بمحبة الله وخشية الله
” ودرستُ الدين من بوذا وزردشت وابراهيم
صليتُ مع الرهبان
صمتُ الصيف في رمضان
عُمِّدتُ على دين أبي في النهر
مستْ جبهتي الحكمة في الدين
ولكن حماة الله قسرًا أبعدوني!
 
ومن الطوفان حتى كاليفورنيا
لم أزل أعثر بالقيد الذي هُم ألبسوني
فاعذروني
إن تكن صومعتي دون شبابيك وباب
فأنا أحذر أن تجرحني الريح
وأن يُغلقَ بابُ الله دوني”
تحية لإتحاد الأدباء والكتاب لبادرته الحقة والجريئة في أن يكرم الشعراء والأدباء ويطلق أسماءهم على مهرجاناته في حياتهم ليكرموا قبل مماتهم، فنحن في الممات نحتفي بهم، ونكرمهم في الحياة. وعهدي أن لميعة غير مطالبة، ولقد لمست ذلك في نبرة عتب عليّ يوم كتبت مقالة ” لميعة عباس عمارة واستحقاق الدكتوراه الفخرية” التي نبهت فيها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وجامعة بغداد إلى إستحقاق لميعة في ذلك، فقلت لها لم أطالب لك، بل نبهت إلى إستحقاق. وعسى الجهات المعنية قد درست بعد أن تنبهت، كما وعدت!
وتمر السنين، ويظل يعيش في القلب الحنين، حنين لميعة إلى عشها الذي ما فارقته روحها، حنينها للعراق الذي هي طفلته وهو طفلها وكل يغني للآخر ” دِللولْ يَلوَلد يَبني دِللولْ… كلانا عليلْ وساكنْ الجول*”. تراه في ديترويت وفي ساندياغو، وفي…
” موزعة كل أرواحنا
فنصف هناك ونصف هنا
نحلُّ مكانين رغم الفراق
وما بَعُدتْ غير أجسادنا
عن تراب العراق”
 
أما لماذا هذا الحنين فتجيب لميعة:
” هو الوطن الأم
خيط الحنين يقود خطى التائهين
….
حين نهاجر
نترك من روحنا في البيوت التي
قد ولدنا بها
تعصفُ الريح، يشتدُ الظلام
سيولٌ وطوفان
حربٌ، دمار
ولكن خيط الحنين يقود الجناح إليها
تعبنا
وآخر أمنية نموت وندفن فيها”
 
* الجول بجيم ثلاثية النقاط كلمة آرامية مندائية تعني المكان القصي جدا.

*[email protected]

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات