غالبا”ما كانت العلاقة بين حقول السياسة وميادين الثقافة ؛ قلقة ، حذرة ، ملتبسة ، إشكالية . ليس لأن مجال الأولى هو الواقع بكل تفاعلاته وعلاقاته ، وان مجال الثانية هو الفكر بكل إرهاصاته وتمظهراته فحسب ، بل لأن نزوع السياسة يرمي إلى نشدان المحافظة وبلوغ الثبات وتحقيق الاستقرار ، في حين إن توق الثقافة يبغي التطلع إلى التغيير في الواقع والتطوير في المجتمع والتنوير في الوعي . وإذا ما كان الحال هكذا ، فما الداعي لربط هذه بتلك واستنتاج رذائل الأولى بدلالة فضائل الثانية ؟! . الحقيقة إننا لا نروم ، عبر هذه المقارنة المتطرفة والمقاربة الحديّة ، دفع التعارضات والتمايزات بينهما إلى حدودها القصوى ، بحيث يستحيل الفعل السياسي الذي يفتقر إلى بوصلة الثقافة ، إلى موقف ذهني فجّ وتصرف إجرائي أهوج . كما لا نعتزم ، للأسباب ذاتها ، عزل الثقافة عن واقعها الحي وانتزاعها من بيئتها المتعضّية ، وبالتالي فصلها عن السياسة ببرزخ من المحارم والممنوعات ، لكي نجعل كيانها طاهر روحها نقية . إن مجرد التصور باحتمال وجود مثل هذا التقاطب والتصالب ، قمين بإحالة المسألة إلى نوع من اليوتوبيا على صعيد الواقع والميتافيزيقا على مستوى الفكر ، وإلحاق الضرر ، من ثم ، بكلا المبحثين المتلازمين وما ينطوي على ذلك الفصل من إشكالات نظرية وتداعيات واقعية . ولذا فان كل ما في الأمر هو إننا – وان كنا نسعى ضمنيا”إلى ترسيخ فكرة وتكريس معلومة مؤداها ؛ إن طابع العلاقة بين السياسة والثقافة يتسم بالتفاعل جدليا”والتواصل عضويا”، وبالتالي لا يمكن الحديث عن حدود قطعية وتخوم نهائية بين مجالات هذه وفضاءات تلك – توخينا تضمين الموضوع رسالة مفادها ؛ إن السياسة متى ما أصبحت مطية لكل راكب ومؤلا”لكل راغب ، فان مسألة تحولها إلى وباء يصيب الجميع ومسّ يتلبس الكل ، ستصبح أمرا”واقعا”وعرفا”بديهيا”، لا مناص من تحمل عواقبه الوبيلة والرضوخ لويلاته المدمرة . وحينذاك لا فرق بين الأكاديمي الذي يمتهن تدريس العلوم والمعارف في الجامعات ، وبين الراعي الذي يقود قطيع من الإبل في البراري والفلوات . بين العالم الذي لا ينفك يمتحن فروضه في مراكز البحوث والمختبرات ، وبين صاحب الدكان الذي يتعاطى التجارة بالكماليات والعطاريات . بين المثقف الذي يعكف على قراءة النصوص ويكدح في تحليل الأفكار وتأويل السرديات ، وبين الدرويش الذي يلقم مريديه عجائب الأساطير وغرائب الخرافات . بين السياسي الجامح الذي لا همّ له سوى الفوز بصولجان السلطة والإمساك بأعنة النظام ، وبين رجل الدين المرائي الذي يتقن فن المزج بين العسل والدم ، والخلط بين المقدس والمدنس ، والتمويه بين الحق والباطل ، لأجل أن يكون ظهيرا” للزعيم الأوحد والرئيس الطاغية ، إن لم يكن يسعى للانقلاب عليه والحلول محله . وهكذا فالكل سيغدو صريع حمى التكالب على السياسة والتغالب على السلطة ، حتى وان استحالوا إلى لصوص محترفين أو قتلة عتاة ، طالما لا يوجد ما يردع نوازعهم الشريرة ويقمع دوافعهم البهيمية ، فضلا”عن تهذيب أخلاقهم وتشذيب سلوكهم ، وعقلنة وعيهم وأنسنة علاقاتهم . هنا تدخل الثقافة كعامل تنوير فكري وتربية أخلاقية وتوجيه سلوكي وتوعية اجتماعية ، يعصم عناصر المجتمع من عواقب الشطط القيمي ويقيهم من مثالب الانحراف الإنساني ، ليس لأنها فقط تحضّ (قولا”) على نبذ العنف في السياسة والعدوان في الاناسة ، والإقلاع عن التعصب في الدين والتطرف في المذهب ، والتخلي عن الإكراه في الولاء والإجبار في الانتماء . وإنما بالإضافة إلى ذلك – وهذا هو الأساس – تبني (فعلا”) صرح الإنسان من الداخل ، وتنشئ معمار الشخصية من الجذور ، وتعمر مدماك المجتمع من الأعماق . وعليه فإذا ما تجاهلت السياسة ضرورة الثقافة لإنارة طريقها وتقويم سبيلها وتحسين أدائها ، وتغاظى السياسيين عن أهمية المثقفين لترشيد قراراتهم وتوجيه خياراتهم وتفعيل قدراتهم . فان احتمالات شقاء الثقافة ومكابدة المثقفين ستكون واردة الوقوع إن لم تكن حتمية ، وحين ذاك لا علاج يرتجى في مجتمع فقد صمّام أمانه ، ولا أمل يتوخى في واقع أضاع بوصلة اتجاهه . ولأن امتهان العمل السياسي في العراق ؛ لا يتطلب من المرء سوى توفر روح التمرد للانقضاض على السلطة ، ولا يشترط غير حيازة عناصر القوة للإطاحة بالنظام – وهو الأمر الذي وسم السياسة على الدوام بارقاء الدماء والتهام الضحايا – فان الجيل (المحسّن) من السياسيين العراقيين الجدد ، وجدوا فيه ضالتهم المنشودة وعثروا من خلاله على بغيتهم المقصودة . ليس لأن العراقيين بالعموم – لا سامح الله – يحبون الانخراط بالساسة ويعشقون الانضباط بالسلطة ، لأسباب حضارية تتعلق بنزوعهم العقلاني لإنشاء دولة وطنية قوية يفتخرون بها ، وبناء مجتمع مدني متماسك يعتزون به ، وإحياء شخصية عراقية صلبة ينتمون إليها . بل لأن السياسية – بعرفهم – هي الطريق الأسرع لارتقاء سدة الحكم ، والسبيل الأضمن لبلوغ عرش السلطة ، والمجال الأسهل لامساك مقاليد النظام ؛ حيث فرص الاستئثار بالقوة بكل أشكالها ، والاستحواذ على الثروة بمختلف أنواعها ، والاستفراد بالقيادة بجميع ضروبها ، والتحكم بالمصائر بشتى صورها . وكما في مساوئ عسكرة المجتمع وأدلجة الدين ، التي لحقت بمكونات هذا المجتمع المبتلى بجهّال السياسة وعيّال المعرفة ، فان حصيلة تسييس الوعي وتحزّب الثقافة ، لا يمكن لها إلاّ أن تفضي إلى مزيد من الخراب على المستوى الحضاري ، والمزيد من الاحتراب على المستوى الاجتماعي ، والمزيد من الاغتراب على المستوى النفسي . على خلفية الاعتقاد الوهمي الذي يعشعش في الأذهان ويربض في العقول ؛ بأن الخلافات السياسية بين الأحزاب المتصارعة ، لا يمكن تسويتها إلاّ بانتهاج سبيل العنف واللجوء إلى القوة ، مثلما إن الاختلافات الإيديولوجية بين الكتل المتصدعة ، لا يمكن معالجتها إلاّ بترجيح كفة الخيارات التعصبية والعدوانية ، كما إن التباينات الاقوامية والطوائفية والقبائلية ، لا يمكن تذليلها إلاّ باستخدام وسائل التطهير والابادة والاستئصال . وفي حين إن بذار السياسة بسيط ونموها سريع وحصادها وفير – خصوصا”عند تفاقم المحن وتعاظم الإحن ، حيث التوترات في ذروتها والصراعات على أشدها – فان زرع الثقافة صعب ونضوجها بطيء وقطافها شحيح . وهو الأمر الذي يجعل من زؤان الأولى يطغى على براعم الثانية ؛ مزاحما”إياها على حقلها ، ومنافسا”لها في تربتها ، ومتطفلا”عليها في نسغها . لذلك يلاحظ إن السياسي الدخيل – وما أكثرهم وقت الانكسارات والانهيارات – لا يخشى من شيء مثل ما يخشى من المثقف الأصيل ، إذ إن الملاحظات النقدية التي يبديها هذا الأخير ، لا تلبث أن تفضحه وتعريه حتى وان كانت لا تعنيه مباشرة ، لأنه يشعر شخصيا”بجهله في أمور السياسة وتخلفه في قضايا الاجتماع ، وان التحليل الموضوعي الذي يمارسه سرعان ما يؤرقه ويمضّه ، حتى وان كان لا يقصده بذاته ، لأنه يدرك بقرارة نفسه مستوى خوائه الفكري وجدبه الثقافي . وعلى هذا الأساس فلن يطول الأمر حتى يقلع (السياسي) عن ابتسامته الصفراء ، ليكشر عن أنيابه لافتراس (المثقف) ، كما انه لن يتردد حتى يخلع قفازاته المخملية ليظهر مخالبه لتمزيق (الثقافة) . ولكي لا يبدو حديثنا وكأنه ضربا”من التخيل والتوهم ، فان لنا فيما تمخض عن تجربة العراق المرة ، أكثر من دليل وأسطع من برهان ، حيث تسبب طغيان السياسة وزعران السياسيين ، ليس فقط في ارتهان الثقافة لمرجعيات الطوائف المتصارعة وتشديد عبوديتها لأجندات القبائل المتخاصمة ، وتحويلها ، من ثم ، إلى مجرد وسيلة إعلامية / دعائية مدججة بالأكاذيب ومحشوة بالأباطيل فحسب ، بل وفي حرمان المثقفين من التمتع بحقوقهم المادية والاعتبارية ، والحيلولة دون ممارسة دورهم التوجيهي والقيام بوظيفتهم التنويرية ، في مجتمع هو بأمس الحاجة إلى من يقيله من عثرته ، وينهضه من كبوته ، ويشخص له أخطائه ، ويؤشر لديه انحرافاته ، ويعيد له وعيه ، وينمي لديه وطنيته ، ويحي فيه عراقيته . وإذا كانت الثقافة – في الأوضاع الطبيعية – لازمة من لوازم الوجود الإنساني ، فأنها – في الحالات الاستثنائية – تصبح ضرورة مصيرية ، يفضي إهمال مقوماتها أو تجاهل عناصرها ، إلى فناء المجتمع المعني واندثار حضارته . فهل يا ترى يتعض من بيده زمام الأمور في السياسة من حكمة التجارب ، وهل يرعوي أصحاب الحل والعقد في السلطة من موعظة الممارسات ؟؟ . الحق أقول إني أشك في ذلك !! .