من البديهي والمعلوم مايحمله تاريخ العراق من حضارة عمرها آلاف السنين، وهي قطعا محط فخر واعتزاز لكل من ينتمي بحق إلى هذه الرقعة الجغرافية، وتحضره هذا كان متشعب الاتجاهات، وشمل مفاصل البلاد برمتها، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، والأخير هذا له القدح المعلى بين باقي الحضارات في الكوكب، ولنا شاهد في هذا مخطوطات ورسوم ومنحوتات، نقشت على صفحات التاريخ بصمة تأبى الزوال، ففضلا عن كونه أول من سن القوانين والكتابة على سطح المعمورة، وفيه أُسست نظريات علمية أضحت منارا لعلماء جاءوا بعد قرون، فإنه بلد الشعر والنثر والخطابة والقصص والروايات، وهو بلد ألف ليلة وليلة والسندباد، وتبعا لهذا يكون من المفترض أن ينال الجانب الثقافي في البلاد اهتمام المعنيين، والمعنيون قطعا هم أصحاب الاختصاص والمكلفون بإدارة هذا الجانب، وكذلك المسؤولون في مؤسسات الدولة، فعلى عاتقهم تقع مهمة إكمال مابناه الأجداد، ليصل إلى الأحفاد بأمانة.
وبتقليب لسفر التاريخ الحديث وأحداثه، فلقد خضعت الثقافة عموما وثقافة التعبير عن الرأي على وجه الخصوص، الى قمع وكبت شديدين، طيلة الثلث الأخير من القرن المنصرم، حيث جثم فيها حكم البعث الشوفيني على صدور الكتاب والشعراء والمثقفين، وحصرهم في زوايا ضيقة تحد من نشاطهم وإبداعهم، حيث كانت المفردة تمر قبل خروجها من قلم الكاتب والشاعر او حنجرة الخطيب، بسلسلة من التمحيصات والقراءات غير الحيادية، من قبل لجنة من الجلادين والسجانين، ولطالما جرّت قصيدة او قصة او حتى ومضة صاحبها الى دهاليز السجون، وأقبية الموت والتغييب وظلمات الزنزانات الانفرادية، ولطالما أدت بكثيرين في نهاية المطاف الى أحواض تذيب قصيدته وجسده وذكراه في آن واحد. فانكمش الحرف الحر -قسرا- وقُصت جناحاه وضاقت فضاءات التعبير لدى الشاعر والكاتب والمثققف العراقي، حتى صارت محصورة في شخص واحد وحزب دكتاتوري واحد.
وما إن حل عام 2003 أشرقت شمس الحرية التي كنا نظن انها غير قابلة للكسوف، وبها انطلقت الحريات بجميع اشكالها، اولها التعبير عن الراي، وحرية النقد وغيرها من نعم الديمقراطية التي وصلتنا مدولبة في (سرفة) دبابة، او محمولة على طائرة، والاثنتان -قطعا- غريبان على مجتمعنا رغم أهميتهما. وبشكل وآخر أدلج الشعراء والكتاب والنقاد الغريب من الحريات، وترجموها إلى مايصح في أوساطنا، فأطلقوا العنان لألسنتهم، وباحوا بما يختلج في خواطرهم من آمال، وما يعتمل بنفوسهم من آلام، وكان لهم بذلك متنفس، وكوة من البوح بما يعانون منه، فمنهم من أعاد توثيق احداث كان يخشى ذكرها حتى في أحلامه، فأرخها كذكريات للتاريخ ولقرائه، ومنهم من وجد في الحرية ضالته بعد كبت خانق، ففتحت قريحته في البوح بمسميات جماليات الحياة ومايهوى وما يعشق، ومنهم من اتخذ لنفسه موضع الرقيب وموقع الناقد ومنصب المنبِّه والمحذِّر، فأصبح رقيبا على أفعال معيته وردودها، ممن عاشوا معه كسوف الشمس الطويل في تلك العقود، وناقدا لتصحيح من يتخبط في خطوه وسيره، وعمل على تقويمه وتعديله، ومنبها من عاقبة اليأس والخذلان والخَوَر، والتقهقر الى الوراء.
وقطعا فان أول غبطة شعر بها الكاتب، هي أنه استطاع قول مايريد من دون خشية رقيب (زيتوني) او رفيق (بعثي) يجبره على التملق والتحيز، فراح يصب جل اهتمامه في ذكر سلبية وهفوة هنا، وتقصير وتقاعس هناك، وإهمال وتسيب في جانب، وتواطؤ وتخاذل في آخر، وساعده في هذا كثرتها -مجتمعة وفرادى- في سلوك بعض الشخصيات التي تولت دفة القيادة في ركن من أركان الدولة، فوُلدت من رحم هذا التغيير في المعطيات آثار إيجابية كثيرة، وتبدل ماكان قبل السقوط عما هو كائن بعده، ولم يعد ينطبق على الأوضاع مثلنا: (نفس الطاس ونفس الحمام).
[email protected]