نحن العراقيون لا نفتخر اننا كنا ومازلنا وقودا للحروب والازمات والحصار والجوع والبطالة ولا نكابر ونقول ان كل الاحداث التي تمر علينا ذات قيمة معادلة لما جنيناه من الاحداث السابقة , لأن في هذا الموقف الأنهزامي تراجع خطير عن جوهر العراقيين الحقيقي الذي يعرفه العالم وإنبهر بريادته في البناء الإنساني وبعمق حضاراته القديمة التي شهدت لها التوراة والانجيل .
والأجدر ان يكون موقفنا من الحروب والازمات الماضية والحاضرة باللوم والغضب معا على الحكام الأغبياء الذين تقاطروا على حكم العراق ببوصلة الحرية الشخصية المطلقة في اتخاذ قرارات الحرب والقتل والزج بالسجون حتى اوصلوه الى ماهو عليه الآن , فضلآ عن إدانة آلية اعمالهم منذ انتهاء خلافة الإمام علي بن ابي طالب ع ,
لأن ذلك زاد في البؤس والشقاء في آلية حياة العراقيين بشكل خاص وفككت مكوناته لأسباب يعرفها الجميع نذكر منها نتفآ على سبيل المثال ; التناحر الفلسفي بين المذاهب وأستغلال طرف على آخر للتأثير على مزاج العامة في المدن مما ولّد مناخآ وأُسسا حرّضت على نشوء حركات سياسية أسلامية اغلبها اصطبغت بالصبغة الشيعية من حيث الشكل الخارجي لتستغل منسوب اغلبيتها بالعراق وكسب ودها ,
بينما مبادئ هذه الحركات كانت احيانآ لا تمت بصلة لا بجغرافية العراق ولا بالعقيدة الأخلاقية الملتزمة بالسلوك والوجدان الإنساني للشيعة , بل اتكأت عليها لتخفي وجهها القبيح مستغلة غياب إمامهم الأعلم الذي دأب على أن لايخرجهم من باب الهدى ولا يدخلهم في باب الضلالة وإباحة المحرّمات التي استقطبوا بها الفاسدين ليكونوا انصارآ لهم من خلال خطاب فقهي مختلف ومنافس لخطاب المذاهب الأصيلة , وكانت هذه الحركات تظهرعلى مراحل من تلك الحقبة .
من هذه الحركات حركة القرامطة التي ظهرت سنة 258 هـ وحركة الزنج التي قامت سنة 255 هـ وقضى عليها القائد الموفق شقيق الخليفة العباسي سنة 269 هـ , وحركة الخرّمية التي ظهرت في عهد الخليفة العباسي المأمون وقضى عليها اخيه غير الشقيق المعتصم بالله سنة 222 هـ .
كانت هذه الحركات عدوة للإسلام بالدرجة الأولى , أما قادتهم فقد ” كرهوا ما نزّل الله ” محمد 9 وبشكل تام , وذات خطورة على نسيج المجتمعات المدنية ,إذ كان جلّ همّها هو تحقيق الاهداف الشخصية وإشاعة المحرّمات , أما اهدافها الباطنية فقد كانت واضحة وصريحة في إقصاء تلك المذاهب وكل حوار معها مع أن في ظاهر لسانها تطابق بقصد مصادرة قواعدها الشعبية ولكن في قلبها خلاف ذلك تمامآ .
تقف على رأس هذه الحركات بهذا المعنى حركة القرامطة , إذ كان مؤسسها ينوء بأثقال عقدة النقص وبآثارها على حالته النفسية التي تأ زّمت حتى أفقدته معرفته بحجج خالقه عليه وإنسانيته وظلَّ جراء فقدهما متوهمآ أنه بسفك الدم وإستحلال المحرّمات وارتفاع اصوات السبايا سيثأر للعذاب الذي تعرض اليه من جراء نظرة المجتمع الدونية له بسبب عاهته الخلقية .
ثانيآ ; حينما قضي على هذه الحركات الاسلامية التي كانت تهيء الموت البطيء للعقائد الفقهية المختلفة الموجودة على الارض من اجل التحكم بالشعب العراقي , انقلبت آلية الحياة في حقبة الخلافة العثمانية الى نشوء احزاب سياسية من حيث السطح إلا انها من الناحية الجوهرية هي كيانات تدعو الى إسقاط الملوك والأنظمة الدكتاتورية والسيطرة على البلدان وممارسة السلطة كبديل عنها من ناحية وتجميد المذاهب الفقهية والالتواء حولها للحيلولة دون ارتباطها بذاكرة الشعب وانشغاله بتعاليمها وشل حركة التواصل معها واجتذاب الناس بالغايات المادية لانشاء القواعد الشعبية لها ,
وهذا ما حدث فعلآ إبان فترة حكم البعث الذي زاد على ذلك بإعتقال رجال الدين وازهاق ارواحهم بالسم داخل السجن واحيانا بقتلهم بحوادث دهس مخطط لها واحيانا اخرى بالاغتيال في وضح النهار وكان مجمل هذه الاحزاب ينظرون الى الوجود الالهي بغير حزم ولأغراض سياسية وينظرون الى العدم بعين الرضا وهم به حازمين .
من قادة هذه الأحزاب من مات واهمآ انه سينتصر على المذاهب الفقهية , ومنهم من استعجل بلوغ الأهداف وحزبه على وشك التفكك والرحيل فشرع الى اقامة تحالفات مع احزاب اخرى واهمة مثله لعله يخفف من معاداتها له .. وهكذا .
ثالثآ ; بعد النهضة الاوربية وسقوط الدولة العثمانية وبروز الصراع العربي مع الاستعمار البريطاني والامبريالية الامريكية على أثر معاهدة سايكس – بيكو , بدأت مرحلة نشوء احزاب سياسية إسلامية في الخمسينيات من القرن الماضي واخرى سياسية مرحلية وغير مرحلية .
من هذه الأحزاب السياسية من وقف بجانب الاتحاد السوفيتي في حينه كالاحزاب الشيوعية في العراق وفي سوريا ومصر والمغرب واليمن الجنوبية ومنها ايضا الاحزاب القومية والحركات الناصرية التي أنشأت لتكون ندآ للأحزاب الشيوعية في الوطن العربي ومنها حزب البعث المحظور .
هكذا كانت الأحزاب في كل مرحلة من مراحل الحياة , لاتدرك جمال نضالها إلا بالحروب والسجن والتعذيب وفي نهاية المطاف يتساقط عناصرها جراء الضيق والضغوطات النفسية والتعب وصمت الجدران وتتفكك وتموت على سنّة صانعيها لأن جميع فلسفاتها وضعت للتقرب من اهداف الإنسان الغرائزية بعيدآ عن سنّة محمدص .
الاحزاب والحركات الإسلامية التي مرت على العراق وشعبه بشكل خاص لم تكن بآلية المذاهب الاربعة الفقهية التي بنيت على تقوى من الله لتلقى القبول لدى عامة الناس لأنها لا تمجد فكرة الوجود الإلهي حسبما وردت في كتب الأنبياء لذلك انهارت باصحابها ولم يجني منها العراق سوى الخراب والموت والعويل في السجون وعلى القبور .
ولكن مالذي اجتذب كل هذه الحركات والاحزاب الى العراق دون البلدان الاخرى ؟!
هل لأن العراق مهد الأنبياء والحضارات الإنسانية الأولى , أم المذاهب الأربعة نفسها هي التي اجتذبتها ؟ أم غنى ثرواته ; دجلة والفرات وشط العرب والخليج وخصوبة التربة الزراعية ونخيل التمر ؟!
وهل هناك من لم يَرق له الفتح الاسلامي للعراق وتسبب في ذلك الجذب , مثلما لم يَرق لآدم ان يكون بلا حواء ؟
الجواب عن دواعي الاجتذاب وبداية نشوء الحركات الإسلامية والاضطرابات والحروب في العراق , هو أمرشاق وطويل عند دراسته , لذلك نتركه الى ذاكرة المؤرخين لإضاءة العوامل الغامضة التي أثّرت في تقلبات وآلية مراحله التأريخية بشكل دقيق , وهذا هو التأريخ الذي ينبغي على المعنيين بشأن العراق التحدقيق فيه ودراسته قبل صناعة الاحزاب لكي ” لا تشير بوصلتها الى الفناء , وعلى مسار الوهم ترسم خطها القلق القصير “البريكان .
ان طرح حزمة من التساؤلات بصرف النظر عن الإجابات تعتبر دعوة الى مراجعة ودراسة وكشف المزيد من حقب وآليات الواقع الفعلي لكل حقبة تأريحية مرَّ بها العراق وما قدمته من ثمار سامة للمغامرين والمتمردين الذين انتجوا منها أفكارهم الظلامية ليعطوا لأنفسهم الحق بالتحكم في كل واقع حياة واستبداله بواقع آخر بيقينيات مزيفة , وكيف كُرهت ورُفضت حركاتهم بوضوح من قبل المجتمع العراقي وتلقت الضربات التي تستحقها .
لكننا نستخلص ان التغيّر في آلية نمو وتطور الحياة يتناسب طرديآ مع شعور الإنسان بالخطر على مصيره , وهو من الناحية الجوهرية يعني أن الإنسان ببصره يشعر بالخطر وليس بالبصيرة التي تستمد مصادرها من الدين الذي يحفظ له انسانيته ويبقي على آدميته مهما عتا الزمان عليه .
إذن بعد ان عرفنا أنباء الذين من قبلنا من خلال استرجاع الماضي بكل تقلباته واحزابه وحركاته وقادته والقرارات التي اتبعوها , نرى أنها كانت وبالآ على العراق وشاهدها هو العراق الحالي نفسه الذي صار إليه برماد الحروب الكثيف والاضطرابات والفتن ما جعل النظر اليه والتدخل في شؤون مافيه مسترخص من قبل الاعداء ,
وانتهت هذه الأحزاب الى السكون والزوال لأنها لوكانت تؤمن بالله واليوم الآخر لما لجأت الى ذلك وكانت بمثابة العذر للذنوب وترك الدين الذي جاء ليحفظ وجه البشر الحسن وفي هذا يقول الحق ” كمثل الذين من قبلهم قريبآ ذاقوا وبال امرهم ولهم عذاب اليم “الحشر15 . قيلت هذه الآية بحق كفار قريش ومثلهم اليهود من بني قينقاع وقريظة والنظير والمنافقين الذين زيّن لهم الشيطان أعمالهم وكانوا من حزبه ثم نكص على عقبيه وقال لهم ” إني بريء منكم إني أرى مالاترون ” الأنفال48 .
فهل يرى البعض ممن يريد وينشد تحقيق الاهداف ببصيرة استثنائية خارجة عن إطار الدين أن الآلية الجديدة لحياة العراقيين التي بدأت بتحشيد الكاتيوشا الستالينية بأنغام وإيقاع لهيبها المشتعل والمسيّرات , ستصنع لهم على الأقل الشاي الساخن والكعك في الصباح وعند العصر , وهل تبشّرهم بميلاد عصر جديد يبقي على تراثهم الإنساني ويسكّن عذاب اللاجئين والنازحين ويعيد السبايا من غابة القرود الداعشية وهم يرون “الضرَّ احسن منظرا واهون من مرأى صغير به كِبر”المتنبي ؟!
ليت هؤلاء بكبارهم المتشاوسين كِبرآ وصغارهم الذين لايبكون إلا إذا بكوا ولايضحكون إلا إذا ضحكوا ان يقرأوا التأريخ في كل وقت قبل الصلاة وحينما يقيمون الصلاة ويرفعوا أيديهم الى الله ليقولوا : ” اللهم أحفظنا من شر أعمالنا ولاتجعلنا من المُعارين وقرّبنا من الجنة وباعدنا من النار بما تأمرنا به ” ليتذكروا حسن الظن بالله وان يخافوا من ذنوبهم , وإن كانوا عراقيين منتبذين في وطن آخر , أن لايستكرهوا الجلوس مع من اختاروهم بكتاب الدستور على نائبات الدهر , ويدققوا ويحللوا نتائج مقذوفاتهم النارية والمسيّرات التي تصنع الحرب عن بعد ولاشيء غير ذلك , قبل ان تزل بهم نِعالِهم ويقدحوا زناد النار ويلبسوننا ثياب البلاء ليطول بنا الحزن والبكاء ويسألوا أنفسهم : كيف نقدح نارآ في وطننا ولانرى بأسنا ونعمتنا وعافيتنا إلا من عنده ؟
أما الذين وطئوا ثرى العراق وكانوا غرباء ولم يثبت لهم الإيمان بالعمل وأقاموا المذابح والمناحات وأكننوا في أنفسهم شأنآ من شؤون الحركات الظلامية وأستكرهوا نعمتهِ وضلّوا عن سبيل الله فإن كيد الله عليهم سيكون متينآ .