8 أبريل، 2024 5:09 ص
Search
Close this search box.

واقع مؤسسات البحث العلمي العراقية واشكالياتها البحثية والوظيفية

Facebook
Twitter
LinkedIn

*مدخل
يتميز عصرنا الحالي بكونه عصر البحوث والاكتشافات، تتحكم به تقنيات عديدة هي حصيلة اكتشافات علمية سابقة. ويعد البحث العلمي، الاساس في تطوير الدول وتقدمها في مختلف الميادين. ففي مجتمعات التقدم والانجازات الحضارية التي حققها الانسان، لا يمكن الاستغناء عن الابحاث وبالتالي لا يمكن الاستغناء عمن ينتجها من مؤسسات متخصصة اخذت على عاتقها القيام بهذه المهمة. ففي مجتمع تترك له الدولة حرية التنظيم والتفكير، فان مجمل مؤسساته البحثية المستقلة التي تعمل في اطاره، تكون بمثابة مختبرات افكار (Think Tank) تمده بدورها بما يحفظ له امنه واستقراره وطريقة استثمار مقدراته من الثروات، ويحفظ نسيجه الاجتماعي والسياسي من الاخطار والتوترات، وتداخل الاشكاليات، بحيث تغني المجتمع وحكومته بما تقدمه من رؤى وافكار تخضع لمحك الجدل والبرهان وسلطة العقل والعقلاء. فالمؤسسات العلمية البحثية المنتشرة في ارجاء عالمنا، تتخذ دوراً فاعلاً في تهيئة فرص التقدم والنهوض، وتتسابق الدول في ميدان البحوث التي تطرحها هذه المؤسسات ولا سيما المستقلة منها، كونها لا تخضع لأي سلطة تؤثر في نتائج المعلومات التي تقدمها، فضلاً عن استخدامها المعايير العلمية التطبيقية في اجراء بحوثها، بقصد تطبيقها ضمن سياسات وخطط مستقبلية تؤثر ايجابياً في مسيرة تلك البلدان وتضمن لها النجاحات المطلوبة.
ويكفي لتبيان اهمية ذلك، ما تقدمه اليوم من خبرة واستشارة لمؤسسات الدولة، وحتى لمؤسسات القطاع الخاص في جانبها الاقتصادي والصناعي. فأهمية الخبرة المقدمة، وسعة الاطلاع والتحليل الثابت، والاستنتاج الاكيد الذي لا تخضع للاهواء او لرغبات السلطة، اصبح يخولها اهمية كبرى في سوق الجدل السياسي والاقتصادي والاجتماعي الاستراتيجي، فهي تؤدي دوراً كبيراً وقوياً في بعض الدول في اعداد الاستراتيجيات التنموية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وتوجيه السياسة الخارجية، ورسم محددات السياسة الداخلية وسلوكياتها، واستشراف المستقبل، واستكناه الاخطار والصعوبات التي قد تصادف مسيرة الدولة الراعية لهذه المؤسسات، وهي بذلك تعتبر الوسيلة الرئيسية في تبوء البلاد مركزاً دولياً مرموقاً، وفي تأكيد ثقة محيطها الاجتماعي في عملها في عصر اصبح التقدم العلمي من اهم معايير تقييم المجتمعات. فان ما يميز البحث العلمي اليوم هو ارتباطه بحياة المجتمع، فهو يقوم في كل مجتمع اياً كان نطاقه السياسي والاقتصادي بوظائف اساسية قوامها تسخير قوى الطبيعة وامكاناتها لخدمة الانسان وتوفير احتياجاته المختلفة، ومن هنا كان اهتمام الدول بالبحث العلمي باعتباره احد المقومات الاساسية للنهضة.
ان العالم المتحضر قائم اساساً على البحث وعلى مؤسساته التي تمثلت في البداية بالأكاديميات، ثم اتسعت لتشمل المؤسسات البحثية المستقلة التي تسوق ابحاثها بنفسها وبما يخدم الجهة التي تود الاستفادة من هذه الابحاث.
غير اننا في العراق مازلنا حديثي عهد بذلك. فالعراق ليس دولة عصرية بالمقاييس المتعارف عليها، بدليل صاحب القرار فيه لا يحتاج الى طلب دراسات عن انعكاسات اي قرار او توجه قد يتخذه، فهو يعتمد على الارتجال وعلى حدسه فقط. وهذا ما جعلنا نرزخ تحت طائلة اشكاليات مدمرة لا آخر لها في مختلف مفاصل حياتنا، لأن صاحب القرار عندنا يتعامل مع هذه المؤسسات على انها لا علاقة لها بما يحدث على ارض الواقع وبالتالي فهي ترف لا حاجة له بها. وهناك امثلة كثيرة يمكن ان نقدمها على خطورة الاستهانة باهمية هذه المؤسسات واعتبارها غير ذات اهمية وغير ذات صلة بما يحدث الآن.
لذلك انتاب الباحث العراقي اليوم احساس في ان بلاده تنتشر فيها موجة من خيبة الامل والاحباط في شأن مؤسساته البحثية ، وشعور بأنها قد عجزت عن ان تحقق كثيراً من الوعود البراقة، والآمال العراض التي واكبت الحماس في العقود السابقة عند انشائها، وتوفير قدر من متطلباتها… وتأتي هذه الموجة وهذا الشعور معهما، بردة فعل لا تخلو من الحدة، تنحو نحو تضييق الخناق على مؤسساتنا البحثية وتقزيمها، بل وحتى الاستغناء عن بعضها. والامر الملفت للنظر هو ان هذه الردة لا يصاحبها انكار لأهمية البحث العلمي او لدوره في التنمية، فما زال مجتمعنا العراقي وقياداته… تقدر الدور الذي يمكن ان يؤديه البحث العلمي ، وتتطلع الى تحقيق هذا الدور المهم في مجتمعها. ولست اعرف مسؤول عراقي كبير واحد او صانع قرار فيه… لم يمجدا العلم في خطاباتهم وتصريحاتهم…. ولم ينوها بدوره في التنمية.
ان هذا التناقض المقلق بين الطموح والانجازات، يستحق المزيد من الفهم والمتابعة، ومن ثم العمل المجدي لازالته او على الاقل لتخفيف وطأته. ولنؤكد بداية ان من حق المجتمع في كل فئاته ان يقيّم النشاط العلمي وان يبدي رأيه في انجازات القائمين عليه واخفاقاتهم، وان يعدل مساره، وبالقدر والاسلوب ذاتيهما اللذين يمارس بهما هذا الحق في شأن اي نشاط اجتماعي آخر، فليست للبحث العلمي والمشتغلين فيه حصانة او قدسية خاصة تضعهم فوق مستوى المساءلة الاجتماعية او تعطيهم حقوقاً متميزة لا تتوفر لغيرهم. ومن هذا المنطلق يكون الاخفاق في تحقيق التطلعات والآمال فشلاً مزدوجاً يشترك الطرفان فيه ويتحملان مسؤوليته معاً.
في العراق الآن، العديد من المؤسسات البحثية سواء كانت رسمية ام مرتبطة مباشرة باعلى هرم الدولة والوزارات والجامعات – المجمع العلمي وبيت الحكمة – لكن ما يجمع بين هذه المؤسسات انها جميعاً تمر في ازمات واشكاليات خانقة اخذت تمسك بتلابيب هذه المؤسسات التي يفترض ان ترفد صانعي القرار ورجال الدولة بالمعلومات والتحليلات الضرورية، ونحن نعايش كل يوم احداثاً مريرة ومثيرة في عالم داخلي مادي مستقبله مبهم وعالم خارجي يتغير باستمرار. كما انه في الاساس لا يوجد في العراق مؤسسات بحثية بالمعنى العلمي، وعندما نذكر بعضها فان عملها يتلخص بعمل ندوات في موضوع اشبع دراسة ونقاش، ومحاضر بائس معرفياً ومتخلف علمياً، وجمهور يحضر قسراً لملئ الكراسي لا غير… ناهيك عن اصدارات مغبرة في المخازن لا منافذ تسويق لها ولا قدرات وظيفية عارفة بتسويقها… وهذا العمل لا نستطيع ان نقول انه يدخل ضمن باب الابحاث او طرح معلومة جديدة، لذلك فأن مؤسساتنا العلمية البحثية في العراق تعاني من اشكاليات عدة تتمثل في ابرزها:
1- نقص الموارد البشرية المدربة تدريباً جيداً.
2- انعدام الكفاءات العلمية المتمكنة من صنعتها، وان توفرت فهي مركونة ومهمشة لا يستفاد من علميتها.
3- نقص الموارد المالية او فقر المخصصات المالية الخاصة للانفاق على البحوث واحياناً ينظر للموضوع على انه عطاء للبحث في قضية ما، ولا ينظر اليه على انه بحث له مقوماته وخصائصه وكلفته الخاصة به.
4- اغلب المؤسسات العلمية لا تتوفر فيها المراجع والمعلومات والارشيف الحديث، وبذلك لا يمكن تسميتها مؤسسات بحثية بالمعنى العلمي.
النظرة كلها للعلم عندنا في العراق خاطئة، وهذا خلق جواً عاماً لا يشجع على البحث العلمي، اضافة الى ان صانع القرار في بلادنا لا يعتقد انه بحاجة الى ابحاث متخصصة تعينه في اتخاذ قراراته، فهو يعتقد انه يعرف كل شيء، واذا لجأ للبحث يلجأ له آنياً في لحظة ضغط معينة، والحاجة لمنقذ، ويفضل ان يأتي بخبير اجنبي.
ان مثل هكذا مؤسسات بغض النظر عن وضعها التنظيمي تعد جزءاً هاماً من مؤسسات الدولة تتميز في موقعها ضمن هذه المؤسسات وفي اهدافها المتصلة بكافة نشاطات الدولة، وهذه المؤسسات تعتمد جوهرياً على قدرة نشاط البحث في المعضلات والمعوقات التي تعانيها الدولة بمؤسساتها… وفي تقديم البدائل والحلول لتجاوزها ولتطويرها، كما ان الصلة بين هذه المؤسسات وبين المجتمع ليست فقط في انجاز البحوث وتطبيقها بحيث يستفاد منها المجتمع وانما هي في الواقع تعكس اهتمام قطاع العلماء بواقع مجتمعاتهم المحيطة بهم والتي هي في نهاية الامر صاحبة تلك المؤسسات ومالكتها وممولتها والمستفيدة في النهاية منها ومن جهود القائمين فيها، وبذلك نجد ان هذه المؤسسات في الدول المتقدمة تعتمد في بعض مواردها على تبرعات الافراد ودعمهم المالي والمعنوي وبالتالي يصبح التفاعل ذا اتجاهين، وهذا يعني ترابط قطاعات المجتمع وتعاونها فيما بينها مما يدفع بها جميعاً الى الامام.
ان هذا التبادل المشترك بين المؤسسات العلمية البحثية والبيئات المحيطة بها تعكس طبيعة تلك المؤسسات وتلك البيئات والصلة التي تربطها فالمجتمعات المتقدمة انعكس تقدمها على هذه المؤسسات ثم عادت هذه المؤسسات فقدمت بحوثها وخدماتها للمجتمع من حولها، فأكملت بذلك حلقة التقدم التي لا تتوقف بتفاعل الاثنين معاً فضلاً عن ذلك، فان الترابط فيما بين هذه المؤسسات المختلفة والمتنوعة يعد امراً ضرورياً حيث لا يمكن الفصل بينهما مهما اختلفت تبعيتها او اهدافها، فهي بحد ذاتها تمثل تنوعاً طبيعياً في نظام واحد متكامل.
سأحاول هنا فيما يأتي النظر في اسباب هذا القصور في تحقيق الطموحات المنشودة، وسأستعرض فيها محاور ثلاثة قد يكون النظر فيها مفتاح الخروج من المأزق الذي تنفرد به.
– المحور الاول: فهو الطبيعة الخاصة للنشاط العلمي والتي ينفرد بها من بين كثير من النشاطات الاجتماعية الاخرى. ان البحث العلمي في جوهره رحلة في عالم المجهول، ومسيرة في دروب غير مطروقة نحو اهداف مرغوبة. وقد لايؤدي السير في احدها الى بلوغ الهدف، او قد يكون طريقاً مسدوداً لا مفر من الرجوع عنه، او قد تعترضه صعاب وعقبات لم تكن في الحسبان، او يفتح السير فيه افاقا جديدة ومفيدة لم تكن اصلاً مما سعينا اليه عندما نقرر السير فيه.
وهكذا، فان واحدة من الصفات المميزة للبحث العلمي هي عدم اليقين من نتائجه، وما يتطلب هذا من توازن دقيق وحساس بين عقم السير في طريق لن يؤدي الى المراد، ووهن العزيمة الذي تضيع معه بلوغه لو ان الباحث ثابر في سعيه ودأب فيه.
اما الصفة الثانية، فهي صعوبة تحديد النجاح او الفشل فيه، او تقدير اجمالي المردود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي له. اننا قادرون على تقييم مباشر وواضح للمردود في النشاط الانتاجي المادي، بل وحتى في الانشطة الاخرى التي لا يكون المردود الاجتماعي فيها مما يمكن تقييمه كمياً لكن يمكن تقييمه كيفياً، مثل الخدمات التربوية والصحية… لكن تحديد مردود النشاط العلمي وطرق ذلك مسألة مازالت محل تمحيص وحوار حتى في المجتمعات المتقدمة التي مارست هذا النشاط لسنوات طوال، واكتسبت خبرات عريضة في طرق تخطيطه وادارته والاستفادة من نتائجه. ويزداد الامر تعقيداً عندما يؤدي البحث الى نتائج سلبية، اذ يصبح تحديد جدوى هذا الانجاز السلبي بدقة والنظر في مبررات ما انفق عليه امراً بالغ الغموض.
وثمة صفة ثالثة ترتبط بعدم اليقين، هي طوال الفترة الزمنية التي تنقضي عادة بين التوصل الى نتائج مشجعة وبين تطبيقها تطبيقاً نافعاً في منتج او خدمة. واذا ما كانت هذه الفترة تنناقص يوماً بعد يوم في المجتمعات المتقدمة، فهي ابعد ما تكون عن ذلك في مجتمنا العراقي الآخذ بالنمو. فلا تتوفر فيه بعد آليات انتقال هذه المنجزات العلمية الى قطاعات الانتاج والخدمات، دع عنك مستوى قدرة هذه القطاعات نفسها على الوفاء بقدر ذي قيمة من حجم ونوعية المنتجات والخدمات التي يطلبها المجتمع، ذلك المستوى الذي جعلنا نعتمد حتى الآن على استيراد الكثير منها من الخارج، او على احسن تقدير، الاعتماد اعتماداً شبه كامل على مصادر الخبرة الفنية والمعدات في توفير ما تقدمه وحدات الانتاج والخدمات من هذه المتطلبات على ارض الوطن.
وليس غريباً اذن، الا ترحب قيادات وحدات الانتاج والخدمات بتدخل اجهزة العلم الوطنية في عملها، وذلك حرصاً من الاولى على استثماراتها في هذه المستوردات وانعكاساً لشكوكها التي قد تكون مبررة في كثير من المجالات في قدرة الثانية على تقديم اسهام ذي قيمة في هذا المجال. وهذه حلقة مفرغة تفصل بين مؤسساتنا العلمية وبين فرص اكتساب الخبرة والمهارة في تطوير قدراتنا الانتاجية، ندور فيها منذ بدأت جهود التنمية الشاملة في العقود الاخيرة.
– المحور الثاني: فهو جهل الغالبية العظمى من القائمين على شؤون المجتمع بطبيعة النشاط العلمي ودينامية نموه ومتطلباته وعدم توفر الخبرة المباشرة على نطاق كاف بينهم في صدد خصوصية النشاط العلمي والبيئة التي يجري فيها. وهذا الوضع هو حصاد سوابق تاريخية حرمت مجتمعنا من الاسهام في هذا النشاط حتى وقت قريب جداً، فتركتنا فاقدي الحد الادنى من الدراية بالطرق الفعالة لحفز هذا النشاط وزيادة غطائه في اطار المراحل التي نمر فيها في مسيرة تنمية مجتمعنا. والملاحظ اننا مازلنا نفتقد بين قيادات مجتمعنا اناساً مارسوا العمل العلمي لزمن كاف وتحملوا مسؤولية ادارته واكتسبوا الدراية اللازمة بالطرق المثلى لتنشيطه في مجتمع نام، بدءاً مما يكاد ان يكون نقطة الصفر في حالات كثيرة.
في الجانب المقابل، فان هذه القيادات مدركة لما حققه ويحققه العلم في مجتمعات اخرى راغبة رغبة مشروعة في ان ترى قدراً محسوساً من هذا الانجاز على ارضها. الا ان هناك فرقاً شاسعاً بين الرغبة والقدرة، وبالذات في هذا المجال. واذا ما كان اقتناء الآلات او تشييد الصروح الضخمة امراً يمكن الاسراع فيه، فان بناء قدرة وطنية فاعلة في المجال العلمي امر تقف في وجه تحقيقه صعاب لابد من مواجهتها. فتأهيل الفرد العلمي حتى يصل الى مصاف العطاء العلمي المبدع، استناداً الى دراية راسخة بمنجزات العلم وآفاقه المستقبلية في فرع تخصصه وممارسات متنوعة فيه، امر لا يمكن الاسراع فيه باكثر من حد ادنى معلوم من السنين، ونشأة فريق العمل العلمي الكفء والمتمرس في اساليب العمل الجماعي، وتوفير متطلباته من الخدمات والاجهزة المساندة، ادارية وفنية، وتكوين الخط الثاني من التقنيين المهرة الذين يعتمد عليهم الصف الاول من الباحثين في اداء مهماتهم، وصهر هذه المكونات كلها في اطار تنظيمي فعال، تبلورت فيه اساليب تخطيط ومتابعة وادارة ملائمة ومحققة للهدف، كل هذه امور ابعد ما تكون عن ان تكون هينة او ميسرة او مما يمكن الاسراع في تحقيقه عن طريق استيراد الخبرات والكفاءات، كما الفنا في مجالات الانجاز المادي الاخرى.
وربما لا نبالغ ان قلنا ان اول الاهداف الرئيسية في النشاط العلمي في مجتمعنا الآن هو بناء القدرة الوطنية التي لابد منها لكي تحقق انجازات علمية تخدم القطاعات الوطنية الاخرى او تزيد رصيد البشرية من المعرفة العلمية.
ان قيادات دولتنا في مختلف مفاصل مؤسساتها… مطالبون بان يكرسوا قدراً كافياً من وقتهم وفكرهم للنظر في هذا الامر، والفهم الواضح لطبيعة النشاط العلمي ولمراحل نموه وتأهله في مجتمعنا، وللدراسة المتعمقة للخبرات المشهودة فيه وتحليلها والتعرف على منطلقاتها واسباب نجاحها واخفاقها، واستخلاص المداخل المثلى لتنشيط البحث العلمي في عراقنا، وتحقيق وصل فعال بينه وبين قطاعات المجتمع الاخرى، والتخطيط لهذا تخطيطاً واقعياً ومجدياً.
– المحور الثالث: انه المدخل الامثل لتحريك الوضع الراهن، بعيداً عن روح التشاؤم وردود الفعل المتشنجة، نحو مسيرة تقرب بيننا وبين فرص تحقيقنا لشيء مما تطلعنا اليه تطلعاً مشروعاً من عطاء العلم في تنمية مجتمعنا. انه دور رجال العلم انفسهم في معالجة الظاهرتين السابقتين… وانا اتحدث هنا بوصفي فرداً ينتمي الى المجتمع العلمي. ومن هذا الموقع يكون واجباً عليّ ازاء زملائي، ومن حقي عليهم ايضاً، ان اتحدث بصراحة معبراً عن رؤيتي لواقع هذا المجتمع، ناقداً لما اراه من قصور فيه، حرصاً على ان يحقق ما عقد عليه من آمال.

ان السمة الغالبة على المجتمع العلمي العراقي، هي انغلاقه على نفسه وشكواه الدائمة في دوائره المنعزلة من عجز اهله عن فهم دورهم وتقديره حق قدره، وعن حرمانهم مما يتطلبه حسن اداء مهماتهم من اموال وادوات ووقت.. ومن عزوف قطاعات المجتمع الاخرى عن الاستفادة منهم والتفاعل معهم، متطلعين في حسرة الى ما يحظى به اقرانهم في بلاد اسعد حظاً، من رعاية ودعم وتواصل يحقق لهم طموحاتهم العلمية ورضاهم عن النفس، وهم يرون اسهامهم في تنمية مجتمعاتهم. واذا ما كان الاسلوب العلمي الذي دربنا عليه يقضي بان ندرس الظاهرة وان نحللها وان نتعرف على اسبابها، فما اجدرنا بان ننصرف عن شجب ما نعانيه من تفسير وعزوف الى محاولة جادة لفهم اسبابه. ولنبدأ بانفسنا اولاً. وهنا اقول وعن تجربة شخصية، ان الكثيرين منا نحن- علماء وباحثين- لم يتعمقوا في فهم النشاط العلمي بوصفه ظاهرة اجتماعية تعكس اوضاعاً وقيماً وممارسات سائدة في مجتمعنا، ولا نحن حاولنا التعرف على اطوار نمو هذا النشاط في مجتمعات اخرى حققت ما يصبون اليه من رعاية وتواصل في مجتمعنا.
اننا جميعاً نعرف ما نريد، ولكن قلة قليلة منا تعرف السبيل الى تحقيقه، او تحقيق شيء منه. ولو اننا خصصنا قدراً من فكرنا وجهدنا لهذا الامر لخرجنا من موقف العزلة والشكوى التي لا تجد استجابة خارج محيطنا الى تصورات اوضح لحقيقة الوضع الراهن واسبابه، ولبلورنا افكاراً جيدة وفعالة لمعالجة هذ الوضع. واذا ما حققنا شيئاً من الاجماع حول هذا في محيطنا، فسيكون واجبنا التالي هو اقامة الفريضة الغائبة، وهي اقتناعنا بان من اهم واجباتنا في المرحلة الراهنة ان تخرج من قوقعة انعزالنا الى الشارع، وان نحدث محيطنا الاجتماعي عن طبيعة نشاطنا ومراحل تطوره ومتطلباته من المال والادوات والوقت، وحقيقة قدراتنا العلمية، وسبل تطويرها، ومنهجيات تقييم ادائنا، وآليات الاستفادة منه في انماء مجتمعنا.
من هذا المنطلق وحده، فيما ارى، يكون خلاصنا من المأزق الذي يضيف خناقه علينا هذه الايام، ومنه قد نشكل في مجتمعنا قوة اجتماعية ضاغطة نشترك معها في اجماع على رؤية واضحة لقضايانا ولطرق معالجتها، ونصل الى قناعات مشتركة بيننا وبين صناع القرار، تؤدي الى علاقات عمل بناءة وسلسلة، وتوفير محسوب بدقة لاحتياجاتنا، ونمط سليم لمتابعة اعمالنا وتقييم ادائنا.
فالمؤسساتالعلمية البحثية تتميز عن بقية مؤسسات الدولة والمجتمع من خلال :
1- طبيعة الاهداف المرسومة من خلال ما تحققه نتائج البحث العلمي.
2- طبيعة المهام البحثية التي تتطلب كفاءات عالية التخصص ومهارات ومؤهلات متميزة تعمل ضمن بيئة مادية خاصة تستلزمها طبيعة العمل البحثي كعمل علمي، وما يفرض من بيئة تنظيمية قادرة على استيعاب نشاطات البحث العلمي.
*البيئة التنظيمية للمؤسسات العلمية البحثية
تعد المؤسسات العلمية البحثية انظمة متكاملة، والنظام هو مجموعة من العناصر تعمل ضمن حدود وتتفاعل مع بعضها لتحقيق واحد او اكثر من الاهداف، ولها هيكل تنظيمي يميزها عن باقي مؤسسات المجتمع والدولة، يجعلها نظاماً مفتوحاً يتكون من مجموعة من العناصر المتفاعلة والمتصلة مع الجهات والمؤسسات الخارجية وتتأثر بها، وهذه العناصر هي:
* المدخلات، وتتكون من :
أ- الموارد البشرية، وتضم الملاكات العاملة، ويمكن تصنيفها الى:
– الباحثون ومساعدوهم، ويمثلون الملاك الفني العامل في نشاطات البحث العلمي.
– الاداريون، وهم القائمون على توفير الخدمات اللازمة والمساعدة لتهيئة البيئة المناسبة للبحث العلمي.
ب- الموارد المالية، وتشمل:
– التخصيصات المالية المعتمدة في الميزانيات.
– الموجودات التي بحوزتها، كالأبنية والاجهزة، والمعدات…
ج- المعلومات، ومصدرها البيانات والاحصائيات التي تحتاجها نشاطات البحث العلمي، ومنها الكتب والمراجع العلمية، والتقارير والوثائق والدوريات…
* المخرجات:
وتتمثل بنتائج البحوث العلمية المختلفة، وهي نتائج نشاط البحث العلمي التي تقوم بها مؤسسات البحث العلمي، وكذلك المعلومات والمعارف المضافة الى المكتبة التابعة لها والافكار والاستشارات العلمية والتطويرية لمؤسسات المجتمع وافراده الى جانب تطوير كفاءة العاملين فيها.
ان نتائج البحث العلمي هي معلومات غير مبتورة ولا نهائية، لانها قد تكون مدخلات لانشطة بحثية جديدة، وذلك، لان البحث العلمي نشاط متواصل وعمل دائم التجدد والتكامل لا ترتبط نتائجه بخط ثابت متقن بل انه يسعى دائما لاكتشاف كل ما هو جديد في مجال تخصصه. كما ان نتائج البحث العلمي غير مباشرة وبالتالي فان اثاره قد تكون غير ملموسة باستمرار، وذلك لصعوبة قياسها بالنظرة القريبة المدى.
* النشاطات: وتتحقق من خلال توزيع المهام التي تحقق اهداف وسياسات المؤسسات البحثية ضمن الاختصاصات الوظيفية الاساسية المطلوبة لتنفيذ نشاطات البحث العلمي وتحديد طبيعة العلاقات الوظيفية بين الوحدات التنظيمية المختلفة المختصة بتنفيذ المهام، وتتمثل بمخطط الهيكل التنظيمي الذي يضم ايضاً الوحدات التنظيمية المساعدة الادارية والتمويلية والتسويقية، كما ويعكس العلاقات التنظيمية من خلال المسؤولية والصلاحية المقررة لكل مستوى من المستويات التنظيمية داخل هذه المؤسسات
*مؤهلات العاملين في مؤسسات الابحاث
مجموعة فعاليات تدخل جوهر البحث العلمي واركانه الاساسية والتي بدونها لا يمكن تحقيق هذا النشاط، وان ممارسة هذه الفعاليات تتطلب وجود ملاكات متخصصة ومؤهلة لادائها باستمرار تمتلك قدرات معرفية وفنية ذاتية تمكنها من الولوج في ادق انواع النشاط البحثي الابداعي، وذلك لتمتعها بمؤهلات عالية في مجال تخصصي دقيق نتيجة للدراسة والمتابعة والخبرة، ومثل هذه الفئة المتميزة من العنصر البشري لا يمكن تواجدها الا في فئة الباحثين العلماء. ان حاجة المؤسسات البحثية ترتكز في اجمالي نشاطها الانتاجي على فعاليات البحث العلمي بعكس المؤسسات غير العلمية التي تكون حاجتها للباحثين والعلماء مقتصرة على جزء من نشاطها الانتاجي او ذلك الجزء من نشاطها المساعد وبحدود احتياجاتها للتطوير او للتغيير او لمعالجة المشكلات التي تعترض مسيرة عملها.
ويمكن تحديد خصائص العاملين في المؤسسات البحثية وفق بعض العوامل الاساسية المستخدمة لوصف وتحليل تركيب القوى العاملة، وهي: العمر، المستوى التعليمي والثقافي العام، المستوى المهني… آخذين بنظر الاعتبار، ان الباحثين والعلماء يمثلون الاغلبية العظمى والمكون الاساسي من مكونات هذه المؤسسات البحثية والتي هي للاسف مفقودة بالكامل في مؤسساتنا العراقية.
-العمر- يتراوح عمر العاملين- باحثون ومساعديهم- في مؤسسات البحث العلمي ما بين (25) الى اكثر من (70) سنة، وذلك لان فئة الباحثين العلميين هم من المؤهلين بمستوى تعليمي لا يقل عن الدبلوم العالي او الماجستير. وغالبا ما تكون الفئات العمرية المتقدمة في السن شاغلة للمناصب الوظيفية القيادية في الهيكل التنظيمي للمؤسسة البحثية، بسبب ما تحمله هذه الفئات من مواصفات علمية تتعلق بتخصصها وامتلاكها السمعة العلمية المتحققة عن اسهاماتها النظرية او التطبيقية، ولها الاقدمية في دخولها هذا المجال العلمي من بين ذوي الاختصاص نفسه العاملين في المؤسسة، مما يحقق شرعية اعتلائها المناصب القيادية، فضلاً عن اتصافها بالنضج العقلي والنفسي والمهني والاجتماعي بما يعطي للمؤسسة خاصية متميزة تتمثل في قدرتها على تحقيق بيئة تنظيمية ايجابية.
-المستوى التعليمي والمعرفي- يمثل حملة شهادات الدبلوم العالي والماجستير والدكتوراه الجزء الاعظم من العاملين في المؤسسات البحثية، وحيث ان امتلاك هؤلاء الشهادات العليا، تعني تعرضهم خلال سني دراستهم لعمليات الاحتكاك والتكيف للبيئة العلمية ولمجتمعات متميزة ثقافياً وحضارياً بحكم تواجد الجامعات فيها، اضف الى ذلك اطلاعهم المستمر على ما ينشر من نتاج فكري في مجال اختصاصهم وقراءاتهم المستمرة، مكنتهم من امتلاك خزين معرفي متنوع…..
وعلى هذا الاساس، فان البناء العلمي للمؤسسات البحثية، يتمتع بنسبة عالية من الملاكات المتميزة بثقافتها وقدرتها على التواصل والتفاعل مع بيئات ثقافية مختلفة، والانتفاع منها بالقدر الذي تحتاجه.
المستوى الوظيفيي- نظراً لتقارب مستويات العاملين في مؤسسات الابحاث من حيث مؤهلاتهم، ولأن الفوارق لا تتعدى الا ما يتعلق بالخبرة والاقدمية، اذ تكون الملاكات العامة عموماً مؤهلة بشهادات عليا ذات تخصصات لصيقة ومتداخلة مع بعضها البعض، لأن المستوى المهني والوظيفي لا يحتمل التصميم الرأسي، ويكون اكثر ميلاً للتصميم الافقي مع مستويات محدودة بالاتجاه الرأسي، حيث يشتمل الهيكل التنظيمي لأي جهاز بحثي بغض النظر عن موقعه التنظيمي من المؤسسة الأم، على عدد من الوظائف ترتبط بعضها ببعض افقياً في مستوى وظيفي واحد تشكل وحدات عمل متخصصة- فرق بحثية- تتولى مهام البحوث والدراسات حسب التخصصات الدقيقة، تضم كل واحدة منها مجموعة من الباحثين المتخصصين، وترتبط رأساً بادارات اشرافية اعلى منها.
ويتم تنسيق العلاقات الوظيفية بين الادارات الاشرافية من خلال علاقاتها الوظيفية التخصصية ببعضها افقياً وبالادارة العليا رأسياً، لغرض انجاز نشاطات البحث العلمي المطلوبة، وتعتبر هذه الوحدات الورش الانتاجية للجهاز البحثي والقاعدة الاساسية لتنفيذ المهام البحثية.
ان السلطة الممنوحة لمسؤولي الوحدات البحثية او ما يطلق عليهم بقادة الفرق البحثية، قد تتضاءل امام احد افراد فريق البحث الذي يتحمل الجانب الاكبر من المسؤوليات الفنية للبحث العلمي، نتيجة خبراته وسمعته وتخصصه العلمي في المجال المبحوث، وذلك، لان مهام فريق البحث غير ثابتة وانما هي متغيرة باستمرار مع كل بحث جديد، فان الحاجة الى اعادة تفويض السلطة حسب المسؤوليات الجديدة يعد امراً طبيعياً.
فالسلطة هنا لمن يتحمل الجانب الاكبر من المسؤوليات الفنية للبحث العلمي وليس لمن يتحمل المسؤوليات الادارية، وذلك لضمان السرعة في اتخاذ القرار من خلال جعل القرارات ضمن المسؤليات او الفرق التي تتعامل مع المسألة المطروحة والتي تكون الاكثر قدرة فنياً على اتخاذ القرار السليم.

*الاستحقاقات الموكولة للمؤسسات البحثية
ان المؤسسات العلمية البحثية قبل ان تكون انتاجاً ثقافياً ومعرفياً، هي منجز حضاري متميز، اذ ان هذه المؤسسات تعكس اهتمام الامم والمجتمعات في حفظ تراثها ومنجزاتها المعرفية والحضارية، لان حفظ المنجز الفكري والاجتماعي والعلمي لمجتمع ما هو ممارسة واعية للتحولات والتطورات التي تحصل في المجتمع، وعملية هادفة لتأكيد ذاكرة المجتمع الحضارية. فالمؤسسات البحثية، هي بمثابة المخزن والوعاء لذاكرة التاريخ الانساني في ابعاده المختلفة وعلى حساب اهتمام واختصاص مؤسسات الابحاث.
والمؤسسات البحثية وكمنجز حضاري، هي وليد الواقع النهضوي الذي يعيشه مجتمع ما، اذ يسعى كل مجتمع في مسيرته النهضوية الى تأسيس الأطر والاوعية المنسجمة والظروف التاريخية التي تحفظ منجزاته العلمية والمعرفية، وتسعى نحو تطويرها وتأكيدها في الوسط العام.
وتتميز المؤسسات البحثية، بانها ضرورة قصوى لاستحقاقات بالغة الاهمية، افرزها العصر والمرحلة في كل بقاع العالم، فهذه التحولات السريعة في النظام الدولي وتشابك وتعقد مجريات السياسة والاقتصاد والمتغيرات الاجتماعية مع الضرورة لبناء علاقات متميزة تتجاوز المصالح الشكلية… كلها تحتاج الى وعي عميق بمجريات وآليات تكوينها والتعاطي الايجابي معها واستشراف النتائج المستقبلية لها. ولا اعتقد ان هناك نظام اودولة في العالم يمكنها العيش ضمن دائرة التوازنات الدولية المعقدة وهي تعتمد على ضروب الحظ والصدفة ولا تعير اهمية للبحث والاستقصاء وقراءة احداث الماضي ووعي الحاضر واستشراف المستقبل.
واذا اردنا ان نلخص الاستحقاقات الموكولة لمؤسسات الابحاث في نقاط محددة فانها تمثل مجموع الاهداف التي ترفعها هذه المؤسسات على شتى انواعها، وتتلخص بالآتي:
1- تطوير الحياة المعرفية في الوسط العام، فمؤسسات البحث العلمي عادة ما تستقطب اصحاب الاهتمام والخبرة. لذلك فان لهذه المؤسسات الدور الاساسي في تطوير الحياة المعرفية والفكرية والعلمية في الوسط العام عن طريق انشطتها الثقافية ومنابرها الاعلامية المختلفة. لذلك نجد في الكثير من البلدان ان وراء تقدم وتطور الحياة الثقافية والعلمية مؤسسات البحث العلمي في مختلف الحقول والاختصاصات، حيث تقوم هذه المؤسسات برفد المستفيدين بالمعلومة الجديدة الموثوقة والتحليل العلمي الرصين وتبلور آفاق المستقبل، وتوضيح المدلهمات من القضايا والاشكاليات…
2- اقامة جسور العلاقة والتواصل بين اطراف متعددة تمثل بمجملها اقطاب ادارة السياسة العامة وتنفيذها والتفاعل معها، فهي تتوسط العلاقة بين الحكومة والمؤسسات الاكاديمية من خلال تمويل السياسة من عملية اجرائية وممارسة الى مادة علمية تنتظم في اطروحات ونظريات وافكار يمكن تناولها من قبل الاكاديميات في مجال البحث والدرس، وبذلك تخدم المؤسسات البحثية المؤسسات الاكاديمية في تحويل التجربة العلمية الى مادة نظرية تدعم البناء العقلي والعلمي وتقدم له ارضية التطور، ومن جهة اخرى تمكن الحكومة من تلاقي اخطائها او تحسين وسائلها من خلال ما يتم ملاحظته عبر الرؤية الاكاديمية وما تتمخض عنه عملية التطوير الفكري والمناقشات النقدية لتلك الافكار.
ولا تقف عند هذا الحد المؤسسات البحثية بل تجسر العلاقة بين الحكومة والمؤسسات الاعلامية من خلال تحليل العملية السياسية وسبر اغوارها وتقديم هذا التحليل بين يدي الاعلام ليستطيع ان يوجه اسئلة عميقة ومكثفة تصيب كبد الحقائق وجوهر المجريات السياسية. ومن جهة اخرى تمكن هذه المؤسسات الحكومية من بيان رسالتها عبر وسائل الاعلام من خلال تأمين الندوات واللقاءات العامة للسياسيين التي يشرحون فيها وجهة نظرهم وحقيقة سياساتهم، امام الرأي العام.
3- توطيد اواصر العلاقة والتفاعل بين الثقافات والحضارات من خلال توفير فرصة تبادل المعلومات والافكار بين المراكز في الدول المختلفة. ويمكن ان يوفر ذلك دعماً مكثفاً لحركة الدبلوماسية في البلدان باتجاه الآخرين من خلال الفهم الواعي للآخر وفتح فرصة التواصل معه.
4- اشاعة روح البحث العلمي والتعامل مع القضايا بموضوعية وتعميم ثقافة البحث والتحري والاستدلال التي تقف بالضد من ثقافة التسطيح والخرافة والاحكام العشوائية، ورعاية المبدعين على وجه الخصوص وتوفير الفرصة المناسبة للراغبين في البحث والكتابة والتأليف وابداء الرأي واقامة جسور التواصل بينهم وبين الجمهور.
5- ان تطور الدولة الذي انتهى الى ما يسمى بالدولة الحديثة، افرز جملة كبيرة من الاستحقاقات الضرورية التي لا يمكن ادائها عبر حكام ومسؤولين وموظفين ذوي كفاءة محدودة فاصبح من الضروري ان يتم بناء الجميع مهنياً بما يتناسب والدور الذي يقومون به، وخصوصاً اولئك الذين تقع عليهم مسؤولية اعداد القراءات الكبرى وتنفيذها.
ولا شك في ان هذا البناء يحتاج الى المعلومات المتخصصة المطروحة باسلوب يسهل وعيها وادراكها وتحويلها الى واقع عملي من خلال الممارسة، بالاضافة الى عملية التدريب المباشر. وهنا تشخص مؤسسات البحث العلمي كملبٍ كفوء يستطيع تقديم المعلومات التأهيلية الضرورية، فضلاً عن قدرتها على اقامة الدورات العامة والخاصة التي من شأنها ترقية وتطوير الجهاز الحكومي بكل سلطاته الثلاث.
6- ان النظر الى السياسة بنظرة تحليلية، نراها تتلخص في عملية اتخاذ قرارات وتنفيذها، وهذه العملية تنطوي على عدة مراحل متدرجة وضرورية تشكل بمجملها الخطوات الضرورية لآثار السياسة على الارض.
بالتأكيد، ان التطور الواضح للمشكلة او الحاجة او الموقف المراد اتخاذ القرار بشأنه، ونوع الوسائل المناسبة لتحقيقه والخيارات المتاحة في هذا المجال، والتنبؤات المستقبلية له، وامور اخرى… تمثل بمجموعها عماد عملية اتخاذ القرار وتنفيذه والتي تساوي العملية السياسية، بحسب تحليلنا. وهذه الامور جميعاً تحتاج الى دراسة معمقة وواعية وعلى اساس عملية منهجية، وليس غير مؤسسات البحث العلمي وخصوصاً السياسية منها، اولى بهذه المهمة منها. فلا يمكن لاي مؤسسة اخرى ان تضطلع بهذا الدور غير المؤسسات البحثية، ولذلك اصبحت هذه المؤسسات المشتغلة على الامور السياسية، جزء لا يتجزأ من العملية السياسية في معظم البلدان الديمقراطية.
وكثيراً ما ذكرت… ان اول بشارة تؤكد ركوب بلداننا على جادة التنمية الحقيقية والسياسية الصحيحة، هي التي تكشف عن المشاورة الجدية والاستشارة الفعلية من قبل الساسة وصانعي القرار لذوي الاختصاص من مراكز واشخاص وتكون التصريحات والقرارات والفعاليات السياسة العامة مبنية على هذه الاستشارات ومستنيرة برأيها.
كما يمكن لمؤسسات البحث العلمي ان توفر فرصة مناسبة لأولئك الذين يريدون البقاء قريبين من المجريات السياسية وفاعلين فيها مع خروجهم من حيز المسؤوليات التنفيذية المباشرة من خلال تداول السلطة او التقاعد او اي اسباب اخرى، بحيث يمكنهم البحث والتحليل والتقييم وتقديم المشورة عبر ما يملكونه من خبرات واسعة، وهذا ما نراه جلياً في اكثر من بلد متقدم، حيث يعمل وزراء ومسؤولون كبار سابقون في الدولة في مؤسسات بحث مهمة.
ان تلك النقاط التي اندرجت تحت قائمة الاهداف المقصودة لمؤسسات البحث تمثل الاستحقاقات الضرورية التي لا مناص من تلبيتها وتحقيقها، وبالتالي فهي الطموح الذي ترنو العيون اليه بحيث تكون مؤسساتنا البحثية مالكة من الادوات والوسائل والوعي والتأهيل ما يمكنها من تحقيق تلك الاستحقاقات والا فأن التخلف عن اي استحقاق مما اشرنا اليه آنفاً يمثل علاقة نقص وتخلف في كيان الدولة وبنية المجتمع وثقافته وينعكس بشكل ظاهر على مجريات الحياة اليومية في الداخل والخارج.

*واقع ومشكلات المؤسسات العلمية البحثية
لقد تقدمت منا اشارة مقتضبة الى واقع المؤسسات العلمية البحثية العراقية من خلال التقديم، فواقع هذه المؤسسات يمكن تلمسه من عدة مؤشرات منها:
– مدى وعي المجتمع للدور الذي تلعبه هذه المؤسسات.
– الرعاية والاهتمام من قبل الحكومة بها.
– حجم النتائج المنسوب لها.
ان كل تلك المؤشرات تدلل بقوة على الواقع المزري الذي تعيشه هذه المؤسسات. فالقليل من الناس يعلم بالضبط ماذا تعني كلمة (مؤسسات بحث علمي) وكثيراً ما يلتبس الامر لدى السامعين بانها مؤسسات تدريسية تشابه الكليات، وهذا القصور في الفهم يمكن تلمسه بوضوح حتى داخل الجامعات.
وتتعاظم المحنة في عدم الوعي وتصل الى اعلى سلطة الدولة المعنية بشؤون مؤسسات المجتمع المدني، بحيث تقيس مؤسسات البحث العلمي مع غيرها من المنظمات والجمعيات التي تعمل على قضايا من السهل جمع اعداداً غفيرة من الناس لممارستها بخلاف المؤسسات البحثية وخصوصاً العاملة على اختصاصات مهمة مثل السياسة الدولية والقضايا الاستراتيجية والتي يشح عدد الاشخاص الاكفاء الذين يمكنهم تقديم الخدمة في مثل هذه الموضوعات.
اما في اطار الحكومة، فلم الاحظ الى ساعة كتابة هذه الدراسة توجهاً حقيقياً نحو هذه المؤسسات او التشجيع على تأسيسها، وحتى المؤسسات العلمية الحكومية مازالت في الاطار الشكلي وتمثل نافذة يمكن ان تستوعب مجموعة من الاشخاص بعنوانها (مكسب رزق) وتبقى النتاجات في اطار الروتين وبدائرتها الضيقة.
فهذه الملفات الشائكة في القضية العراقية، وهذه الاستحقاقات المتعاظمة التي تتكاتف يوماً بعد يوم، لم يسجل دوراً بارزاً لمؤسسة بحثية في الاشتغال عليها، وتقديم الرؤى والتوجيهات بصددها. واذا كان هناك بعض الناتج المتميز في هذا الاتجاه فهو بجهد شخصي للباحث ولا يمثل مستوى المؤسسة. وبالاجمال، فان مؤسسات البحث العلمي في العراق تعيش حالة الفقر المدقع لابسط مقومات الوحدة البحثية.
وللتركيز اكثر على هذا الموضوع ندرج ادناه ابرز المشكلات التي تعيق عمل مؤسسات البحث العراقية وتحجم من دورها، وهي كالاتي:
1- الافتقار الى مصادر التمويل المستقلة- لا شك ان مؤسسات البحث العلمي لا يمكنها الانطلاق قبل ان تكتمل الادوات الاساسية لعملها، بدءاً من البناية المناسبة لعملها والاثاث الضرورية والى المكتبة الثرية/ الغنية التي تمثل العمود الفقري لمسألة البحث. وفي الوقت الحاضر لاغنى عن شبكة الانترنت واجهزة الحاسوب. وفي نفس الاتجاه ينبغي توفر ميزانية مستقرة لرواتب مجموعة من الموظفين الدائميين، بالاضافة الى المبالغ التي تدفع الى الباحثين كدعم لانجاز بحوثهم او كمكافآت عليها.
اما مسألة نشر انتاجها البحثي/ العلمي عبر مجلة دورية او كتب ونشرات واقراص مدمجة، فهي من الامور المهمة، وتمثل المؤتمرات، والحلقات النقاشية والمحاضرات او الجلسات الدورية، كأحد الادوات المهمة ضمن عمل المؤسسة البحثية.
وأكيد، فان القائمة اعلاه تحتاج الى الكثير من الاموال التي ينبغي ان تكون دائمة المصدر وبعيدة عن الضغوط والاشتراطات التي تؤثر على سير الابحاث ونتائجها.
2- ضعف مشاركة الباحثين وخصوصاً اساتذة الجامعات، حيث يطغى على الاغلب منهم السلوك الروتيني والاكتفاء بالمحاضرات الرسمية التي تلقى في الكلية، ولا ينجز من الابحاث الا ما يكون مطلوباً لاغراض الراتب او العلاوة او الترقية العلمية. ولذلك يحرصون على نشر ابحاثهم في مجالات معتمدة من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وكل هذه المجلات والاصدارات محدودة التداول، وفي الغالب تكتب للرفوف فقط، ولاجل ان يستعملها الاساتذة في نشر العدد الضروري من الابحاث المطلوبة لترقيتهم. هذا، بالاضافة الى طغيان النزعة المادية وتقديس الاموال. وقد لمست ذلك لدى الكثير الذين يرفضون الاشتغال مع اي مشروع بحثي الا بمبالغ مالية عالية يحددونها مسبقاً.
ان الجامعة العراقية مازالت تعيش محدودية الدور وروتينية الاجراءات، ولم تأخذ دورها المناسب في البناء الحضاري، ولا نبالغ اذا قلنا بان البعض يزداد جهلاً لا علماً في بعض الاوساط الجامعية من خلال الاسلوب الجامد والمتخلف لاغلب الاساتذة او طبيعة نظرتهم للبحث والتطوير الاجتماعي ومسألة اشاعة الوعي. ولا يزيد هنا اطلاق حكماً عاماً، فهناك بعض الشذرات في هذه الجامعة او تلك ولكنها في الغالب توصف بانها حالات تمرد على القيود الجامعية ونظامها. وفي نفس الاتجاه نؤشر ضعف الاهتمام بالدراسات الانسانية وتقدير مكانتها والاهتمام بخريجها، ومازال الكثير من الفروع العلمية الانسانية، كالاجتماع والسياسة لم يفتح منها الا واحداً او اثنين في عموم العراق.
3- الافتقار الى الروح الجماعية في البحث، فغالباً ما ترتبط المؤسسات العلمية البحثية بشخص الممول لها او الجهة الراعية لها سواء حكومة او افراد، وتكون منغلقة عليها.
ان العمل البحثي يمتاز بأنه ينمو ويتطور من خلال العمل الجماعي والكثير من الاشكاليات المعرفية والاحتياجات العلمية لا يسدها شخص واحد لوحده مهما كانت قدراته.
من هنا، يقتضي الامر وجود فريق متقارب بالكفاءة ويحمل الاستعداد النفسي والعلمي للتواصل في مشروع جماعي، بعيداً عن الانانية والبحث عن الالقاب الفارغة. ولعل روح الخدر وخطورة التجمع التي كانت واحدة من اهم سمات المرحلة المظلمة بسبب الخوف من مراقبة الاجهزة الامنية وقمع السلطة، هي التي ركزت هذه السمة وجعلت العمل الجماعي نادراً في اوساطنا الثقافية والبحثية بخلاف ماهو شائع في البلدان الغربية.
4- مشكلة اللاموضوعية في البحث – ان قيمة النتائج التي تطرحها مؤسسات البحث العلمي تكمن في مهنيتها وروحها المحايدة في فرض دورها. ولكن هذه المحايدة لا تسلم وتأتي مشوهة ومتأثرة مما يجعل نتائجها غير صادقة او لا يمكن الاعتماد عليها اذا جاءت نتيجة لأحد منتجات اللاموضوعية. وابرز ما يدعم اللاموضوعية ويؤسس لها الآتي:
أ- الضغط الايديولوجي الذي يمثل موجهاً لعقلية الباحث من خلال ما يؤمن به من مرتكزات. ان عملية الانتماء هي حالة صحية ومقبولة ولكنها ترفض اذا تحولت الى ضاغط دوغمائي يحجب الشخص عن رؤية حقيقة الوقائع ويفسرها بما تمليه عليه عقيدته دون الاكتراث برؤى الآخرين. ولعل هذا الموضوع ظاهراً جداً في الابحاث الانسانية وخصوصاً ما يتعلق بالسياسة منها.
ب- قوة المقدس الديني- لا شك ان مجتمعنا من المجتمعات التي تحترم الدين ويشكل العمود الفقري في حياتها، ويمثل الموجه الاعلى لتصرفاتها. وهذه القوة للمقدس الديني بحسب الرؤية الشعبية تعيق حركة البحث في بعض الاحيان وتجعل الباحث يجانب الصواب خوفاً من الاصطدام بما يثير حفيظة الجمهور ويؤلبهم عليه.
ج- الروح القبلية والعشائرية الطاغية- وهذه تضغط على رؤية الباحث وتحرف نتائجه الى الجهة التي تتوائم مع انتماءاته العشائرية او يمثل الوجود القبلي المتزمت مصدراً للتهديد عند الاقتراب من اي قضية تدخل في دائرة المسلمات ضمن الذهنية القبلية والعشائرية.
د- الارتكاز النفسي المستقر لرهبة السلطة- ان العقود الاربعة الاخيرة التي اصطبغت بجهود العلماء وتضحياتهم النفسية والجسدية نتيجة سلطوية مقيتة طبعت العقود المذكورة في النفوس الحذر والريبة من التصريح بالاراء التي تنقد السلطة او تعطي نتائج على غير هوى السلطة. وهذه الخشية قد تكون لا مبرر لها في الوقت الحاضر في بعض الاحيان، ولكن الارتكاز النفسي السابق له مأخذة الكبير في نفوس الكثير من الباحثين والمحللين، وقد لمست ذلك عملياً.
5- فقدان التنسيق بين المؤسسات البحثية والجامعات. وترجع ذلك اما لصعوبة وسائل التواصل والاخطار التي تحفها او التكاليف المترتبة عليها، او عدم فاعلية ماهو متاح منها. وبخصوص الجامعات، فان الروتين القاتل والقيود المفروضة عليها تجعل من التنسيق والعمل معها اقرب الى المستحيل. وتبقى دائرة التنسيق والتواصل محصورة مع الاشخاص دون المؤسسات.
6- انعدام قاعدة البيانات اللازمة لاجراء الابحاث- ان المشاكل السياسية والاقتصادية اليوم لا يكفيها ان تجلس وتتأمل…. ولكنها تحتاج الى الكثير من البيانات والاحصاءات المتوفرة والموجودة رهن اشارة الباحث. وبالتأكيد، فان ما موجود من احصاءات وبيانات محددة جداً وفي متناول بعض الجهات الرسمية وفي الغالب لا يسمح بالاطلاع عليها او من الصعب الوصول اليها.
7- الذهنية الشعبية غير المتعاونة مع الباحث والتي لا تليق بأسئلته وتنظر اليها بتوجس، وتعتبر ما تدلي به من تصريحات او معلومات يشكل نقطة خطر عليها في المستقبل.
ويظهر ذلك جليا في مسألة الاستبيانات وخصوصاً ما يسأل عن مسائل مهمة ومحل اختلاف. فالاجابات لا تكون دقيقة ويمتنع الكثير من التعاون مع مثل هذه الامور. وفي أحسن الاحوال ينظر لها البعض بالسخرية والاستهزاء وعدم الجدوى.
8- نمط التعليم السائد في جميع المدارس والجامعات الذي يتجه الى الطابع التلقيني والاملاء السلبي بحيث يحشو المدرس رأس الطالب بالمعلومة فقط دون ان يحاول بناء عقلية نقدية فيه، او يقوي روح التساؤل لديه الامر الذي نتج عنه تخلف روح البحث والتأمل لدى الاغلب الاعم من الطلاب. وحتى مع الحاجة للبحث لضرورة تكون المواصلة متغيرة او يضغط الطالب على نفسه قهراً لاكمال المطلوب فقط. وهذه المشكلة عميقة ويمثل هذا المؤشر مجرد جانب من جوانبها المتعددة التي تلقي بظلالها على عموم الحياة العلمية والفكرية.
9- الافتقار الى المكتبات التي تقدم ما يحتاجه الباحث خصوصاً فيما يتعلق بدراسة الامور المعاصرة والقضايا السياسية منها على وجه الخصوص. فالعراق عاش حصاراً فكرياً وثقافياً منذ اكثر من ثلاثين سنة، ولم تشاهد مكتباته نتاج الثمانينات العالمي فضلاً عن التسعينات وما بعدها. ومع توفر القليل منها فهو باسعار عالية فمعانات الحصول على الكتاب واحدة من اهم العقبات في حياة الباحثين. فطلبة الدراسات العليا يعانون الامرين من الحصول على المصادر المناسبة لموضوعاتهم ولعل البعض يعدل عن البحث في موضوعات حيوية مهمة لعلمه بندرة المصادر عنها او انعدامها.
10- ندرة العقليات الكفوءة التي تستطيع قيادة المؤسسات العلمية البحثية واستقطاب الباحثين الجيدين وايجاد الفضاءات والموضوعات الحساسة والضرورية في حياة البلد والمجتمع والاشتغال عليها. فقد تكون الشخصية كفوءة في مسائل الادارة البحثية ولكنها لا تدرك او محدودة الالمام بالاشكاليات المعرفية والاستحقاقات البحثية، مما يقف في طريق تقديرها الصحيح لأهمية الموضوعات التي ينبغي العمل عليها او توجيه مؤسسة البحث باتجاه موضوعات ثانوية. وهكذا عندما يتوفر جانب الالمام العلمي مع الضعف الاداري، ينعكس بوضوح على اداء المؤسسة من خلال الارتباك في العمل وضعف التنظيم وقلة النتائج.
11- انعدام النوافذ التي تستطيع مؤسسات الابحاث تجسيد نتاجاتها عبرها الى حقائق علمية. فلا توجد شركات كبيرة تتعامل مع مؤسسات البحث هذه، وبخصوص الحكومة فمازالت هي في وادي ومؤسسات البحث العلمي في وادٍ آخر.
انني عمدت في هذه النقاط الى الاقتصار على العقبات والمشاكل المشتركة لدى كل مؤسسات البحث العلمي وحتى الحكومية منها. وهذه التشخيصات جاءت نتيجة السؤال المباشر والمتابعة لاحوال تلك المؤسسات مع ما نعيش من واقع في مؤسساتنا البحثية العراقية (المجمع العلمي، بيت الحكمة…). ويبقى لبعض هذه المؤسسات مشاكل خاصة في حدودها ولكنها لا ترقى الى تأثير الامور التي اشرت اليها آنفاً ولذلك أثرت عدم التطرق لها.
*توظيفات البحث العلمي
ليس هناك جدال في ان الصراع الحضاري اليوم هو عبارة عن صراع علمي. وهذا يدل على ان الخروج من دائرة التخلف الى دائرة التقدم تتوقف بصفة اكيدة على جعل العلم قوة انتاجية حقاً.
ومشكلتنا في العراق الآن، ان هناك مجهودات حكومية تبذل لنشر الثقافة العلمية، لكن هذه الغاية يغلب عليها الطابع النظري وينقصها الجانب التطبيقي. والعلم الذي لا يتحول الى منفعة عملية تؤثر في مناخ الحياة، لا يتغلغل في بنيان المجتمع ولا يؤثر في القوى الفاعلة فيه.
ولكي يكون للعلم وظيفة عملية في المجتمع العراقي وليس كلاماً للتباهي به، يتعين على قادته ان يدركوا نفعه وان يقبلوا عليه تعليماً وتطبيقاً، كما يتعين على جميع رؤوساء المؤسسات البحثية واداراتها العلمية والمؤسسات الانتاجية… ان يظهروا استعداداً نفسياً وفعلياً لتقبل نتائج البحوث العالمية وتأثيراتها الايجابية في المجتمع، واذا توفرت هذه الارادة والمناخ العلمي الملائم، فبامكان العراق ان ينتفع بنتائج المعرفة العلمية ان هو اخذ بعين الاعتبار العوامل الآتية:
1- ان يقترن التبحث العلمي بالمعرفة العلمية النظرية- اي معرفة لماذا؟ Know- why وبالمعرفة التطبيقية- اي معرفة كيف؟ – know- how التي هي عبارة عن اساليب عملية نطلق عليها اسم التكنولوجيا.
صحيح ان العلم النظري او الاكاديمي يساهم في تعميق المعرفة في مختلف الاختصاصات، وقد يثمر هذا العلم ويأتي ببحوث ابتكارية، لكن التطبيقات العملية وربط النظريات بالواقع المعاش يومياً هي التي تبين مدى فعالية العقل ومقدرته على تلبية الحاجات الاجتماعية.
وفي اعتقادي الشخصي ان التركيز على المعرفة النظرية البحثية ينتج عنه عزل المؤسسات البحثية عن الاهداف الاجتماعية. وعليه، فمؤسسات البحث العلمي مطالبة بتطعيم برامجها البحثية بخطط عملية للتدريب في الاختصاص حتى يتخرج الطلبة وهم قادرون على ممارسة عمل معين مدعوم بخبرة مكتسبة من ميدان العمل.
2- اذا كانت مؤسسات البحث العلمي هي مراكز علمية- وكل مركز او مؤسسة علمية هي الوسيلة الرئيسية المستعملة لتمكين الانسان من استعمال فكره وقدراته للانتفاع بعقله ومهارته- فمن الحكمة ان يقوم صناع القرار المؤسسي عندنا باحالة مشكلات مجتمعنا الى العلماء، لكي يبدوا رأيهم فيها بموضوعية ويتقدموا بالاقتراحات والحلول البديلة لهذه القضايا التي تشغل بال رأس مؤسساتنا في الدولة. وهذا الاعتماد على العلماء يتطلب بطبيعة الحال تزويد العلماء بالوسائل المادية التي تمكنهم من اجراء البحوث والخروج بنتائج وتحاليل منطقية وعملية. والخطأ الفادح الذي يرتكب في حق العلم ببلدنا هو ان الجميع يعتبرون ان هذه المهمة تنفرد بها الدولة ويتكل عليها الجميع، في حين انه كان من المفروض ان يبادر المسؤولون على قطاعات الصناعة والتجارة والزراعة الى تغذية البحث العلمي، كل واحد في اطار اختصاصه، وتشجيع العلماء على الابتكار، وتحديد مقاييس الجودة واساليب التنظيم الفعالة لزيادة الانتاج وخفض التكاليف وتحقيق الاهداف المدرجة في برامجهم بطريقة مجدية.
ان المؤسسات الصناعية والزراعية والتعليمية هي المستفيدة من الابحاث العلمية الجديدة والقابلة للتطبيق، وعليها ان تكون سنداً للبحث العلمي وتستثمر فيه حتى يخدمها ويجدي عليها نفعاً وفائدة ملموسة.
3- ان مسؤولية خلق ثقافة علمية مبسطة لمجتمعنا التي توجد به نسبة كبيرة من المواطنين غير المتعلمين او الذين عندهم ثقافة علمية بسيطة، تعتبر في رأيي من اهم الوظائف والواجبات التي يتعين على رجال العلم ان يقوموا بها، وبذلك يتم التغلب على مشكلة وجود معلومات في اذهانهم لكن علمهم ومعرفتهم تبقى مخزونة ولا تصل الى ابناء وطنهم.
وعليه، فان غرس الافكار العلمية الاساسية والمفيدة لعامة الناس، ممكن ان يتم عن طريق الكتاب لمن يستطيع القراءة، وينقل عن طريق الشاشة لمن يرغب ان يتعلم ويستفيد عن طريق الصورة المرئية وعن طريق الاذاعة لمن يفضل ان ينصت الى المذياع ويتسلى ببرامجه المثيرة، وطبعا فان المساهمة العلمية في افادة الناس بما ينفعهم وفي خلق جيل عراقي مثقف ثقافة علمية يتطلب ادراك رجال المؤسسات الاعلامية وقناعتهم بضرورة التنسيق بين اجهزتهم ورجال العلم.
4- اننا نعيش الآن في مرحلة الاعجاب والتقدير بجدوى الاسلوب العلمي في المجتمعات المتحضرة المتقدمة… والمتمثل في تطبيق المعرفة العلمية في المؤسسات الرسمية للدولة بحيث توجد علاقات وثيقة بين العلماء المختصين وبين كل مؤسسة معنية بذلك الاختصاص.
فالمفروض ان تقتدي مؤسساتنا بالمؤسسات الاجنبية المتقدمة وتستفيد من هذه التجربة الناجحة، لان انعدام هذه الصلة بين العلم من ناحية والدولة ومؤسساتها الرسمية من ناحية اخرى، هي التي تحول دون التأثير بالعلم ودون مساهمته في تحسين عيش المواطنين. وعليه، فان مؤسسات الدولة في حاجة ماسة الى خلق جسور بينها وبين المؤسسات العلمية المتخصصة حتى تستفيد تلك المؤسسات الحكومية من التقييم العلمي الموضوعي لبرامجها، والاراء المحايدة في مدى صلاحية خططها، والمتابعة المستمرة لعملية الانجاز، حتى يتم تدارك اي خطأ يمكن ان يبرز خلال عملية التطبيق الفعلي لكل خطة.
5- ان وسائل تبادل المعلومات والحقائق ونتائج الابحاث والاراء بين العلماء انفسهم في كل اختصاص تكاد تكون معدومة، وبالتالي فان التقدم العلمي يتأثر سلبياً بهذا النقص الملحوظ في ميادين الترقية العلمية ورفع المستوى وتحسينه. ولهذا فان تقدم العلوم في العراق مرتبط بتوفير الامكانيات المادية والوسائل التي تستعمل لخلق نهضة حقيقية شاملة.
وتتمثل هذه الوسائل في المراكز والجمعيات العلمية والبحثية التي تجمع بين الخبراء والمجلات العلمية المتخصصة التي تكون منبراً للمناقشات وتبادل منافع المعرفة واثراء التجارب الانسانية، والندوات العلمية التي يتم فيها تبادل الاراء واستعراض الافكار والنظريات المستجدة في كل اختصاص، وكذلك التبادل العلمي بين الجامعات وهذه المراكز والجمعيات. ان استعمال هذه الوسائل بطريقة عقلانية هو الذي ينمي قدرات العلماء ويساعدهم على تنمية البحث العلمي..
6- ان المعرفة العلمية تتحسن بالاستخدام التدريجي لها، ومشكلتنا في العراق، ان مؤسساتنا الانتاجية وادارة الخدمات الاجتماعية تبدو متلهفة لتحقيق نتائج ايجابية في اسرع وقت ممكن. وهذا التلهف هو الذي يدفعها للتعاقد مع شركات اجنبية لتنفيذ مشاريعها وذلك ظناً منها ان تلك هي الحلول السهلة لعملية التنمية. وهذا التفكير غير المنطقي هو الذي يخلق الانفصال بين الانتاج وبين استخدام المعارف العلمية الملائمة للبيئة المحلية.
ونستخلص من هذا، ان عملية جلب نماذج غربية مستوردة من الخارج الى مجتمعنا الذي تختلف احتياجاته وتقاليده عن تلك الانماط الموجودة بالدول المتقدمة، حيث تخلق انعكاسات سلبية على واقعنا العراقي. والمفروض في مثل هذه الحالات ان تعتمد المؤسسات الانتاجية على البحوث العلمية المحلية، وان تدرك بان النتائج قد لا تكون بالضرورة سريعة ومريحة لان العثور على الحلول والبدائل الجيدة لكل مشكلة هي عملية تتوقف على الموارد والامكانيات المتوفرة لكل باحث. لكن الشيء المهم هو العثور على الاسلوب الملائم لتلبية الاحتياجات الاجتماعية، وخلق بنية علمية اصيلة داخل المجتمع الوطني.
7- تتسم الحضارة الانسانية في يومنا هذا بالديناميكية في ميدان التحولات السريعة بفضل التكنولوجيا الحديثة والبحوث العلمية المتقدمة. لقد شيدنا مؤسساتنا التربوية والاكاديمية ولكننا لم نتمكن حتى الآن من القيام بمجهودات مماثلة في القيام بترجمة امهات الكتب العلمية ونقل نتائج العقول التي تغمر العالم الى لغتنا العربية وتمكين الاجيال الحالية والاجيال القادمة من الحصول على معرفة غزيرة نافعة لهما في الحاضر والمستقبل. وفي اعتقادي، انه من الصعب علينا ان نواكب ركب التقدم الحضاري او نلحق بمن سبقنا من الدول المتقدمة، ان نحن بقينا بمعزل عن التيارات العلمية في ميدان المعرفة. لقد كانت الترجمة على مر العصور من اهم وسائل نقل المعرفة واكثرها تأثيراً في تقدم الشعوب.
8- ان قوة الدولة الحديثة مستمدة، في الواقع، من قوة مؤسساتها العلمية البحثية. وبناء على هذه الحقيقة، فالدول المدركة لواجباتها، ولما يتطلبه مستقبل ابنائها، ترصد من اجل العلم اموالاً طائلة، لان قادتها يشعرون ان قوى العلم والمفكرين وابتكاراتهم هي ضرورة من ضرورات الحياة ولازمة لمصالح دائمة تتعدى شواغل الساعة وتتخطاها. وانطلاقاً من هذا التحليل تتسابق الدول العملاقة الى تجنيد اقدر العناصر في الجامعات واذكى العقول لكي تخصص او تتفرغ للتفكير والتخطيط على المستوى الاستراتيجي في كل المجالات.
ومن هنا، تنبع قوة الدولة العصرية لان هناك تفاعل بين قوة مؤسسات التفكير العلمي والاستراتيجي وبين قوة القيادة السياسية التي تحاول ان تخدم المصلحة العامة من خلال الاستعانة بالاراء الثاقبة لعلمائها. والشيء اللافت للانتباه في هذا الموضوع ولا سيما ما يتعلق منه بنا نحن في العراق، انه تم استبدال المؤسسات العلمية بالاجهزة البيروقراطية، وهي بيروقراطية بطيئة في اعمالها وعاجزة عن الاستجابة السريعة للتحديات المعقدة والتي تتطلب مهارات فكرية ومقاييس علمية دقيقة. وعلينا الآن ان نفصل في هذا الموضوع ونقرر من يكون له التأثير الايجابي على مستقبلنا: البيروقراطيون المكلفون بالتنفيذ ام اصحاب العقول والافكار الذين في امكانهم تطوير اساليب جديدة متقدمة في مجال كسب المعرفة واختبارها.
9- لقد تناولت حتى الان الجوانب الايجابية في العلم، واشرت الى ضرورة الاستفادة من الاكتشافات العلمية التي تخدم الانسان وتخلق واقعاً جديداً، وطريقة جديدة في التفكير في هذا الواقع ورؤية الانسان له. وكلامي هذا لن يكون كاملاً الا اذا اقترن واشتمل على تنبيه خلاصته، ان الاكتشافات العلمية والتطورات التقنية لا يقودان بالضرورة الى تطوير اجتماعي حميد. فالعلم سلاح ذو حدين، قد يسخر لحل مشاكل العالم المتفاقمة مثل نقص الغذاء ومحاربة التلوث والامراض الفتاكة، وقد يسخر ايضاً لخدمة اغراض شريرة كالابادة بالاسلحة النووية والتجسس بالاقمار الصناعية وادوات التنصت وخلق الفراغ واللهو والانغماس في الملذات وتطوير وسائل الهيمنة الفكرية عن طريق اجهزة الاعلام.
وبناء عل ذلك، ينبغي ان نتنبه الى حقيقة جوهرية وهي انه ليس من السهل نقل المعرفة او التكنولوجيا من مجتمع الى آخر بدون نقل قيم واساليب الحياة في ذلك المجتمع الذي توجد به التكنولوجيا. وعليه، فان التوظيف الجيد للمعرفة هو ذلك النوع الذي يكون نابعاً ومستمداً من قيم اجتماعية محلية ومعارف وخبرات معبرة عن خيارات وطنية.
اذا نحن تداركنا الامر قبل فوات فوات الاوان وعملنا على تحصين انفسنا وقمنا بتوظيف العلم لخدمة اهدافنا، وفهمنا حقيقة انفسنا وحقيقة غيرنا وحقائق العصر الذي نعيش فيه، فانه بامكاننا ان نتغلب على كل الصعاب التي تواجهنا ونجتاز مرحلة التحول الحضاري الذي تصاحبه رؤية جديدة وموجة جديدة من الجهد الفكري للتعرف على المستقبل. صحيح ان الاعتماد على النفس في التنمية العلمية طريق شاق وصعب، وغيرها مأمون العواقب وغير مجرب، لكن بالادارة ووضوح الهدف والقيادة الحكيمة التي تكون قدوة للافراد، لان الناس لا تحركهم الخطب او الوعود البراقة، وانما تحركهم القدوة وجو الجدية والصدق الذي يجب ان يأتي من القمة. يمكن تغيير مجرى الامور لصالح مجتمعنا بتطبيق الابحاث والمناهج العلمية لخير الانسانية جمعاء.
*اشكاليات النشر العلمي
يعاني اكثر باحثينا من مشكلة نشر البحوث العلمية او تأخرها او انعدام ديمومة المجلات العلمية داخل العراق. كذلك، فان حركة الاعلام العلمي وايصال النتاجات العلمية بين باحثينا في العراق، تكاد تكون معدومة حيث يجري الحوار العلمي من خلال المجلات العلمية العالمية. واذا ما اخذنا بعين الاعتبار نسبة الذين ينجحون في نشر نتاجاتهم في هذه المجلات تبرز امامنا مشكلة النشر العلمي في العراق وضرورة التصدي لها ومعالجتها جذرياً.
ان النشر العلمي والبحث العلمي وجهان لأمر واحد، فلا نشر علمياً بدون بحث ولا بحث علمياً جدي ان لم ينته الى النشر، فالبحث العلمي هو عمل يؤدي الى اضافة للمعرفة، ويهدف الى الاستجابة لحاجات الوطن وتنمية الشخصية العلمية للمجتمع والعمل على رقيها ومساهمتها في رفد الحضارة الانسانية بانتاجها العلمي. اما النشر العلمي فيهدف الى التعريف بالبحث وتسهيل امر الاستفادة منه وحفظ المجهود الانساني الذي قد يبذل في اعادة اكتشاف ماهو مكتشف فعلاً ان لم يكن منشوراً.
ان الاهتمام بوسائل تكثيف البحث العلمي له ابلغ الاثر على خلق قاعدة علمية رصينة وعلى انجاح خطط التنمية الوطنية كما وان ناتج البحث العلمي سيحفظ لوسائل النشر العلمي ديمومتها ويساعد على رقي مستواها العلمي، كذلك فهنالك ضرورة للاهتمام بوسائل التوثيق العلمي وذلك لكي تساهم في تسهيل مهمة البحث العلمي ويدفعها الى الامام.
ان فعاليات ونشاطات البحث العلمي تعاني الكثير من الصعوبات والعقبات المالية والادارية والفنية بالاضافة الى شحة النتاجات العلمية مما يؤدي الى تعثر استمرارية وديمومة صدور الدوريات العراقية، كما ان باحثينا يعانون الكثير عند نشرهم للبحوث في المجلات العلمية العالمية لارتفاع كلف النشر وحدّت المنافسة والتقويم غير الموضوعي احياناً لنتاجاتهم ولسيطرة مؤسسات واتجاهات عالمية تعمل على كبح اي توجه علمي لغير الاجنبي، واسع النطاق لنشر البحوث الجيدة.
ان عملية النشر العلمي هي من المؤشرات الحضارية الاساسية ومن اهم مشاكل البحث العلمي في العراق، فان التصدي لمعالجتها باسرع وقت يقع في سلم الاولويات.
لابد من الاشارة الى موضوع اعتماد اللغة العربية كلغة للنشر العلمي والعمل على تعميق الايمان بتعريب النشر العلمي مع ضمان ايصال ناتج البحث العلمي العراقي والعربي الى المختصين خارج الوطن، كذلك هناك ضرورة الاهتمام باحياء التراث العلمي العربي ونشره باسلوب يعزز ثقة المواطن العراقي والعربي بنفسه وبماضيه ويحفزه لاستعادة امجاد الحضارة العربية الاسلامية العريقة.
ولأجل الحصول لهذه الغاية تبرز ضرورة اختيار هيئة التحرير كل مجلة من بين باحثين مؤهلين ذوي سمعة علمية وخبرة طويلة مع ضرورة توحيد ضوابط النشر في هذه المجلات وضرورة اختيار المقوّمين لما ينشر فيها من اهل الاختصاص والسمعة العلمية الجيدة لضمان استمرارية المستوى الجيد والرصين مع ضمان ايصال هذه المجلات الى جميع المهتمين بالعمل العلمي في داخل العراق والوطن العربي وخارجهما.

*مرتجيات لترصين النشر العلمي
اننا نرى ان تحقيق قسم من هذه المرتجيات سيكون له اثره في تطوير النشر:
1- بلورة مجلات علمية متخصصة تنشر باللغة الام او باللغات الاجنبية وذات انتشار واسع.
2- فسح المجال امام الاكاديميين العراقيين للنشر في مجلات عراقية ذات مستوى علمي رصين وتوزيع عريض واستمرارية في الصدور.
3- فسح المجال امام العديد من الاكاديميين العراقيين المقيمين في الخارج لنشر انتاجهم العلمي في مجلات علمية عراقية.
4- الاستفادة من التوجه العلمي والامكانات المادية التي توفرها الحكومة في خلق وتثبيت وترصين مجلات محدودة ومتخصصة على المستوى العراقي والعربي.
5- التأكيد على اهمية الثقافة العلمية العامة في خدمة اغراض التنمية وعلى ذلك فمن الضروري وضع الخطط طويلة الامد لتنشئة المواطن العراقي تنشئة علمية اصيلة تقوم على الايمان بالاسلوب العلمي في التفكير والوعي بدور العلم في تطوير الحياة وفي حل مشكلاتها.
6- ضرورة استحداث ودعم هيئات متخصصة للنشر العلمي في مجال الثقافة العامة على ان يتوفر لها المناخ الاداري والمالي والفني اللازم لنجاحها.
7- خلق وتدريب الكوادر الكفوءة والمتخصصة بالنشر العلمي واساليبه والمطلعة على احدث الاتجاهات في الطباعة والاخراج الفني.
8- توحيد نشاطات هيئات تحرير المجلات العلمية العراقية وخلق اتحاد او تجمع مهني لرؤساء تحرير المجلات العلمية العراقية ووضع معايير عراقية موحدة للنشر العلمي يقف على قدم المساواة مع المؤسسات العالمية والمشابهة.
9- ترصين استعمال اللغة العربية كلغة للعلم والتقنية ونشر المعاجم والمساهمة بتعريب العلم.
10- توجيه نشاطات مؤسسات البحث والجمعيات العلمية العراقية في اتجاه موحد فاعل واعتماد سياسة عراقية ثابتة بخصوص اصدار المجلات العلمية بالمستوى النوعي المقبول عالمياً على ان تشمل عدد المجلات العلمية وطبيعتها ووقت صدورها والهدف من نشرها والتزام جهة النشر بديمومة المطبوع العلمي.
من اجل تحقيق الاهداف المطلوبة والتغلب على المعوقات، فاننا نقترح تنظيم مؤتمر علمي يساهم في اعداده المؤسسات العلمية البحثية والجامعات العراقية… ان هذا المؤتمر يحتاج الى جهود كافة هذه المؤسسات…. التي تلعب دورها في الاشراف على مجلات علمية تعنى بالعلوم الانسانية والعلمية…. ولابد من اعتماد ورقة عمل توضح ابعاد ومشاكل ومستقبل النشر العلمي في العراق وسبل استقطاب البحوث التي يعدها علمائنا وباحثينا في داخل الوطن وخارجه. اما المواضيع التي تصلح للمناقشة فبالامكان تلخيصها بالنقاط الآتية على سبيل المثال لا الحصر:
1- دراسة تأسيس اتحاد عراقي لرؤوساء تحرير المجلات العلمية العراقية.
2- دراسة انشاء مؤسسة عراقية متخصصة للنشر العلمي.
3- دراسة واقع النشر العلمي والمجلات العلمية في العراق.
4- دراسة دور الباحثين العراقيين ودرجة مساهمتهم في النتاج العلمي العالمي.
5- دراسة معوقات البحث والنشر العلمي في العراق.
6- تأريخ النشر العلمي في العراق والجوانب التراثية للموضوع.
7- مسؤولية الباحثين العراقيين في المساهمة في النشر على المستوى الوطني والعالمي.
8- دراسة استحداث نشر علمي واسع باللغة العربية ووسائل تحقيق ذلك.
9- الصعوبات الفنية والطباعة التي تواجه العاملين في النشر العلمي العراقي.
10- دور الجامعات ومراكز البحوث في بلورة النتاج العلمي للعلماء العراقيين ونشر بحوثهم على المستوى العالمي.
11- وسائل تكثيف النشر العلمي في العراق وتوزيع المسؤوليات بين المجلات العلمية العراقية.
12- استعمال الحاسبات في تبويب النتاج العلمي العراقي وايصاله الى المختصين اولاً بأول.
13- تدارس الكتاب العلمي وسبل نشره لاغناء المكتبة العراقية وبالتالي العربية والعالمية..
14- المشاكل التي تعوق ديمومة المجالات العلمية العراقية وكيفية معالجتها.
15- دراسة اسلوب تدريب الكوادر المؤهلة والتفرغ لمهام النشر العلمي في العراق.
16- دراسة مشاكل الترجمة العلمية ومعوقات ايصال النتاج العلمي للباحثين العراقيين وحتى العرب على المستوى العالمي.
17- تدارس مزايا وسلبيات تعدد المجلات العلمية المتشابهة في العراق والوطن العربي.
*حلول ومقترحات
ان السبب الرئيسي الذي كتبنا من اجله هذه الدراسة. هي تقديم مجموعة مقترحات نراها بمثابة حلول مناسبة لرفع الواقع الذي اشرناه سابقاً الى المستوى الذي تستطيع به مؤسسات البحث العلمي – المجمع العلمي العراقي وبيت الحكمة – ان تؤدي الاستحقاقات الضرورية المنوطة بها. ولأجل ان يكون الكلام مركزاً سنلجأ مرة اخرى الى اسلوب النقاط لترتيب مقترحاتنا وندرجها في الاتي:
1- تأمين الاحتياجات الضرورية لمؤسسات البحث العلمي من خلال منح الحكومة تقدم على اثر تطبيق شروط مناسبة يمكنها توليد الاعتقاد الكافي بجدوى هذه المؤسسات. ويمكن ان تكون تلك المنح عبر ميزانية الجهة المختصة ذات العلاقة او يتم دعم كل توجه بحثي من خلال الجهة المختصة التي تشارك في الاتجاه او عبر الجهة المسؤولة عن مؤسسات المجتمع المدني. والمهم هو ايجاد ميزانية مستقرة يتسنى للمؤسسات البحثية ان تؤدي دورها من خلالها. وقد يتم ذلك من خلال تشجيع بعض رؤوس الاموال الوطنية بدفع ضرائبهم الى تلك المؤسسات مقابل الاعفاء منها امام مؤسسة جباية الضرائب.
ويدخل في هذه النقطة ضرورة ايجاد قاعدة او اكثر في كل محافظة تحتوي على مساحة مناسبة ومستلزمات تهيئها لعقد الندوات والمؤتمرات والحلقات النقاشية، والتي تعتبر اهم المفردات في اعمال هذه المؤسسات.
2- التنسيق من خلال وزارة الخارجية والسفارات مع مؤسسات البحث العلمي المتقدمة في العالم والجامعات وربط مؤسساتنا البحثية بها وتشجيع الطرفين على اقامة اعمال مشتركة وتقديم التسهيلات في هذا الاتجاه. وكذلك التسهيل في زيارة الكوادر البحثية العراقية والمشرفين على مؤسسات الابحاث الى الدول المتقدمة في هذا المجال لزيادة الخبرة والاطلاع واقامة وشائج العلاقات المهمة والحصول على فرص مناسبة للدعم المالي والمعنوي.
3- تشجيع الدولة لاقامة معارض الكتاب ودعم الكتب، وخصوصاً للمؤسسات البحثية والجامعات والباحثين المتخصصين ليتسنى لهم اقتناء ما يحتاجونه من الكتب والنشريات، وتشجيع المؤسسات البحثية في العالم من خلال الملحقات الصحفية والثقافية العراقية في الخارج لايصال انتاجها وخصوصاً الدوريات التي تعالج قضايا تتصل بالعراق وما يدور فيه او المنطقة بعمومها.
4- فتح ابواب الجامعات بشكل منظم لتتلاقى مع الجهد العلمي والبحثي المتحرك خارج اسوارها من اجل توليد ديناميكية علمية تثري الواقع وتدفعه نحو التقدم.
كذلك التركيز على مسألة البحث والنظر اليها بجدية اثناء الدراسة وتشجيع الطاقات المبدعة واعطائهم الامتيازات التي تدفع الآخرين للمنافسة. وفي خطوة يمكن ان تمثل زخماً قوياً لمؤسسات البحث العلمي، وهي حث الاساتذة الجامعيين للمشاركة بمؤسسات الابحاث والتفاعل معها واعتبار هذا النشاط جزء من مقومات ترقيتهم وتأهيلهم الى الراتب العلمية العليا شريطة ان يكون ذلك موثوق باسلوب علمي يحقق الاطمئنان اليه.
5- ان اعراض الحكومة عن اراء الاخرين ومؤسسات البحث العلمي واستبدادها برأيها لا يتم من خلال ابداء النصائح والارشادات ولكنه باقي عبر اختيار الشعب لممثلين واعين يفهمون معنى المسؤولية ويحترمون معنى العلم ونتائجه ويعتمدون التخطيط والعلمية بدل العشوائية والتخرص، وهذا الامر من شأنه ان يكفل وصول حكومة حكيمة تعتمد التخطيط والعلمية والمشورة في رأيها، وهذا يؤدي بشكل تلقائي الى فسح المجال امام مؤسسات الابحاث ان تقوم بدورها المناسب وتقديم المشورة والرأي في كل ما تراه مناسباً.
6- تشجيع اسلوب العمل الجماعي في المؤسسات العلمية البحثية مما يحوله الى ثقافة عامة ومنهجاً رئيسياً في الحياة واسلوب امثل في تحقيق النتائج، الامر الذي يولد روح المشاركة وحب الجهد الجماعي لدى عموم الباحثين، ويعكس بنتائجه الطبية على النشاط البحثي في مختلف الاختصاصات.
7- تشجيع النقد البناء واحترام حرية ابداء الرأي مازالت لا تتضمن التعدي على الاخرين والانتقاص منهم والتخفيف من غلواء الخطوط الحمراء التي يتم وضعها في المكان المناسب وغير المناسب، وذلك من خلال اعادة النظر في الكثير من القضايا التي نؤشرها بانها غير قابلة للمناقشة والنقد والتأكد من هذا الحكم وموضوعيته.
ان بناء العقل المتسائل الذي يطلب الحجة والبرهان ولا يقتنع بالخرافة والتضليل هو اهم الركائز التي تبنى عليها الحضارة الزاخرة، وهو عملية تربوية مركبة تشترك فيها مختلف قطاعات الحياة، وتظهر ثمارها في كل مناحي الواقع.
8- قيام وسائل الاعلام بدور التثقيف والتعريف بأهمية المؤسسات البحثية، وما هو تأثيرها على السياسة العامة للبلد، ومعطيات هذا التأثير على الحياة العامة؟ ومن جهة اخرى فسح المجال امام تلك المؤسسات للتعريف بنفسها وعرض نتاجاتها وما تقوم به من نشاطات عبر وسائل الاعلام المختلفة.
9- اطلاق مشروع البنك المركزي للمعلومات. ويتم تحقيقه عبر مختصين يقومون على جمع المعلومات الصحيحة وفحصها، وحجب ما يضر بالسيادة الوطنية والامن القومي للبلد منها، وتهيئتها في موقع كبير يمكن الاستفادة منه من قبل الجميع بالاضافة الى فروع اخرى للبنك تقوم بنفس الغرض.
ان هذه الحلول والمقترحات تمثل طموحات عليا نتمنى ان تمتد اليد اليها جميعاً او الى بعضها او توفير البدائل التي تؤدي نفس الغرض الذي تؤديه. وبالتأكيد ان هناك نقاطاً اخرى يمكنها دعم هذه المؤسسات المهمة وتأهيلها للقيام بالدور المناسب لها.
*توصيات
لا يمكن للنشر العلمي ان يزدهر ويرتقي الى المستوى الذي يليق بطموحات مجتمعنا… ما لم تتوفر له كافة المستلزمات الضرورية لانجاحه. وانطلاقاً من الاهمية هذه، نثبت التوصيات الآتية:
1- التأكيد على اهمية النشر العلمي وتطوير اساليبه ووسائله في العراق.
2- ضرورة وجود تنسيق للنشر العلمي العراقي وفق خطة موحدة.
3- ضرورة تنسيق الجهود بين المجلات العلمية المتشابهة في العراق والوطن العربي.
4- اعتبار اصدار المجلات العلمية من الوظائف الاساسية للجامعات ومراكز البحوث العراقية في اعطاء الموضوع ما يستحقه من تخصيصات مالية وادارية في الهيكل الاداري والمالي.
5- قيام المجلات العلمية بحمل مسؤولية تعريب البحث العلمي وبخاصة في الجامعة ومراكز البحوث.
6- ضرورة التوجه للتخصيص في النشر العلمي والعمل على تقليص التوسع الافقي للمجلات العلمية العراقية والحد منه.
7- ضرورة دراسة مشاكل الطبع والتوزيع وتهيئة المطابع الصغيرة المتخصصة بالطبع العلمي.
8- ضرورة وضع هيكل موحد للمجلة العلمية وتحديد مواصفات البحوث العلمية وتثبيت مواعيد صدور المجلات بان تكون دورية، وان يتم التنسيق في مواعيد الصدور لضمان تغطية اشهر السنة بالمجلات العلمية العراقية المتخصصة.
9- ضرورة وضع شروط موحدة للتحكيم وتصنيف المجلات حسب الغايات المتوخات من اصدارها وبالتالي ترشيد عملية النشر.
ارجو ان اكون قد نبهت في هذه الدراسة الى بعض اشكاليات البحث في العراق أمل ان يتمكن علمائنا وباحثينا من ايصال انتاجهم العلمي الى المؤسسات العلمية العربية والعالمية بصورة منتظمة، وان تسهم هذه الدراسة في بدء حوار بين الجهات ذات العلاقة.

*التوثيق
** المراجع – كتب ومجلات – التي استعنا بها ، اعتمدناها للمراجعة والتوكيد والاستقراء واستخلاص بعض الافكار التي ساهمت في كتابة بعض اجزاء هذه الدراسة . كما انني لم اجعل للدراسة هوامش تخفيفا للقارئ وتسهيلا له لتكون قراءته مستمرة وفكره متصلا
1- انطوان زحلان – العلم والسياسة العلمية في الوطن العربي ، ط 1 ،مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ،1984
اسامة امين الخولي – محنة العلم في الوطن العربي ، مجلة افاق علمية ، ( عمان ) ، العدد 2 ،(
ايلول- تشرين اول /1987 ).
3–سهيل السنوي – النشر العلمي ومشاكله في الوطن العربي ، مجلة افاق علمية ، ( عمان ) ، العدد 9 (كانون الثاني /1987)
4-شيت نعمان –العمل العلمي ومؤسساته في البلاد المبتدئة ، ط؟ ، وزارة الثقافة والاعلام ، بغداد، 1978
5-عبدالله الخطيب – الهياكل التنظيمية لمؤسسات البحث العلمي ،وقائع ندوة ادارة البحوث العلمية ومحاسبة التكاليف ، اتحاد مجالس البحث العلمي العربية ،1980
6-عمار بوحوش – كيف يمكن توظيف العلم لخدمة الانسان العربي ، مجلة افاق علمية ، ( عمان ) ،العدد 12، (تموز-اب / 1987
7-نعمة العبادي – مراكز الابحاث في العراق ، نظرة استراتيجية ، بحث غير منشور .
8-اعداد متفرقة من مجلة المستقبل العربي ،مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت
9-اعداد متفرقة من مجلة النور ،مؤسسة الخوئي ، لندن
[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب