لايمكن لاي منصف ان يتغافل هامش الحريات التي اتصف فيها حكم الرئيس المرحوم عبد الرحمن عارف .. فقد اتسم حكم عارف باتساع هامش الحريات الثقافية وشيوع روح التسامح والترفع عن الصغائر والضغائن والابتعاد عن الوشايات .. ولم يوقع أبدا طيلة حياته على أي مرسوم للإعدام ومن المواقف التي تسجل على طيبة الرئيس والتي تعكس بساطته وميله للهدوء.. كان رحمه الله يرفض أن تحفه المواكب الرئاسية ولا يرتاح لمنظر سيارات الحماية وهي تلاحقه بصفاراتها وزعيقها وتجاوزاتها السافرة على نظام المرور فقد كان يكتفي بسيارة واحدة تمشي خلفه على مهل خلافا لما يحصل اليوم من صور الابهة وحياة الترف والتجاوز على مشاعر المواطنين عند مرور مواكب اصحاب السعادة والسيادة والمعالي من المسؤولين ويقال ان الرئيس عارف وفي يوم من الأيام قرر أن يقود سيارته البيضاء بنفسه ويخرج مع زوجته الكريمة لزيارة أقاربه ولم ترافقه حينئذ أي قوة للحماية وصادف أن تعرضت إحدى عجلات السيارة لعطب مفاجئ في منتصف الطريق فمرت به سيارة لعائلة عراقية يقودها طبيب شاب فاكتشف الشاب بان رئيس الجمهورية متوقف على جانب الطريق وإطار سيارته معطوب فترجل من سيارته وتوجه إلى الرئيس ..
وقال له ” هل أنا متوهم أم انك الرئيس شخصيا ” فتبسم الرئيس وقال له ” نعم يا ولدي أنا الرئيس” فشمر الشاب عن ساعديه وقام باستبدال العجلة المعطوبة ورافق الرئيس في طريق العودة إلى البيت حرصا منه على سلامته.. ومن ذكرياتي عن الرئيس عبد الرحمن عارف بعد الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 حدثت ثورة اعلامية كبيره وفي ضوء هذه الثورة صدرت مئات الصحف الاهلية وكان من ضمنها صحيفة الهلال التي يرأس تحريرها الصحفي عماد ال جلال وكنت احد العاملين فيها وقد كلفني رئيس التحرير باجراء لقاء صحفي مع الرئيس عبد الرحمن عارف الذي يسكن منطقة المنصور وفي يوم جمعه جمعت اوراقي للقاء الرئيس وما ان وصلت بيته الفخم حتى رأيت شخص كبير السن يجلس امام طاولة في ركن من اركان الحديقة وما ان طرقت الباب حتى نهض الرئيس متجها صوبي وفيما هو يقترب مني بانت ملامح ذلك الشخص فاذا هو الرئيس عبد الرحمن عارف وبعد وصوله امامي اديت له التحية وطلبت منه اجراء لقاء صحفي فرحب بالطلب وبدأ ينادي فتاة لا اعرف علاقتها به لكني ايقنت انها خادمة وطلب منها فتح الباب الرئيسي للدار وفيما بدأت الفتاة تنفيذ امر الرئيس فاذا بي اشاهد شخص يقف خلفي من خارج الدار وبدأ بالاستفسار مني عن طبيعة الزيارة وبعد اخباره طلب مني مرافقته الى البيت المجاور الى بيت الرئيس وعرفني بشخصيته قائلا ” انا ابن الرئيس عبد الرحمن عارف العميد المتقاعد قيس” واجلسني في حديقة داره مقدما لي كرم الضيافة وبدأت حديثي معه لتعريفه بطبيعة اللقاء الذي ساجريه مع الرئيس عبد الرحمن عارف لكنه اعترض على اجراء هذا اللقاء
وقال ” ان الوضع الامني في العراق حاليا غير مستقر وان اجراء مثل هذا اللقاء من المحتمل ان يعرض العائلة الى مخاطر ليست بالحسبان خاصة وان اكثر اعضاء القيادة العراقية السابقة المطلوبين من القوات الامريكية مازالوا طلقاء ” استجبت لطلبه على امل اجراء اللقاء في وقت لاحق يجنب عائلته الوقوع في مخاطر. . ومن المواقف التي تدلل على بساطه الرئيس يقال ان الرئيس عبد الرحمن عارف وبعد عودته من المنفى الى العراق ذهب الى احد المصارف القريبه من داره لاستلام راتبه التقاعدي واثناء ما كان ماسك دوره لإستلام راتبه و عندما قرأت الموظفة هويته … و بخته و قالت له ” هاي شنو .. جايبلي هوية مزورة مكتوب بيها رئيس جمهورية سابق ” و قالت له بالنص ” اتروح لو اخبر عليك الامن عيب عليك انت رجل كبير ” فرد عليها ” يا ابنتي و الله هذه هويتي و انا رئيس جمهورية سابق انا عبدالرحمن عارف ” … و بعد ان ارتفع صوت الموظفة انتبه المدير و جاء راكضا معتذرا منه… و الموظفة مذهولة و حائرة … و صرخ بوجهها المدير و توعدها بالثبور و عظائم الامور … فقال له الرئيس عبد الرحمن محمد عارف ” لا هي حقها لا سامعة بي و لا تعرفني هي اصغر حتى من اولاد اولادي ” ..لم تكن هذه المواقف غريبة على هذا الرجل المتواضع وكان غالبا مايشاهده الناس في سوق المأمون الشعبي مع عقيلته “أم قيس” وهو يتبضع الخضروات واللحوم مرتديا دشداشته البيضاء سالكا في تصرفاته العفوية سلوك أي مواطن من عامة الناس معبرا عن البساطة المتناهية التي طبعت حياته وحياة أبنائه من بعده وعلى رأسهم ولده قيس عبد الرحمن ..
لم يستمر عبد الرحمن محمد عارف في حكم العراق طويلا حيث تم عزله وتسفيره الى تركيا بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في 17 تموز عام 1968 ثم عاد الى العراق ليكمل حياته في بلده حتى وفاته عام 2007 في مدينة الحسين الطبية في العاصمة الأردنية عمان يوم 24 أب عام 2007 وقال نجله الأكبر العميد المتقاعد قيس أن والده توفي بسبب كبر سنه وليس بسبب معاناته من أي مرض عضال وقد نعاه رئيس الجمهورية جلال الطالباني واصفاً إياه بأنه ” بذل جهوده في خدمة شعبه وكان مثالاً للنزاهة والإستقامة وروح التسامح ” مضيفاً بأنه “سعى إلى إرساء وتعزيز دعائم الإستقرار في البلاد” ،كما عزى رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الشعب العراقي بوفاته.. وشيع جثمان الرئيس الراحل إلى مثواه الأخير في مقبرة شهداء الجيش العراقي في منطقة المفرق قرب الحدود الأردنية العراقية وشارك في مراسيم التشييع ممثلون عن رئاسة الجمهورية والحكومة العراقية وسياسيون ووزراء سابقون في عهد الراحل والسفير العراقي في عمان وعدد كبير من أبناء الجالية العراقية …وهو الرئيس العراقي الوحيد الذي يتوفى وفاة طبيعية مقارنة بظروف الرؤساء الذين سبقوه أو خلفوه في حكم العراق