كانت الجلسة العفوية هذه مرحة جدا جدا ومليئة بالضجيج والانفلات من كل نظام في النقاشات , اذ تكلمنا جميعا ( وتقريبا في آن واحد !) عن ترجمة اسم تولستوي الى الانكليزية والفرنسية , واعترضنا ( وبالاجماع !) , لأن الانكليز يسمونه ( ليو ) والفرنسيون يقولون انه ( ليون ) , اي ان كلاهما لا يعترفان , ان اسمه ( ليف ) بالروسية .
الامر ابتدأ , عندما طرح ف . سؤالا دقيقا , وهو – هل انهما يترجمان اسمه من حيث المعنى , ام انهما يرفضان اسمه الروسي ولا يعترفان به ؟ وقال موضّحا , اذا كانوا يريدون ترجمة معنى الاسم , فعملهم صحيح , واذا يرفضون اسمه الروسي فعملهم خطأ في خطأ . أجاب ص. قائلا ( وهو يكاد ان يصرخ !) , عملهم خطأ في خطأ بالحالتين , فكيف نترجم معنى الاسم الى اللغات الاخرى ؟ , وأنا ضد تلك الظاهرة الخاطئة سواء قام بها انكليزي او فرنسي او اي شخص آخر في العالم و من أي قومية اخرى , ونقطه راس سطر . نال هذا التعليق الحازم والصارم والحاد تأييد الجميع ( بالصراخ والهتافات والتصفيق !) وليس بالتصويت طبعا , وبدأت (قفشات !!!) التطبيق والامثلة من الآخرين , اذ قال ل. ان اسم تولستوي بالعربية سيكون ( ليث ) تولستوي , بدلا من ( ليف ) تولستوي بالروسية , لأن ذلك ( أحلى !) للاذن العربية بألف مرّة من كل هذا ( الليونيّات الانكليزية والفرنسية كافة !) , وعلّق م. ضاحكا , بل انا اقترح , ان يكون اسمه ( ضرغام ) , حتى يكون تولستوي أقرب للعرب قلبا وقالبا , اذ لن يستطيع الانكليزي والفرنسي والروسي طبعا ان يلفظ ( ضرغام ) ابدا , وعلّق ح. وهو يقهقه , يستطيع يستطيع , اذ سيقول ( دركام ) , وصاح ع. من بعيد , بل هزبر , هزبر , واستمر سيل المقترحات من هنا وهناك وسط قهقات الجميع وصراخهم – أسد أحسن …. سبع أكثر قربا للهجتنا ….
هدأت عاصفة التعليقات بعد ان ( تعبنا !) من الصراخ والقهقهات والمقترحات الساخرة , و ذكّرنا أحد الزملاء من الحاضرين في الجلسة , ان الكثير من المترجمين العرب , ومنهم سامي الدروبي و غائب طعمه فرمان كانوا يسمون تولستوي ( ليو ) ايضا , بدلا من ( ليف ) , رغم ان غائب طعمه فرمان كان يعيش في موسكو ويعمل في دور النشر السوفيتية , التي تترجم الادب الروسي . ساد الصمت قليلا , اذ ان اسم غائب طعمه فرمان مهمّ جدا بالنسبة لمسيرة الثقافة في العراق و عزيز علينا جميعا , وقلنا , نعم , هذا صحيح , لأن غائب كان مترجما عن الانكليزية الى العربية , وبهذه الصفة وصل الى الصين ( ولم يكن يعرف اللغة الصينية ) , وعمل في دور النشر بالعاصمة بكين , ثم انتقل بعد فترة وجيزة الى موسكو للعمل مترجما عن الانكليزية الى العربية ايضا , اذ انه لم يكن يعرف اللغة الروسية بتاتا , ولكنه تعلّمها بعدئذ بجهوده الخاصة نتيجة للفترة الطويلة من الحياة في موسكو والتعايش مع الروس هناك , رغم انه استمر طوال حياته بالتحدّث غير السلس ( بتعبير دبلوماسي ! ) بها , وكان واضحا لأي شخص , ان غائب لا يستطيع التحدث بطلاقة عند الكلام بالروسية , ولكن غائب اصبح ظاهرة فريدة ومدهشة في مجال الترجمة بعد ان تعلّم الروسية , اذ انه كان يترجم عن الانكليزية ويقارنها بالروسية في آن واحد , او بالعكس , اي يترجم عن الروسية ويقارنها بالترجمة الانكليزية , ومن بين الثمانين كتابا التي ترجمها بهذه الطريقة الرائعة ,هناك كتابان لتولستوي , يحتويان على قصص له , وقد صدرا ( حسب ذاكرتنا ) باسم ( ليو تولستوي ) وليس ( ليف تولستوي ) , رغم انهما صدرا آنذاك عن دار النشر السوفيتية في موسكو نفسها .
قال صديقنا , الذي كان يستمع الى كل ضجيجنا وتعليقاتنا الساخرة صامتا طوال الوقت – انكم ايها الاصدقاء تتحدثون عن مسألة ثانوية جدا في مجال الادب الروسي , وهي اسم تولستوي , بينما نسيتم , اننا , نحن العرب , لا نمتلك لحد الان بالعربية سوى ذلك الجزء اليسير من مجموعة المؤلفات الكاملة لتولستوي , هذه المؤلفات التي تقع بتسعين مجلّدا ( وهو رقم فريد بين مؤلفات الادباء في العالم) , وقد بدأت روسيا بطبعها عندما احتفلت عام 1928 في الذكرى المئوية الاولى لتولستوي , وان روسيا تستعد – ومنذ زمن ليس بالقصير – للاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لتولستوي في عام 2028 , وان هناك لجان عديدة تعمل من اجل اصدار مجموعة جديدة لمؤلفاته الكاملة , والتي يتوقعون ان تكون أكثر من مئة جزء هذه المرة , وأضاف صاحبنا قائلا , لماذا لا تتكلمون , مثلا , اننا لا نمتلك لحد الان ترجمة مباشرة عن الروسية لروايته الملحمية الكبرى ( الحرب والسلم ) ؟ أجاب أحدهم معلّقا – يقال , ان معهد الترجمة في موسكو طرح مرة مقترحا بشأن ترجمة رواية تولستوي ( الحرب والسلم ) عن الروسية الى العربية مباشرة , وأبدى المرحوم خيري الضامن في حينها استعداده لانجاز هذا المشروع , ولكن كل ذلك لم يتحقق مع الاسف .
بعد تعليق صديقنا ( الصامت !) عن مؤلفات تولستوي التسعين , وبعد الاعلان (المثير!) بشأن مصير ترجمة ( الحرب والسلم ) عن الروسية مباشرة , بقينا جميعا صامتين , ونسينا ضجيجنا وتعليقاتنا الساخرة عن اسم تولستوي …