* مدخل
يتميز عصرنا الحالي بكونه عصر البحوث والاكتشافات، تتحكم به تقنيات عديدة هي حصيلة اكتشافات علمية سابقة. ويعد البحث العلمي، الاساس في تطوير الدول وتقدمها في مختلف الميادين. ففي مجتمعات التقدم والانجازات الحضارية التي حققها الانسان، لا يمكن الاستغناء عن الابحاث وبالتالي لا يمكن الاستغناء عمن ينتجها من مؤسسات متخصصة اخذت على عاتقها القيام بهذه المهمة. ففي مجتمع تترك له الدولة حرية التنظيم والتفكير، فان مجمل مؤسساته البحثية المستقلة التي تعمل في اطاره، تكون بمثابة مختبرات افكار (Think Tank) تمده بدورها بما يحفظ له امنه واستقراره وطريقة استثمار مقدراته من الثروات، ويحفظ نسيجه الاجتماعي والسياسي من الاخطار والتوترات، وتداخل الاشكاليات، بحيث تغني المجتمع وحكومته بما تقدمه من رؤى وافكار تخضع لمحك الجدل والبرهان وسلطة العقل والعقلاء. فالمؤسسات العلمية البحثية المنتشرة في ارجاء عالمنا، تتخذ دوراً فاعلاً في تهيئة فرص التقدم والنهوض، وتتسابق الدول في ميدان البحوث التي تطرحها هذه المؤسسات ولا سيما المستقلة منها، كونها لا تخضع لأي سلطة تؤثر في نتائج المعلومات التي تقدمها، فضلاً عن استخدامها المعايير العلمية التطبيقية في اجراء بحوثها، بقصد تطبيقها ضمن سياسات وخطط مستقبلية تؤثر ايجابياً في مسيرة تلك البلدان وتضمن لها النجاحات المطلوبة.
ويكفي لتبيان اهمية ذلك، ما تقدمه اليوم من خبرة واستشارة لمؤسسات الدولة، وحتى لمؤسسات القطاع الخاص في جانبها الاقتصادي والصناعي. فأهمية الخبرة المقدمة، وسعة الاطلاع والتحليل الثابت، والاستنتاج الاكيد الذي لا تخضع للاهواء او لرغبات السلطة، اصبح يخولها اهمية كبرى في سوق الجدل السياسي والاقتصادي والاجتماعي الاستراتيجي، فهي تؤدي دوراً كبيراً وقوياً في بعض الدول في اعداد الاستراتيجيات التنموية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وتوجيه السياسة الخارجية، ورسم محددات السياسة الداخلية وسلوكياتها، واستشراف المستقبل، واستكناه الاخطار والصعوبات التي قد تصادف مسيرة الدولة الراعية لهذه المؤسسات، وهي بذلك تعتبر الوسيلة الرئيسية في تبوء البلاد مركزاً دولياً مرموقاً، وفي تأكيد ثقة محيطها الاجتماعي في عملها في عصر اصبح التقدم العلمي من اهم معايير تقييم المجتمعات. فان ما يميز البحث العلمي اليوم هو ارتباطه بحياة المجتمع، فهو يقوم في كل مجتمع اياً كان نطاقه السياسي والاقتصادي بوظائف اساسية قوامها تسخير قوى الطبيعة وامكاناتها لخدمة الانسان وتوفير احتياجاته المختلفة، ومن هنا كان اهتمام الدول بالبحث العلمي باعتباره احد المقومات الاساسية للنهضة.
ان العالم المتحضر قائم اساساً على البحث وعلى مؤسساته التي تمثلت في البداية بالأكاديميات، ثم اتسعت لتشمل المؤسسات البحثية المستقلة التي تسوق ابحاثها بنفسها وبما يخدم الجهة التي تود الاستفادة من هذه الابحاث.
غير اننا في العراق مازلنا حديثي عهد بذلك. فالعراق ليس دولة عصرية بالمقاييس المتعارف عليها، بدليل صاحب القرار فيه لا يحتاج الى طلب دراسات عن انعكاسات اي قرار او توجه قد يتخذه، فهو يعتمد على الارتجال وعلى حدسه فقط. وهذا ما جعلنا نرزخ تحت طائلة اشكاليات مدمرة لا آخر لها في مختلف مفاصل حياتنا، لأن صاحب القرار عندنا يتعامل مع هذه المؤسسات على انها لا علاقة لها بما يحدث على ارض الواقع وبالتالي فهي ترف لا حاجة له بها. وهناك امثلة كثيرة يمكن ان نقدمها على خطورة الاستهانة باهمية هذه المؤسسات واعتبارها غير ذات اهمية وغير ذات صلة بما يحدث الآن.
في العراق الآن، العديد من المؤسسات البحثية سواء كانت رسمية ام مرتبطة مباشرة باعلى هرم الدولة والوزارات والجامعات… لكن ما يجمع بين هذه المؤسسات انها جميعاً تمر في ازمات واشكاليات خانقة اخذت تمسك بتلابيب هذه المؤسسات التي يفترض ان ترفد صانعي القرار ورجال الدولة بالمعلومات والتحليلات الضرورية، ونحن نعايش كل يوم احداثاً مريرة ومثيرة في عالم داخلي مادي مستقبله مبهم وعالم خارجي يتغير باستمرار. كما انه في الاساس لا يوجد في العراق مؤسسات بحثية بالمعنى العلمي، وعندما نذكر بعضها فان عملها يتلخص بعمل ندوات في موضوع اشبع دراسة ونقاش، ومحاضر بائس معرفياً ومتخلف علمياً، وجمهور يحضر قسراً لملئ الكراسي لا غير… ناهيك عن اصدارات مغبرة في المخازن لا منافذ تسويق لها… وهذا العمل لا نستطيع ان نقول انه يدخل ضمن باب الابحاث او طرح معلومة جديدة، لذلك فأن مؤسساتنا العلمية البحثية في العراق تعاني من اشكاليات عدة تتمثل في ابرزها:
1- نقص الموارد البشرية المدربة تدريباً جيداً.
2- انعدام الكفاءات العلمية المتمكنة من صنعتها، وان توفرت فهي مركونة ومهمشة لا يستفاد من علميتها.
3- نقص الموارد المالية او فقر المخصصات المالية الخاصة للانفاق على البحوث واحياناً ينظر للموضوع على انه عطاء للبحث في قضية ما، ولا ينظر اليه على انه بحث له مقوماته وخصائصه وكلفته الخاصة به.
4- اغلب المؤسسات العلمية لا تتوفر فيها المراجع والمعلومات والارشيف الحديث، وبذلك لا يمكن تسميتها مؤسسات بحثية بالمعنى العلمي.
النظرة كلها للعلم عندنا في العراق خاطئة، وهذا خلق جواً عاماً لا يشجع على البحث العلمي، اضافة الى ان صانع القرار في بلادنا لا يعتقد انه بحاجة الى ابحاث متخصصة تعينه في اتخاذ قراراته، فهو يعتقد انه يعرف كل شيء، واذا لجأ للبحث يلجأ له آنياً في لحظة ضغط معينة، والحاجة لمنقذ، ويفضل ان يأتي بخبير اجنبي.
ان مثل هكذا مؤسسات بغض النظر عن وضعها التنظيمي تعد جزءاً هاماً من مؤسسات الدولة تتميز في موقعها ضمن هذه المؤسسات وفي اهدافها المتصلة بكافة نشاطات الدولة، وهذه المؤسسات تعتمد جوهرياً على قدرة نشاط البحث في المعضلات والمعوقات التي تعانيها الدولة بمؤسساتها… وفي تقديم البدائل والحلول لتجاوزها ولتطويرها، كما ان الصلة بين هذه المؤسسات وبين المجتمع ليست فقط في انجاز البحوث وتطبيقها بحيث يستفاد منها المجتمع وانما هي في الواقع تعكس اهتمام قطاع العلماء بواقع مجتمعاتهم المحيطة بهم والتي هي في نهاية الامر صاحبة تلك المؤسسات ومالكتها وممولتها والمستفيدة في النهاية منها ومن جهود القائمين فيها، وبذلك نجد ان هذه المؤسسات في الدول المتقدمة تعتمد في بعض مواردها على تبرعات الافراد ودعمهم المالي والمعنوي وبالتالي يصبح التفاعل ذا اتجاهين، وهذا يعني ترابط قطاعات المجتمع وتعاونها فيما بينها مما يدفع بها جميعاً الى الامام.
ان هذا التبادل المشترك بين المؤسسات العلمية البحثية والبيئات المحيطة بها تعكس طبيعة تلك المؤسسات وتلك البيئات والصلة التي تربطها فالمجتمعات المتقدمة انعكس تقدمها على هذه المؤسسات ثم عادت هذه المؤسسات فقدمت بحوثها وخدماتها للمجتمع من حولها، فأكملت بذلك حلقة التقدم التي لا تتوقف بتفاعل الاثنين معاً فضلاً عن ذلك، فان الترابط فيما بين هذه المؤسسات المختلفة والمتنوعة يعد امراً ضرورياً حيث لا يمكن الفصل بينهما مهما اختلفت تبعيتها او اهدافها، فهي بحد ذاتها تمثل تنوعاً طبيعياً في نظام واحد متكامل.
وتتميز المؤسسات العلمية البحثية عن بقية مؤسسات الدولة والمجتمع من خلال:
1- طبيعة الاهداف المرسومة من خلال ما تحققه نتائج البحث العلمي.
2- طبيعة المهام البحثية التي تتطلب كفاءات عالية التخصص ومهارات ومؤهلات متميزة تعمل ضمن بيئة مادية خاصة تستلزمها طبيعة العمل البحثي كعمل علمي، وما يفرض من بيئة تنظيمية قادرة على استيعاب نشاطات البحث العلمي.
* البيئة التنظيمية للمؤسسات العلمية البحثية
تعد المؤسسات العلمية البحثية انظمة متكاملة، والنظام هو مجموعة من العناصر تعمل ضمن حدود وتتفاعل مع بعضها لتحقيق واحد او اكثر من الاهداف، ولها هيكل تنظيمي يميزها عن باقي مؤسسات المجتمع والدولة، يجعلها نظاماً مفتوحاً يتكون من مجموعة من العناصر المتفاعلة والمتصلة مع الجهات والمؤسسات الخارجية وتتأثر بها، وهذه العناصر هي:
* المدخلات، وتتكون من :
أ- الموارد البشرية، وتضم الملاكات العاملة، ويمكن تصنيفها الى:
– الباحثون ومساعدوهم، ويمثلون الملاك الفني العامل في نشاطات البحث العلمي.
– الاداريون، وهم القائمون على توفير الخدمات اللازمة والمساعدة لتهيئة البيئة المناسبة للبحث العلمي.
ب- الموارد المالية، وتشمل:
– التخصيصات المالية المعتمدة في الميزانيات.
– الموجودات التي بحوزتها، كالأبنية والاجهزة، والمعدات…
ج- المعلومات، ومصدرها البيانات والاحصائيات التي تحتاجها نشاطات البحث العلمي، ومنها الكتب والمراجع العلمية، والتقارير والوثائق والدوريات…
* المخرجات:
وتتمثل بنتائج البحوث العلمية المختلفة، وهي نتائج نشاط البحث العلمي التي تقوم بها مؤسسات البحث العلمي، وكذلك المعلومات والمعارف المضافة الى المكتبة التابعة لها والافكار والاستشارات العلمية والتطويرية لمؤسسات المجتمع وافراده الى جانب تطوير كفاءة العاملين فيها.
ان نتائج البحث العلمي هي معلومات غير مبتورة ولا نهائية، لانها قد تكون مدخلات لانشطة بحثية جديدة، وذلك، لان البحث العلمي نشاط متواصل وعمل دائم التجدد والتكامل لا ترتبط نتائجه بخط ثابت متقن بل انه يسعى دائما لاكتشاف كل ما هو جديد في مجال تخصصه. كما ان نتائج البحث العلمي غير مباشرة وبالتالي فان اثاره قد تكون غير ملموسة باستمرار، وذلك لصعوبة قياسها بالنظرة القريبة المدى.
* النشاطات: وتتحقق من خلال توزيع المهام التي تحقق اهداف وسياسات المؤسسات البحثية ضمن الاختصاصات الوظيفية الاساسية المطلوبة لتنفيذ نشاطات البحث العلمي وتحديد طبيعة العلاقات الوظيفية بين الوحدات التنظيمية المختلفة المختصة بتنفيذ المهام، وتتمثل بمخطط الهيكل التنظيمي الذي يضم ايضاً الوحدات التنظيمية المساعدة الادارية والتمويلية والتسويقية، كما ويعكس العلاقات التنظيمية من خلال المسؤولية والصلاحية المقررة لكل مستوى من المستويات التنظيمية داخل هذه المؤسسات.
* مؤهلات العاملين في مؤسسات الابحاث
مجموعة فعاليات تدخل جوهر البحث العلمي واركانه الاساسية والتي بدونها لا يمكن تحقيق هذا النشاط، وان ممارسة هذه الفعاليات تتطلب وجود ملاكات متخصصة ومؤهلة لادائها باستمرار تمتلك قدرات معرفية وفنية ذاتية تمكنها من الولوج في ادق انواع النشاط البحثي الابداعي، وذلك لتمتعها بمؤهلات عالية في مجال تخصصي دقيق نتيجة للدراسة والمتابعة والخبرة، ومثل هذه الفئة المتميزة من العنصر البشري لا يمكن تواجدها الا في فئة الباحثين العلماء. ان حاجة المؤسسات البحثية ترتكز في اجمالي نشاطها الانتاجي على فعاليات البحث العلمي بعكس المؤسسات غير العلمية التي تكون حاجتها للباحثين والعلماء مقتصرة على جزء من نشاطها الانتاجي او ذلك الجزء من نشاطها المساعد وبحدود احتياجاتها للتطوير او للتغيير او لمعالجة المشكلات التي تعترض مسيرة عملها.
ويمكن تحديد خصائص العاملين في المؤسسات البحثية وفق بعض العوامل الاساسية المستخدمة لوصف وتحليل تركيب القوى العاملة، وهي: العمر، المستوى التعليمي والثقافي العام، المستوى المهني… آخذين بنظر الاعتبار، ان الباحثين والعلماء يمثلون الاغلبية العظمى والمكون الاساسي من مكونات هذه المؤسسات البحثية والتي هي للاسف مفقودة بالكامل في مؤسساتنا العراقية.
-العمر- يتراوح عمر العاملين- باحثون ومساعديهم- في مؤسسات البحث العلمي ما بين (25) الى اكثر من (70) سنة، وذلك لان فئة الباحثين العلميين هم من المؤهلين بمستوى تعليمي لا يقل عن الدبلوم العالي او الماجستير. وغالبا ما تكون الفئات العمرية المتقدمة في السن شاغلة للمناصب الوظيفية القيادية في الهيكل التنظيمي للمؤسسة البحثية، بسبب ما تحمله هذه الفئات من مواصفات علمية تتعلق بتخصصها وامتلاكها السمعة العلمية المتحققة عن اسهاماتها النظرية او التطبيقية، ولها الاقدمية في دخولها هذا المجال العلمي من بين ذوي الاختصاص نفسه العاملين في المؤسسة، مما يحقق شرعية اعتلائها المناصب القيادية، فضلاً عن اتصافها بالنضج العقلي والنفسي والمهني والاجتماعي بما يعطي للمؤسسة خاصية متميزة تتمثل في قدرتها على تحقيق بيئة تنظيمية ايجابية.
-المستوى التعليمي والمعرفي- يمثل حملة شهادات الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه الجزء الاعظم من العاملين في المؤسسات البحثية، وحيث ان امتلاك هؤلاء الشهادات العليا، تعني تعرضهم خلال سني دراستهم لعمليات الاحتكاك والتكيف للبيئة العلمية ولمجتمعات متميزة ثقافياً وحضارياً بحكم تواجد الجامعات فيها، اضف الى ذلك اطلاعهم المستمر على ما ينشر من نتاج فكري في مجال اختصاصهم وقراءاتهم المستمرة، مكنتهم من امتلاك خزين معرفي متنوع…..
وعلى هذا الاساس، فان البناء العلمي للمؤسسات البحثية، يتمتع بنسبة عالية من الملاكات المتميزة بثقافتها وقدرتها على التواصل والتفاعل مع بيئات ثقافية مختلفة، والانتفاع منها بالقدر الذي تحتاجه.
المستوى الوظيفيي- نظراً لتقارب مستويات العاملين في مؤسسات الابحاث من حيث مؤهلاتهم، ولأن الفوارق لا تتعدى الا ما يتعلق بالخبرة والاقدمية، اذ تكون الملاكات العامة عموماً مؤهلة بشهادات عليا ذات تخصصات لصيقة ومتداخلة مع بعضها البعض، لأن المستوى المهني والوظيفي لا يحتمل التصميم الرأسي، ويكون اكثر ميلاً للتصميم الافقي مع مستويات محدودة بالاتجاه الرأسي، حيث يشتمل الهيكل التنظيمي لأي جهاز بحثي بغض النظر عن موقعه التنظيمي من المؤسسة الأم، على عدد من الوظائف ترتبط بعضها ببعض افقياً في مستوى وظيفي واحد تشكل وحدات عمل متخصصة- فرق بحثية- تتولى مهام البحوث والدراسات حسب التخصصات الدقيقة، تضم كل واحدة منها مجموعة من الباحثين المتخصصين، وترتبط رأساً بادارات اشرافية اعلى منها.
ويتم تنسيق العلاقات الوظيفية بين الادارات الاشرافية من خلال علاقاتها الوظيفية التخصصية ببعضها افقياً وبالادارة العليا رأسياً، لغرض انجاز نشاطات البحث العلمي المطلوبة، وتعتبر هذه الوحدات الورش الانتاجية للجهاز البحثي والقاعدة الاساسية لتنفيذ المهام البحثية.
ان السلطة الممنوحة لمسؤولي الوحدات البحثية او ما يطلق عليهم بقادة الفرق البحثية، قد تتضاءل امام احد افراد فريق البحث الذي يتحمل الجانب الاكبر من المسؤوليات الفنية للبحث العلمي، نتيجة خبراته وسمعته وتخصصه العلمي في المجال المبحوث، وذلك، لان مهام فريق البحث غير ثابتة وانما هي متغيرة باستمرار مع كل بحث جديد، فان الحاجة الى اعادة تفويض السلطة حسب المسؤوليات الجديدة يعد امراً طبيعياً.
فالسلطة هنا لمن يتحمل الجانب الاكبر من المسؤوليات الفنية للبحث العلمي وليس لمن يتحمل المسؤوليات الادارية، وذلك لضمان السرعة في اتخاذ القرار من خلال جعل القرارات ضمن المسؤليات او الفرق التي تتعامل مع المسألة المطروحة والتي تكون الاكثر قدرة فنياً على اتخاذ القرار السليم.
* الاستحقاقات الموكولة للمؤسسات البحثية
ان المؤسسات العلمية البحثية قبل ان تكون انتاجاً ثقافياً ومعرفياً، هي منجز حضاري متميز، اذ ان هذه المؤسسات تعكس اهتمام الامم والمجتمعات في حفظ تراثها ومنجزاتها المعرفية والحضارية، لان حفظ المنجز الفكري والاجتماعي والعلمي لمجتمع ما هو ممارسة واعية للتحولات والتطورات التي تحصل في المجتمع، وعملية هادفة لتأكيد ذاكرة المجتمع الحضارية. فالمؤسسات البحثية، هي بمثابة المخزن والوعاء لذاكرة التاريخ الانساني في ابعاده المختلفة وعلى حساب اهتمام واختصاص مؤسسات الابحاث.
والمؤسسات البحثية وكمنجز حضاري، هي وليد الواقع النهضوي الذي يعيشه مجتمع ما، اذ يسعى كل مجتمع في مسيرته النهضوية الى تأسيس الأطر والاوعية المنسجمة والظروف التاريخية التي تحفظ منجزاته العلمية والمعرفية، وتسعى نحو تطويرها وتأكيدها في الوسط العام.
وتتميز المؤسسات البحثية، بانها ضرورة قصوى لاستحقاقات بالغة الاهمية، افرزها العصر والمرحلة في كل بقاع العالم، فهذه التحولات السريعة في النظام الدولي وتشابك وتعقد مجريات السياسة والاقتصاد والمتغيرات الاجتماعية مع الضرورة لبناء علاقات متميزة تتجاوز المصالح الشكلية… كلها تحتاج الى وعي عميق بمجريات وآليات تكوينها والتعاطي الايجابي معها واستشراف النتائج المستقبلية لها. ولا اعتقد ان هناك نظام اودولة في العالم يمكنها العيش ضمن دائرة التوازنات الدولية المعقدة وهي تعتمد على ضروب الحظ والصدفة ولا تعير اهمية للبحث والاستقصاء وقراءة احداث الماضي ووعي الحاضر واستشراف المستقبل.
واذا اردنا ان نلخص الاستحقاقات الموكولة لمؤسسات الابحاث في نقاط محددة فانها تمثل مجموع الاهداف التي ترفعها هذه المؤسسات على شتى انواعها، وتتلخص بالآتي:
1- تطوير الحياة المعرفية في الوسط العام، فمؤسسات البحث العلمي عادة ما تستقطب اصحاب الاهتمام والخبرة. لذلك فان لهذه المؤسسات الدور الاساسي في تطوير الحياة المعرفية والفكرية والعلمية في الوسط العام عن طريق انشطتها الثقافية ومنابرها الاعلامية المختلفة. لذلك نجد في الكثير من البلدان ان وراء تقدم وتطور الحياة الثقافية والعلمية مؤسسات البحث العلمي في مختلف الحقول والاختصاصات، حيث تقوم هذه المؤسسات برفد المستفيدين بالمعلومة الجديدة الموثوقة والتحليل العلمي الرصين وتبلور آفاق المستقبل، وتوضيح المدلهمات من القضايا والاشكاليات…
2- اقامة جسور العلاقة والتواصل بين اطراف متعددة تمثل بمجملها اقطاب ادارة السياسة العامة وتنفيذها والتفاعل معها، فهي تتوسط العلاقة بين الحكومة والمؤسسات الاكاديمية من خلال تمويل السياسة من عملية اجرائية وممارسة الى مادة علمية تنتظم في اطروحات ونظريات وافكار يمكن تناولها من قبل الاكاديميات في مجال البحث والدرس، وبذلك تخدم المؤسسات البحثية المؤسسات الاكاديمية في تحويل التجربة العلمية الى مادة نظرية تدعم البناء العقلي والعلمي وتقدم له ارضية التطور، ومن جهة اخرى تمكن الحكومة من تلاقي اخطائها او تحسين وسائلها من خلال ما يتم ملاحظته عبر الرؤية الاكاديمية وما تتمخض عنه عملية التطوير الفكري والمناقشات النقدية لتلك الافكار.
ولا تقف عند هذا الحد المؤسسات البحثية بل تجسر العلاقة بين الحكومة والمؤسسات الاعلامية من خلال تحليل العملية السياسية وسبر اغوارها وتقديم هذا التحليل بين يدي الاعلام ليستطيع ان يوجه اسئلة عميقة ومكثفة تصيب كبد الحقائق وجوهر المجريات السياسية. ومن جهة اخرى تمكن هذه المؤسسات الحكومية من بيان رسالتها عبر وسائل الاعلام من خلال تأمين الندوات واللقاءات العامة للسياسيين التي يشرحون فيها وجهة نظرهم وحقيقة سياساتهم، امام الرأي العام.
3- توطيد اواصر العلاقة والتفاعل بين الثقافات والحضارات من خلال توفير فرصة تبادل المعلومات والافكار بين المراكز في الدول المختلفة. ويمكن ان يوفر ذلك دعماً مكثفاً لحركة الدبلوماسية في البلدان باتجاه الآخرين من خلال الفهم الواعي للآخر وفتح فرصة التواصل معه.
4- اشاعة روح البحث العلمي والتعامل مع القضايا بموضوعية وتعميم ثقافة البحث والتحري والاستدلال التي تقف بالضد من ثقافة التسطيح والخرافة والاحكام العشوائية، ورعاية المبدعين على وجه الخصوص وتوفير الفرصة المناسبة للراغبين في البحث والكتابة والتأليف وابداء الرأي واقامة جسور التواصل بينهم وبين الجمهور.
5- ان تطور الدولة الذي انتهى الى ما يسمى بالدولة الحديثة، افرز جملة كبيرة من الاستحقاقات الضرورية التي لا يمكن ادائها عبر حكام ومسؤولين وموظفين ذوي كفاءة محدودة فاصبح من الضروري ان يتم بناء الجميع مهنياً بما يتناسب والدور الذي يقومون به، وخصوصاً اولئك الذين تقع عليهم مسؤولية اعداد القراءات الكبرى وتنفيذها.
ولا شك في ان هذا البناء يحتاج الى المعلومات المتخصصة المطروحة باسلوب يسهل وعيها وادراكها وتحويلها الى واقع عملي من خلال الممارسة، بالاضافة الى عملية التدريب المباشر. وهنا تشخص مؤسسات البحث العلمي كملبٍ كفوء يستطيع تقديم المعلومات التأهيلية الضرورية، فضلاً عن قدرتها على اقامة الدورات العامة والخاصة التي من شأنها ترقية وتطوير الجهاز الحكومي بكل سلطاته الثلاث.
6- ان النظر الى السياسة بنظرة تحليلية، نراها تتلخص في عملية اتخاذ قرارات وتنفيذها، وهذه العملية تنطوي على عدة مراحل متدرجة وضرورية تشكل بمجملها الخطوات الضرورية لآثار السياسة على الارض.
بالتأكيد، ان التطور الواضح للمشكلة او الحاجة او الموقف المراد اتخاذ القرار بشأنه، ونوع الوسائل المناسبة لتحقيقه والخيارات المتاحة في هذا المجال، والتنبؤات المستقبلية له، وامور اخرى… تمثل بمجموعها عماد عملية اتخاذ القرار وتنفيذه والتي تساوي العملية السياسية، بحسب تحليلنا. وهذه الامور جميعاً تحتاج الى دراسة معمقة وواعية وعلى اساس عملية منهجية، وليس غير مؤسسات البحث العلمي وخصوصاً السياسية منها، اولى بهذه المهمة منها. فلا يمكن لاي مؤسسة اخرى ان تضطلع بهذا الدور غير المؤسسات البحثية، ولذلك اصبحت هذه المؤسسات المشتغلة على الامور السياسية، جزء لا يتجزأ من العملية السياسية في معظم البلدان الديمقراطية.
وكثيراً ما ذكرت… ان اول بشارة تؤكد ركوب بلداننا على جادة التنمية الحقيقية والسياسية الصحيحة، هي التي تكشف عن المشاورة الجدية والاستشارة الفعلية من قبل الساسة وصانعي القرار لذوي الاختصاص من مراكز واشخاص وتكون التصريحات والقرارات والفعاليات السياسة العامة مبنية على هذه الاستشارات ومستنيرة برأيها.
كما يمكن لمؤسسات البحث العلمي ان توفر فرصة مناسبة لأولئك الذين يريدون البقاء قريبين من المجريات السياسية وفاعلين فيها مع خروجهم من حيز المسؤوليات التنفيذية المباشرة من خلال تداول السلطة او التقاعد او اي اسباب اخرى، بحيث يمكنهم البحث والتحليل والتقييم وتقديم المشورة عبر ما يملكونه من خبرات واسعة، وهذا ما نراه جلياً في اكثر من بلد متقدم، حيث يعمل وزراء ومسؤولون كبار سابقون في الدولة في مؤسسات بحث مهمة.
ان تلك النقاط التي اندرجت تحت قائمة الاهداف المقصودة لمؤسسات البحث تمثل الاستحقاقات الضرورية التي لا مناص من تلبيتها وتحقيقها، وبالتالي فهي الطموح الذي ترنو العيون اليه بحيث تكون مؤسساتنا البحثية مالكة من الادوات والوسائل والوعي والتأهيل ما يمكنها من تحقيق تلك الاستحقاقات والا فأن التخلف عن اي استحقاق مما اشرنا اليه آنفاً يمثل علاقة نقص وتخلف في كيان الدولة وبنية المجتمع وثقافته وينعكس بشكل ظاهر على مجريات الحياة اليومية في الداخل والخارج.
* واقع ومشكلات المؤسسات العلمية البحثية العراقية
لقد تقدمت منا اشارة مقتضبة الى واقع المؤسسات العلمية البحثية العراقية من خلال التقديم، فواقع هذه المؤسسات يمكن تلمسه من عدة مؤشرات منها:
– مدى وعي المجتمع للدور الذي تلعبه هذه المؤسسات.
– الرعاية والاهتمام من قبل الحكومة بها.
– حجم النتائج المنسوب لها.
ان كل تلك المؤشرات تدلل بقوة على الواقع المزري الذي تعيشه هذه المؤسسات. فالقليل من الناس يعلم بالضبط ماذا تعني كلمة (مؤسسات بحث علمي) وكثيراً ما يلتبس الامر لدى السامعين بانها مؤسسات تدريسية تشابه الكليات، وهذا القصور في الفهم يمكن تلمسه بوضوح حتى داخل الجامعات.
وتتعاظم المحنة في عدم الوعي وتصل الى وزارة الدولة لشؤون مؤسسات المجتمع المدني، بحيث تقيس مؤسسات البحث العلمي مع غيرها من المنظمات والجمعيات التي تعمل على قضايا من السهل جمع اعداداً غفيرة من الناس لممارستها بخلاف المؤسسات البحثية وخصوصاً العاملة على اختصاصات مهمة مثل السياسة الدولية والقضايا الاستراتيجية والتي يشح عدد الاشخاص الاكفاء الذين يمكنهم تقديم الخدمة في مثل هذه الموضوعات.
اما في اطار الحكومة، فلم الاحظ الى ساعة كتابة هذه الدراسة توجهاً حقيقياً نحو هذه المؤسسات او التشجيع على تأسيسها، وحتى المؤسسات العلمية الحكومية مازالت في الاطار الشكلي وتمثل نافذة يمكن ان تستوعب مجموعة من الاشخاص بعنوانها (مكسب رزق) وتبقى النتاجات في اطار الروتين وبدائرتها الضيقة.
فهذه الملفات الشائكة في القضية العراقية، وهذه الاستحقاقات المتعاظمة التي تتكاتف يوماً بعد يوم، لم يسجل دوراً بارزاً لمؤسسة بحثية في الاشتغال عليها، وتقديم الرؤى والتوجيهات بصددها. واذا كان هناك بعض الناتج المتميز في هذا الاتجاه فهو بجهد شخصي للباحث ولا يمثل مستوى المؤسسة. وبالاجمال، فان مؤسسات البحث العلمي في العراق تعيش حالة الفقر المدقع لابسط مقومات الوحدة البحثية.
وللتركيز اكثر على هذا الموضوع ندرج ادناه ابرز المشكلات التي تعيق عمل مؤسسات البحث العراقية وتحجم من دورها، وهي كالاتي:
1- الافتقار الى مصادر التمويل المستقلة- لا شك ان مؤسسات البحث العلمي لا يمكنها الانطلاق قبل ان تكتمل الادوات الاساسية لعملها، بدءاً من البناية المناسبة لعملها والاثاث الضرورية والى المكتبة الثرية/ الغنية التي تمثل العمود الفقري لمسألة البحث. وفي الوقت الحاضر لاغنى عن شبكة الانترنت واجهزة الحاسوب. وفي نفس الاتجاه ينبغي توفر ميزانية مستقرة لرواتب مجموعة من الموظفين الدائميين، بالاضافة الى المبالغ التي تدفع الى الباحثين كدعم لانجاز بحوثهم او كمكافآت عليها.
اما مسألة نشر انتاجها البحثي/ العلمي عبر مجلة دورية او كتب ونشرات واقراص مدمجة، فهي من الامور المهمة، وتمثل المؤتمرات، والحلقات النقاشية والمحاضرات او الجلسات الدورية، كأحد الادوات المهمة ضمن عمل المؤسسة البحثية.
وأكيد، فان القائمة اعلاه تحتاج الى الكثير من الاموال التي ينبغي ان تكون دائمة المصدر وبعيدة عن الضغوط والاشتراطات التي تؤثر على سير الابحاث ونتائجها.
2- ضعف مشاركة الباحثين وخصوصاً اساتذة الجامعات، حيث يطغى على الاغلب منهم السلوك الروتيني والاكتفاء بالمحاضرات الرسمية التي تلقى في الكلية، ولا ينجز من الابحاث الا ما يكون مطلوباً لاغراض الراتب او العلاوة او الترقية العلمية. ولذلك يحرصون على نشر ابحاثهم في مجالات معتمدة من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وكل هذه المجلات والاصدارات محدودة التداول، وفي الغالب تكتب للرفوف فقط، ولاجل ان يستعملها الاساتذة في نشر العدد الضروري من الابحاث المطلوبة لترقيتهم. هذا، بالاضافة الى طغيان النزعة المادية وتقديس الاموال. وقد لمست ذلك لدى الكثير الذين يرفضون الاشتغال مع اي مشروع بحثي الا بمبالغ مالية عالية يحددونها مسبقاً.
ان الجامعة العراقية مازالت تعيش محدودية الدور وروتينية الاجراءات، ولم تأخذ دورها المناسب في البناء الحضاري، ولا نبالغ اذا قلنا بان البعض يزداد جهلاً لا علماً في بعض الاوساط الجامعية من خلال الاسلوب الجامد والمتخلف لاغلب الاساتذة او طبيعة نظرتهم للبحث والتطوير الاجتماعي ومسألة اشاعة الوعي. ولا يزيد هنا اطلاق حكماً عاماً، فهناك بعض الشذرات في هذه الجامعة او تلك ولكنها في الغالب توصف بانها حالات تمرد على القيود الجامعية ونظامها. وفي نفس الاتجاه نؤشر ضعف الاهتمام بالدراسات الانسانية وتقدير مكانتها والاهتمام بخريجها، ومازال الكثير من الفروع العلمية الانسانية، كالاجتماع والسياسة لم يفتح منها الا واحداً او اثنين في عموم العراق.
3- الافتقار الى الروح الجماعية في البحث، فغالباً ما ترتبط المؤسسات العلمية البحثية بشخص الممول لها او الجهة الراعية لها سواء حكومة او افراد، وتكون منغلقة عليها.
ان العمل البحثي يمتاز بأنه ينمو ويتطور من خلال العمل الجماعي والكثير من الاشكاليات المعرفية والاحتياجات العلمية لا يسدها شخص واحد لوحده مهما كانت قدراته.
من هنا، يقتضي الامر وجود فريق متقارب بالكفاءة ويحمل الاستعداد النفسي والعلمي للتواصل في مشروع جماعي، بعيداً عن الانانية والبحث عن الالقاب الفارغة. ولعل روح الخدر وخطورة التجمع التي كانت واحدة من اهم سمات المرحلة المظلمة بسبب الخوف من مراقبة الاجهزة الامنية وقمع السلطة، هي التي ركزت هذه السمة وجعلت العمل الجماعي نادراً في اوساطنا الثقافية والبحثية بخلاف ماهو شائع في البلدان الغربية.
4- مشكلة اللاموضوعية في البحث – ان قيمة النتائج التي تطرحها مؤسسات البحث العلمي تكمن في مهنيتها وروحها المحايدة في فرض دورها. ولكن هذه المحايدة لا تسلم وتأتي مشوهة ومتأثرة مما يجعل نتائجها غير صادقة او لا يمكن الاعتماد عليها اذا جاءت نتيجة لأحد منتجات اللاموضوعية. وابرز ما يدعم اللاموضوعية ويؤسس لها الآتي:
أ- الضغط الايديولوجي الذي يمثل موجهاً لعقلية الباحث من خلال ما يؤمن به من مرتكزات. ان عملية الانتماء هي حالة صحية ومقبولة ولكنها ترفض اذا تحولت الى ضاغط دوغمائي يحجب الشخص عن رؤية حقيقة الوقائع ويفسرها بما تمليه عليه عقيدته دون الاكتراث برؤى الآخرين. ولعل هذا الموضوع ظاهراً جداً في الابحاث الانسانية وخصوصاً ما يتعلق بالسياسة منها.
ب- قوة المقدس الديني- لا شك ان مجتمعنا من المجتمعات التي تحترم الدين ويشكل العمود الفقري في حياتها، ويمثل الموجه الاعلى لتصرفاتها. وهذه القوة للمقدس الديني بحسب الرؤية الشعبية تعيق حركة البحث في بعض الاحيان وتجعل الباحث يجانب الصواب خوفاً من الاصطدام بما يثير حفيظة الجمهور ويؤلبهم عليه.
ج- الروح القبلية والعشائرية الطاغية- وهذه تضغط على رؤية الباحث وتحرف نتائجه الى الجهة التي تتوائم مع انتماءاته العشائرية او يمثل الوجود القبلي المتزمت مصدراً للتهديد عند الاقتراب من اي قضية تدخل في دائرة المسلمات ضمن الذهنية القبلية والعشائرية.
د- الارتكاز النفسي المستقر لرهبة السلطة- ان العقود الاربعة الاخيرة التي اصطبغت بجهود العلماء وتضحياتهم النفسية والجسدية نتيجة سلطوية مقيتة طبعت العقود المذكورة في النفوس الحذر والريبة من التصريح بالاراء التي تنقد السلطة او تعطي نتائج على غير هوى السلطة. وهذه الخشية قد تكون لا مبرر لها في الوقت الحاضر في بعض الاحيان، ولكن الارتكاز النفسي السابق له مأخذة الكبير في نفوس الكثير من الباحثين والمحللين، وقد لمست ذلك عملياً.
5- فقدان التنسيق بين المؤسسات البحثية والجامعات. وترجع ذلك اما لصعوبة وسائل التواصل والاخطار التي تحفها او التكاليف المترتبة عليها، او عدم فاعلية ماهو متاح منها. وبخصوص الجامعات، فان الروتين القاتل والقيود المفروضة عليها تجعل من التنسيق والعمل معها اقرب الى المستحيل. وتبقى دائرة التنسيق والتواصل محصورة مع الاشخاص دون المؤسسات.
6- انعدام قاعدة البيانات اللازمة لاجراء الابحاث- ان المشاكل السياسية والاقتصادية اليوم لا يكفيها ان تجلس وتتأمل…. ولكنها تحتاج الى الكثير من البيانات والاحصاءات المتوفرة والموجودة رهن اشارة الباحث. وبالتأكيد، فان ما موجود من احصاءات وبيانات محددة جداً وفي متناول بعض الجهات الرسمية وفي الغالب لا يسمح بالاطلاع عليها او من الصعب الوصول اليها.
7- الذهنية الشعبية غير المتعاونة مع الباحث والتي لا تليق بأسئلته وتنظر اليها بتوجس، وتعتبر ما تدلي به من تصريحات او معلومات يشكل نقطة خطر عليها في المستقبل.
ويظهر ذلك جليا في مسألة الاستبيانات وخصوصاً ما يسأل عن مسائل مهمة ومحل اختلاف. فالاجابات لا تكون دقيقة ويمتنع الكثير من التعاون مع مثل هذه الامور. وفي أحسن الاحوال ينظر لها البعض بالسخرية والاستهزاء وعدم الجدوى.
8- نمط التعليم السائد في جميع المدارس والجامعات الذي يتجه الى الطابع التلقيني والاملاء السلبي بحيث يحشو المدرس رأس الطالب بالمعلومة فقط دون ان يحاول بناء عقلية نقدية فيه، او يقوي روح التساؤل لديه الامر الذي نتج عنه تخلف روح البحث والتأمل لدى الاغلب الاعم من الطلاب. وحتى مع الحاجة للبحث لضرورة تكون المواصلة متغيرة او يضغط الطالب على نفسه قهراً لاكمال المطلوب فقط. وهذه المشكلة عميقة ويمثل هذا المؤشر مجرد جانب من جوانبها المتعددة التي تلقي بظلالها على عموم الحياة العلمية والفكرية.
9- الافتقار الى المكتبات التي تقدم ما يحتاجه الباحث خصوصاً فيما يتعلق بدراسة الامور المعاصرة والقضايا السياسية منها على وجه الخصوص. فالعراق عاش حصاراً فكرياً وثقافياً منذ اكثر من ثلاثين سنة، ولم تشاهد مكتباته نتاج الثمانينات العالمي فضلاً عن التسعينات وما بعدها. ومع توفر القليل منها فهو باسعار عالية فمعانات الحصول على الكتاب واحدة من اهم العقبات في حياة الباحثين. فطلبة الدراسات العليا يعانون الامرين من الحصول على المصادر المناسبة لموضوعاتهم ولعل البعض يعدل عن البحث في موضوعات حيوية مهمة لعلمه بندرة المصادر عنها او انعدامها.
10- ندرة العقليات الكفوءة التي تستطيع قيادة المؤسسات العلمية البحثية واستقطاب الباحثين الجيدين وايجاد الفضاءات والموضوعات الحساسة والضرورية في حياة البلد والمجتمع والاشتغال عليها. فقد تكون الشخصية كفوءة في مسائل الادارة البحثية ولكنها لا تدرك او محدودة الالمام بالاشكاليات المعرفية والاستحقاقات البحثية، مما يقف في طريق تقديرها الصحيح لأهمية الموضوعات التي ينبغي العمل عليها او توجيه مؤسسة البحث باتجاه موضوعات ثانوية. وهكذا عندما يتوفر جانب الالمام العلمي مع الضعف الاداري، ينعكس بوضوح على اداء المؤسسة من خلال الارتباك في العمل وضعف التنظيم وقلة النتائج.
11- انعدام النوافذ التي تستطيع مؤسسات الابحاث تجسيد نتاجاتها عبرها الى حقائق علمية. فلا توجد شركات كبيرة تتعامل مع مؤسسات البحث هذه، وبخصوص الحكومة فمازالت هي في وادي ومؤسسات البحث العلمي في وادٍ آخر.
انني عمدت في هذه النقاط الى الاقتصار على العقبات والمشاكل المشتركة لدى كل مؤسسات البحث العلمي وحتى الحكومية منها. وهذه التشخيصات جاءت نتيجة السؤال المباشر والمتابعة لاحوال تلك المؤسسات مع ما نعيش من واقع في مؤسساتنا البحثية العراقية (المجمع العلمي، بيت الحكمة…). ويبقى لبعض هذه المؤسسات مشاكل خاصة في حدودها ولكنها لا ترقى الى تأثير الامور التي اشرت اليها آنفاً ولذلك أثرت عدم التطرق لها.
* حلول ومقترحات
ان السبب الرئيسي الذي كتبنا من اجله هذه الدراسة. هي تقديم مجموعة مقترحات نراها بمثابة حلول مناسبة لرفع الواقع الذي اشرناه سابقاً الى المستوى الذي تستطيع به مؤسسات البحث العلمي ان تؤدي الاستحقاقات الضرورية المنوطة بها. ولأجل ان يكون الكلام مركزاً سنلجأ مرة اخرى الى اسلوب النقاط لترتيب مقترحاتنا وندرجها في الاتي:
1- تأمين الاحتياجات الضرورية لمؤسسات البحث العلمي من خلال منح الحكومة تقدم على اثر تطبيق شروط مناسبة يمكنها توليد الاعتقاد الكافي بجدوى هذه المؤسسات. ويمكن ان تكون تلك المنح عبر ميزانية الجهة المختصة ذات العلاقة او يتم دعم كل توجه بحثي من خلال الجهة المختصة التي تشارك في الاتجاه او عبر الجهة المسؤولة عن مؤسسات المجتمع المدني. والمهم هو ايجاد ميزانية مستقرة يتسنى للمؤسسات البحثية ان تؤدي دورها من خلالها. وقد يتم ذلك من خلال تشجيع بعض رؤوس الاموال الوطنية بدفع ضرائبهم الى تلك المؤسسات مقابل الاعفاء منها امام مؤسسة جباية الضرائب.
ويدخل في هذه النقطة ضرورة ايجاد قاعدة او اكثر في كل محافظة تحتوي على مساحة مناسبة ومستلزمات تهيئها لعقد الندوات والمؤتمرات والحلقات النقاشية، والتي تعتبر اهم المفردات في اعمال هذه المؤسسات.
2- التنسيق من خلال وزارة الخارجية والسفارات مع مؤسسات البحث العلمي المتقدمة في العالم والجامعات وربط مؤسساتنا البحثية بها وتشجيع الطرفين على اقامة اعمال مشتركة وتقديم التسهيلات في هذا الاتجاه. وكذلك التسهيل في زيارة الكوادر البحثية العراقية والمشرفين على مؤسسات الابحاث الى الدول المتقدمة في هذا المجال لزيادة الخبرة والاطلاع واقامة وشائج العلاقات المهمة والحصول على فرص مناسبة للدعم المالي والمعنوي.
3- تشجيع الدولة لاقامة معارض الكتاب ودعم الكتب، وخصوصاً للمؤسسات البحثية والجامعات والباحثين المتخصصين ليتسنى لهم اقتناء ما يحتاجونه من الكتب والنشريات، وتشجيع المؤسسات البحثية في العالم من خلال الملحقات الصحفية والثقافية العراقية في الخارج لايصال انتاجها وخصوصاً الدوريات التي تعالج قضايا تتصل بالعراق وما يدور فيه او المنطقة بعمومها.
4- فتح ابواب الجامعات بشكل منظم لتتلاقى مع الجهد العلمي والبحثي المتحرك خارج اسوارها من اجل توليد ديناميكية علمية تثري الواقع وتدفعه نحو التقدم.
كذلك التركيز على مسألة البحث والنظر اليها بجدية اثناء الدراسة وتشجيع الطاقات المبدعة واعطائهم الامتيازات التي تدفع الآخرين للمنافسة. وفي خطوة يمكن ان تمثل زخماً قوياً لمؤسسات البحث العلمي، وهي حث الاساتذة الجامعيين للمشاركة بمؤسسات الابحاث والتفاعل معها واعتبار هذا النشاط جزء من مقومات ترقيتهم وتأهيلهم الى الراتب العلمية العليا شريطة ان يكون ذلك موثوق باسلوب علمي يحقق الاطمئنان اليه.
5- ان اعراض الحكومة عن اراء الاخرين ومؤسسات البحث العلمي واستبدادها برأيها لا يتم من خلال ابداء النصائح والارشادات ولكنه باقي عبر اختيار الشعب لممثلين واعين يفهمون معنى المسؤولية ويحترمون معنى العلم ونتائجه ويعتمدون التخطيط والعلمية بدل العشوائية والتخرص، وهذا الامر من شأنه ان يكفل وصول حكومة حكيمة تعتمد التخطيط والعلمية والمشورة في رأيها، وهذا يؤدي بشكل تلقائي الى فسح المجال امام مؤسسات الابحاث ان تقوم بدورها المناسب وتقديم المشورة والرأي في كل ما تراه مناسباً.
6- تشجيع اسلوب العمل الجماعي في المؤسسات العلمية البحثية مما يحوله الى ثقافة عامة ومنهجاً رئيسياً في الحياة واسلوب امثل في تحقيق النتائج، الامر الذي يولد روح المشاركة وحب الجهد الجماعي لدى عموم الباحثين، ويعكس بنتائجه الطبية على النشاط البحثي في مختلف الاختصاصات.
7- تشجيع النقد البناء واحترام حرية ابداء الرأي مازالت لا تتضمن التعدي على الاخرين والانتقاص منهم والتخفيف من غلواء الخطوط الحمراء التي يتم وضعها في المكان المناسب وغير المناسب، وذلك من خلال اعادة النظر في الكثير من القضايا التي نؤشرها بانها غير قابلة للمناقشة والنقد والتأكد من هذا الحكم وموضوعيته.
ان بناء العقل المتسائل الذي يطلب الحجة والبرهان ولا يقتنع بالخرافة والتضليل هو اهم الركائز التي تبنى عليها الحضارة الزاخرة، وهو عملية تربوية مركبة تشترك فيها مختلف قطاعات الحياة، وتظهر ثمارها في كل مناحي الواقع.
8- قيام وسائل الاعلام بدور التثقيف والتعريف بأهمية المؤسسات البحثية، وما هو تأثيرها على السياسة العامة للبلد، ومعطيات هذا التأثير على الحياة العامة؟ ومن جهة اخرى فسح المجال امام تلك المؤسسات للتعريف بنفسها وعرض نتاجاتها وما تقوم به من نشاطات عبر وسائل الاعلام المختلفة.
9- اطلاق مشروع البنك المركزي للمعلومات. ويتم تحقيقه عبر مختصين يقومون على جمع المعلومات الصحيحة وفحصها، وحجب ما يضر بالسيادة الوطنية والامن القومي للبلد منها، وتهيئتها في موقع كبير يمكن الاستفادة منه من قبل الجميع بالاضافة الى فروع اخرى للبنك تقوم بنفس الغرض.
ان هذه الحلول والمقترحات تمثل طموحات عليا نتمنى ان تمتد اليد اليها جميعاً او الى بعضها او توفير البدائل التي تؤدي نفس الغرض الذي تؤديه. وبالتأكيد ان هناك نقاطاً اخرى يمكنها دعم هذه المؤسسات المهمة وتأهيلها للقيام بالدور المناسب لها.
* المراجع
المراجع التي استعنا بها اعتمدناها للمراجعة والتوكيد والاستقراء لما ورد في الدراسة.
1- شيت نعمان- العمل العلمي ومؤسساته في البلاد المبتدئة، ط؟، وزارة الثقافة والاعلام، بغداد، 1978.
2- عبد الله الخطيب- الهياكل التنظيمية لمؤسسات البحث العلمي، وقائع ندوة ادارة البحوث العلمية ومحاسبة التكاليف، اتحاد مجالس البحث العلمي العربية، 1980.
3- نعمة العبادي- مراكز الابحاث في العراق، نظرة استراتيجية، بحث غير منشور.
4- اعداد متفرقة من مجلة النور (لندن)، ومجلة المستقبل العربي (بيروت).
[email protected]