بغض النظر عن السياسة التي انتهجها الزعيم عبد الكريم قاسم خلال فترة حكمه للعراق بعد سقوط النظام الملكي عام 1958 لكن الاحداث التي مرت على العراق منذ استقلاله قد اثبتت ان قاسم كان انزه حاكم حكم العراق وهذا ليس مدحا وتملقا للزعيم ليغدق علينا بالعطايا فقد بات في عداد الموتى .. وللامانة فقد عاش هذا الزعيم زاهدا ومات عفيفا كانت كل ملكيته بعد اعدامه عام 1963 سبعة عشر دينارا وليس سبعة عشر مليارا من الدولارات .. مات ولم يملك فللا او شاليهات مطلة على بحر البلطيق او بحر ايجه او بحر مرمرة كانت كل ملكيته بيتا صغيرا من املاك الدولة .. مات هذا الزعيم رميا بالرصاص بعد الاطاحة بحكمه عام 1963 ولم يجد قبرا يأويه في ارض العراق .. ورغم التداعيات السياسية التي حصلت خلال فترة حكمه فقد عرف بوطنيته وحبه للطبقات الفقيرة التي كان ينتمي إليها. كان يسميه كل الشعب العراقي ماعدا اعدائه في الشارع وكافة وسائل الاعلام آنذاك ب”الزعيم الأوحد” حبا به لتفرده في محبة الفقراء دون كافة السابقين في حكم العراق ..
كان هناك جدل وتضارب حول الإرث التاريخي لقاسم فالبعض يعتبره “نزيهاً وحريصاً على خدمة الشعب العراقي ولم يكن يضع لشخصه ولأهله وأقربائه أي أعتبار أو محسوبية أمام المسؤولية الوطنية” مثلما يحصل حاليا من قبل البعض من السياسيين الذين اعتبروا المنصب فرصة لسرقة المال العام على حساب قوت الشعب الذي غالبيته بات اما عاطلا عن العمل او متشردا .. لم يكن الزعيم قاسم يحمل الضغينة لاحد فهو انسان متسامح ومؤمنا بمبدأ ” العفو عند المقدرة ” وسياسة التسامح والعفو عن المعارضين كان نهجا له حتى لمن يضمر الضغينة له .. كان قاسم يتبنى مبدأ ” عفا الله عما سلف” وأصدر الكثير من قرارات العفو عن المحكومين بالإعدام ولم يوقع على أحكام إعدام .. ومن الاحداث التي تدلل على طيبة قلب ا لزعيم ماحدث بعد نجاح ثورة 14 تموز عام 1958 حيث قامت بعض العناصر المحسوبة على الثورة باعتقال اشخاص تدور حولهم الشبهات بانهم من اتباع النظام الملكي او ماكانوا يطلقون عليهم تسمية ” الرجعية ” وكان منهم والدي حيث اودع المعتقل واثناء ذهاب والدتي لمواجهتة شاهدت الزعيم واقفا في ركن من اركان ساحة قريبة وهو يحيي الجماهير التي كانت تهتف له وتقدم طلبات ترحم ومساعدة من خلال رسائل كتبت على الورق وهو يقوم بتلقفها بأريحية وابتسامة تدلل على طيبته فنقلت والدتي هذه المشاهد الى والدي داخل السجن وطلبت منه كتابة رسالة استرحام للزعيم لاطلاق سراحه فرفض والدي هذا العرض بداية الامر وبعد اصرار والدتي على كتابة الطلب وبسبب عدم توفر الورق داخل السجن كتبها على غلاف علبة السكائر الجمهوري مضطرا وما ان استلمت والدتي الطلب اسرعت الى مكان تواجد الزعيم عبد الكريم قاسم وسلمته له ولم تمضِ ايام قليلة حتى اطلق سراح والدي فعاد بصحته وعافيته ليواصل عمله موظفا في متصرفية لواء بغداد ..
بهذه الروحية من التسامح كان يتعامل الزعيم قاسم مع ابناء شعبه وهي روحية تدلل على صفاء القلب والنية الحسنة في التعامل مع ابناء شعبه .. وروحية التعامل الانساني مع الموقوفين والمعتقلين ليست جديدة فقد كان الملك فيصل الثاني يمتلك ذات صفة التسامح ومن الروايات التي تذكر ماحصل مع الشيخ والمفتي والقاضي امجد الزهيري الذي لمع اسمه وتألقت شخصيته في ايام العهد الملكي فقد صادفته في الطريق إمرأة في باب المعظم لم تكن له اية معرفة سابقة بها كانت الشرطة قد اعتقلت ابنها لاشتراكه في مظاهرات سنة 1948 سنة الوثبة.. راحت تلك المرأة تتوسل بالشيخ و تلتمس منه التدخل لدى السلطات لإطلاق سراح ابنها من السجن فطمأنها الشيخ ووعدها بأن يبذل جهده من اجل إلإفراج عن ابنها دون ان يعرف أي شيء عن موضوعه او جرمه.. عاد الى البيت و تناول التلفون ليكلم جلالة الملك فيصل الثاني… فبادر عامل التلفون على الفور بفتح الخط على الملك فيصل الثاني مباشرة في مكتبه الخاص. فحدثه الشيخ عن موضوع هذه الإمرأة و ابنها البريء المعتقل و التمس من الملك ان يقوم بدوره و يأمر بإطلاق سراحه وان يعيده الى اهله.. طمأنه الملك على ذلك بأنه سيستعمل سلطته و يأمر بالإفراج عن هذا الشاب. لم يكن امجد الزهاوي قد اغلق التلفون و انصرف لتناول عشائه حتى رن جرس التلفون ثانية. . مكالمة من البلاط إنه فيصل الثاني فقال له الملك ” سماحة الشيخ انت لم تعطني اسم هذا الشاب لآمر بإطلاق سراحه .. شنو اسمه الكامل” اخبر جلالته انه في الواقع لا يعرف اسم هذا الشاب و حكى للملك حكاية تلك المرأة .. قال له الملك ” و لكن كيف سأطلق سراح من لا اعرف اسمه.. هناك عدد كبير من المعتقلين في السجن” .فأجابه امجد الزهاوي ” و انتو ليش حابسين كل هالشباب.. فكوا عنهم كلهم و خلي هالوليد يطلع وياهم”
لم يجد جلالة الملك بدا من ذلك. لقد وعد الشيخ المرأة بلإفراج عن ابنها و وعد الملك الشيخ الزهاوي بتلبية ذلك . .و لم يبقَ بيده غير ان يطلب من المسؤولين إطلاق سراح كل هذه الجوقة من المعتقلين الشباب وهو ما كان .. بهذه الروحية يتعامل القادة مع ابناء شعبهم وليس بروحية الانتقام واذلال المقابل .. وحسنا فعل مجلس النواب العراقي عندما صادق على قانون العفو العام الذي سيسهم في اتاحة الفرصة لمن جنح من العراقيين في العودة للاندماج في الحياة العامة ولاشاعة روح التسامح والاصلاح في المجتمع .