19 ديسمبر، 2024 7:12 ص

واقع المسيحية في المنطقة وعوامل التشظي والاندثار

واقع المسيحية في المنطقة وعوامل التشظي والاندثار

بدأً لابد ان تقول .
اذا كان المجتمع الانساني منذ عمق التاريخ قد احتاج الى تنظيم حياته اليومية ضمن المستوى الفكري البدائي حصراً. و ثم ضاق به الزمن في رؤيته البسيطة لما حوله من الظواهر الطبيعية وتقلبات المناخ, وعاش تحت عواملها المؤثرة عليه مباشرة فتره طويلة قد امتدت الى الأف السنين, حتى اضطر الى التفكير تحت تأثيرات بايولوجية, في كيفية فهمها او ارضاءه لهذه الظواهر البعيدة من وعيه وادراكه لها. وصولا الى قناعته النسبية بأعتبارها القوى الفاعلة المؤثره كلياً عليه ومقررة لمصيره مما اضطر الى ابداع نوع من الحركات الجسدية ومقاطع صوتيه يعبر فيها خشوعة لها وطاعتها. وحسب اعتقاده ان يرضيها ويعيش بأمان اكثر, ولا يمكن مقاومتها او تحديها.

وهكذا بدأ الانسان ومنذ القدم يعيش هاجس افكار معينه وسلوك خاص. فبدأ بعبادة تلك الظواهر الطبيعية ومنها الزلازل والبراكين والفيضانات والقمر ليلا والشمس نهارا وغيرها .

ثم انتقاله الى عبادة الاسلاف, بعد ظهوره ضمن المجتمع افراداً ذات موصفات وسلوك مميز عن عامة الناس. واعتبارها القادرة على تنظيم الحياة اليومية الفكرية ثم الاجتماعية والاقتصادية وبدء استشمار الارض. وكهمزة وصل بينها كافراد والمجتمع من جانب.

وبين القوى الغير المرئية والمتحكمة بأمور الأحياء ومنها الانسان.

وكان ذلك حصيلة فهمه وادراكه لمعظم تلك الظواهر الطبيعية كعوامل حتمية في كل زمان ومكان .

وهكذا مرت البشرية عبر قرون وقرون, وتعددت العبادات غير الطبيعية والاسلاف الى ان استقر فكرياً الى عبادة ( الله ) خالق الكون وصانع الحياة وعبر عدة معتقدات دينية ومنها السماوية, التي لازالت حية في اصقاع الكرة الارضيه, الى جانب ديانات وعقائد ذات طبيعة باطنية واخرى تحليلية ولها ايضاً تأثيرها على الكثير من المجتمعات القائمة في كل من اسيا وافريقيا وامريكا الجنوبية وبعض جزر الاوقيانوس القريبة من استراليا وغيرها .

وان جميع هذه الديانات جاءت عبر محاور لافراد ذات قدسيه خاصة وبمنزلة الانبياء.

ولكن لم يكتف المجتمع الانساني بهذا القدر من الاعتقاد ورسوخ العقيدة الدينية، فظهرت الاجتهادات وثم المذاهب ولها اتباعها وبيئتها الجغرافية والمدافعين عنها بهذا الشكل او ذلك.

أي بدء تأثير التغيير في نمط حياة الانسان الفكرية وثم الاجتماعية وفق ما تقتضيه عوامل التغير او التحول وصار لها كياناتها المتصارعة فيما بينها ولازال المجتمع الانساني وحتى المتحضر يعيش هذا الواقع من النزاعات والصراعات العقائدية. ويمكن القول، ان غالبية الحروب التي أدت الى زوال مجتمعات لأعراق بشرية ولحضارات عديدة. كان سببها الاختلافات العقائدية في المقدمة، علاوة على

اطماع الكثير من الاباطرة والاسر الحاكمة في الكثير من الحضارات القديمة ومنها، وادي الرافدين- وادي النيل – وادي السند – النهر الاصفر في العالم القديم – حضارة مايا و انكا في امريكا الوسطى والجنوبية ( العالم الجديد ) وغيرها.

كانت اطماعها لغرض مد سلطاتهم الى غيرهم من الشعوب الضعيفة واحتلال اراضيها وسبي نسائها واموالها.

بمعنى عامل التغيير في البنية التحتية للمجتمع الانساني، والانتقال من حالة فكرية واجتماعية واقتصادية. كان سلبياً عليها ضمنياً، وايجابياً لأسر الحاكمة كشريحة وحيدة من الحروب والنزاعات الاقليمية والقارية والى هذا اليوم.

فلازال المجتمع الانساني يرزح تحت هذا التناقض المستمر – كقانون للحياة – ويعيش في وسط محيط هائج تظل امواجه تتلاطم مع بعضها وثم تضرب سواحل اليابسة وتجتاحها وتخلف عليها التغير في جغرافيتها وتضاريسها، وعلى البشرية بالمثل بهذا الشكل وبالآخر ولا ارادياً اي بمعنى وفق قوانين خاصة.

وان علماء الاجتماع والتاريخ خير مصدر للاعتراف بذلك. ويبقى سبب التغيير بواقع الانسان قائماً مدى الحياة على هذا الكون كظاهرة طبيعية وعلمية لا توقف لها. وهي من خصائص المادية التاريخية.

واننا لم نستعرض الماضي التاريخي البعيد والقريب لمراحل تطور الفكر الديني الانساني كدراسة مهما بهذا الشكل البسيط. بل كمقدمة لتبيان ما حصل ويحصل في جميع المجتمعات البشرية من الصراع العقائدي والتطرف الديني وما أدى ويؤدي الى كوارث بشعة على الكل. وان التاريخ خير شاهد على ذلك.

فلم يكن سقوط ( اورشليم – القدس ) بيد الاسلام ابان الحروب التي امتدت الى عقود من السنين في اوائل القرن الثاني من الالفية الثانية. كما لحقها سقوط روما في اواسط القرب الخامس عشر وقبلها سقوط بيزنطا في القرن الثالث عشر على يد الخلافة العثمانية وتسميتها بـ ( استنبول – او استيانا ) و بغداد على يد هولاكو في عام 656هـ. وغيرها.

وان ما يشهده الشرق الاوسط بالذات والعالم ثانية من التغييرات الديمغرافية والسياسية والادارية عدا التداعيات الخاصة من جراء التطرف الديني والمذهبي والاثني والقومي. ومنه ما يخصنا في العراق اليوم. وما اصاب الاقليات الدينية بصورة خاصة من الهجرة القسرية والابادة الجماعية على يد المنظمة الدينية المتطرفة ( داعش ) لجميع قرى سهل نينوى وثم مدينة الموصل، للمسيحيين واليزيدية وغيرهم. قد تكون بادرة مبيتة مسبقاً لأنهاء وجود هذه الاقليات واندثارها كلياً من المنطقة.

وان هذا التطرف الحالي ليس وليد اليوم. ولا جاء عفوياً من الداخل فهناك اكثر من اتهام للدول الغربية وفي مقدمتها امريكا بأن المحرك الرئيسي لهذا التطرف الديني والمذهبي ظاهرياً. ووفق ستراتيجية خاصة موثقة منذ عقود. لان عوامل التغيير السلبي في المجتمع العراقي خاصة. موروثة من قبل البنية التحتية له وتحت خيمة المذهبية المعلنة.

وما شمل ويشمل من الاثار المدمرة على الاقلية المسيحية في المنطقة.

ليس فقط هذه المظاهر المتطرفة لمنظمات دينية متعددة بل هناك عوامل داخلية متفاعلة سلبياً في المجتمع المسيحي ومنذ زمن بعيد ساعدت التطرف الحالي على الاستقطاب وسرعة التفاعل السلبي بمعنوية هذه الاقلية بالذات منها:-

وقبل ان ندخل في سرد تفاصيل هذه العوامل التاريخية والتي ادت وساهمت بصورة تفوق الخيال. بتمزيق وحدة وكيان النسيج الاجتماعي والديني للاقلية المسيحية.

فلابد ان نقول ان المكاشفة النزيهة للعوامل التاريخية التي قوضت وشتت هذه الاقلية، وبقلم نزيه متجرد من أية حسابات وتأثيرات لا ادبية و لا اخلاقية. هو الدافع الوحيد لما آل اليه الوضع الراهن للمسيحيين في العراق وباقي دول المجاورة. والتي لا تختلف اسبابها عن ما جاء اعلاه.

وتأكيداً على بدء اندثار الديانة المسيحية بالذات في العراق وثم في الدول العربية الاخرى المذكورة اعلاه. جاء تشخيصاً لما يلي :-

1- نقل مقر رئاسة الكنيسة الشرقية ( النسطورية ) لباطريركيتها من العراق وهي الاقدم تاريخياً فيه. الى امريكا – شيكاغو – وقبل عقود من السنين ودون سابق انذار ومبرر. ولم توجه أية دعوة منها لانصارها بالهجرة الى دولة واحدة. مما ادى الى تشتتهم في القارات الثلاث وبنسب متفاوتة وهي امريكا – استراليا – اوربا – والشريحة الباقية في العراق لا تتعدى عدة آلاف نسمة اكثرها في محافظتي نينوى و دهوك تعيش في قرى صغيرة غير مطمئنة امنياً لمصيرها ومستقبلها. وهناك اعلام مشجع للهجرة لها الى فرنسا مبدئياً.

2- تصريحات قادة الكنيسة الكاثوليكية الغربية – كالعراق وثم – السريان وبشكل مكشوف. بان مصير الديانة المسيحية في العراق سيكون كمصيرها في السعودية ( الجزيرة العربية ) وتركيا. وجاء ذلك نصاً على لسان رئيس ابرشية كركوك المطران يوسف توما وعقب سقوط مدينة الموصل على يد منظمة داعش. بعدة ايام. ولحق ذلك مؤخراً تصريح نيافة باطريرك الكلدان لويس ساكو. بانه لا مانع من هجرة أي مسيحي من العراق وبدون اي تحديد لجهة هجرتة. وقد يكون نيافة البطريرك لويس مرغماً بهذا التصريح نتيجة الضغط الحاصل من الواقع المؤلم لرعيته عليه، ولعدم مبادرة اية جهة رسمية حكومية محلية او دولية تحمل حماية هذه الديانة بكافة مذاهبها.

3- مغادرة غالبية رجال الدين المسيحي لكنائسهم وقراهم بعد سقوط نينوى 10/6/2014 قبل رعايهم وخاصة القرى الاكثر كثافة في سهل نينوى ومنها قره قوش ( بخديدا )، كرمليس، برطلة، تلكيف، باطنايا، باقوفا، تللسقف، القوش. عدى شرفيا وعين بقرى وغيرها من القرى الصغيرة هي الاخرى. ولم يرجعوا ( رجال الدين ) اليها الا بعد عدة اسابيع. مما أدى الى هبوط معنوي شديد لدى عامة الناس. باعتبارهم ( رعاة ) لهم. ولسنا بحاجة الى تسمية هؤلاء رجال الدين سواءً كانوا بمستوى رئيس ابرشية او كاهناً كي لا نتهم بالتشهير بهم وهذا معلوم للجميع.

واخيراً لا بد ان نعود ونوثق بعض الاسباب التاريخية التي كانت ذات تأثير مباشر وقاتل لتشتت وتشظي الطائفة المسيحية في العراق خاصة وباقي دول العربية المذكوره ومنها :-

1- الصراع المذهبي بين الكنيستين الشرقية النسطورية والغربية الكاثوليكية الكلدانية حصراً. عدا الانقسام الحاصل في طائفة السريان الى كنيستين ايضاً كاثوليكية وارثذوكسية وانشغالهم بذلك والى اليوم. مما أدى الى خلق صراع ونزاع داخل المجتمع المسيحي، تارة شبة مكشوف واخرى مبطن. وانعكاساتة على اهمية علاقة الفرد بوطنه ضمن ديانته، وتعصب مسؤولي تلك الكنائس بمواقفها الفكرية اللاهوتية ( اي الفلسفية ) والبنية التحتية العريضة للمجتمع المسيحي مهمشة كلياً.

2- ضمور مكانة الفرد الواعي في المجتمع بعيداً عن علاقتة بالارض كوطن تاريخي يضمن بقاء المجتمع فيه ومدافع عنه. وسبب ذلك ميل رجال الدين الى التعاطف مع المجتمع الغربي ( الاوربي + الامريكي ) كمجتمع مسيحي مدافع عن المسيحيين في العراق قبل الدولة التي هو من صلب مجتمعها وملزمة بالدفاع عنهم دستورياً. وهذه الظاهرة العاطفية كانت موجودة لدى مسيحي العراق وايران ابان الحكم الفارسي للمنطقة وفي عهد بعض ملوكها المعادين للمسيحية. مما ادى الى ضعف مفهوم المواطنة كسبب رئيسي ومباشر. وثم امام انزواء واعتكاف الجميع تحت خيمة المذهبية دون الاهتمام بجوهر رسالة السيد المسيح الانسانية.

3- تشبث بل استماتة قيادة جميع هذه المذاهب المذكورة بالسلطة الدنيوية عبر السلطة الدينية والعصمة لهم حسب اعتقادهم، وتكوين حاشية خاصة تحيط بهم وتسهل الامر لهم في جميع الحالات.

4- إنزواء النخبة الثقافية الدينية غير المتعصبة والثقافية العلمانية بصورة عامة امام الفئة او الشريحة المترسبة والمتلونة وباسم ( الوجهاء) والحاضنة للعقلية الاجتماعية ذات المسحة القبلية المبطنة، وبمؤازرة المرجعيات الدينية قاطبة ومحاصرتها للنخب المذكورة وتهميشها وعدم تمكنها من التفاعل مع القاعدة الاجتماعية العريقة و محاربتها.

5- تمكن المرجعيات الدينية وبقايا نفوذ الاجتماعي القبلي من تقديس ما سمي الارث المتوارث عبر الاجيال كسلاح بتار بيدهم. مما ادى الى بقاء غالبية فصائل المجتمع في ركود اجتماعي وفكري كشبه قاتل و لازال ايضاً مع فارق العصر.

6- دور المخابرات الغربية وفي مقدمتها الامريكية خلال القرن الماضي خاصة والى اليوم. بخلق تنظيمات سياسية او ما يسمى بالمجتمع المدني ومنها ظاهرياً اما طائفية او دينية مذهبية او قومية أثنية لبقايا شرائح اجتماعية لحضارة ما بين النهرين – كلداني – اشوري – سرياني وغيرهم. مما ادى الى تعميق الانفصال والانقسام المجتمع الى اجزاء متقوقعة، وعجز اية فئة ثقافية خارجها للم الشمل والتقارب بينها ككتلة واحدة تعمل في خدمة الجميع ولأي منظمة كان الانتماء – سياسي – ثقافي – فني وغيرها. مما ادى الى فشل غالبية تلك المنظمات وانقسامها على بعضها.

7- إفتقار غالبية القيادات للمنظمات المذكورة الى ميزة العصر واهمية وحدتها سياسياً واجتماعياً بعيدة عن مجاملة كل منها لمرجعية هذا المذهب او ذلك. وعلى حساب الخصوصية التاريخية الشبة متوارية كلياً او جزئياً.

8- استثمار القوميات الكبيرة لضعف وحدة المجتمع المسيحي تاريخياً وحاضراً ومنها حصراً – القومية العربية ذات النفوذ الاجتماعي والديني والسياسي الاوسع في جميع الدول العربية المعنية. وثم القومية الكردية ثانية. دون ان يكون لها الدور المباشر علناً الاستفادة من الوضع المتشتت للمسيحيين وخاصة في العراق وسوريا. لاسباب لكونها هي الاخرى من القوميات المضطهدة تاريخياً ايضاً. بسبب صراعها الدائم مع القومية العربية. ولا بد ان نشير ان النخبة المثقفة من المسيحيين، وذات الافكار السياسية اليسارية والقومية تعاطفت مع التيار السياسي القومي الكردي طيلة العقود الماضية وساهمت معه حتى بالكفاح المسلح ولعدة عقود وحتى سقوط النظام في 9/4/2003.

9- وصولاً لقناعة تامة لا جدال فيه. ان هذه الاقليات، المسيحية واليزيدية وغيرهما لشدة ضعفها بسبب اوضاعها الداخلية الخاصة، وتشتتها داخل الوطن عدى الاسباب القسرية الخارجية الاخرى التي ألمت بها طيلة قرون.

وتوضيحاً لذلك، لم يعد للديانتين تجمعات سكنية كبيرة الا ضمن قرى عديدة وضمن جغرافية ضيقة ومنها سهل نينوى خاصة وقرى صغيرة ضمن اقليم كردستان.

z10- لا بد من الاعتراف بواقع الحال بان تمزق النسيج الاجتماعي للمسيحيين في العراق خاصة. ولأية طائفة اخرى، ومهما كانت الاسباب. فلا بد أن يؤدي الى بدء التشتت والتشظي بالكيان الاجتماعي التاريخي. وظاهره ليس تخلف هذه الكيانات عن الركب الحضاري فقط. بل الاندثار له وفقدان مقومات وجوده الانساني والجغرافي. وان التاريخ لا يمكن ان يعيد نفسه مهما كان السبب وليس الاعتراف بهذا الواقع اضعافاً لمعنوية المجتمع ومكانة الفرد فيه. لان الانهيار قد اصاب البنية التحتية للمجتمع المسيحي منذ عقود. ولا بد ان هناك ( ونكررها ثانية ) مخطط دولي كبير ذات مصلحة بذلك حالياً ومستقبلاً. وليست وثيقة او لائحة حقوق الانسان الا استهلاكاً اعلامياً في الساحة الدولية تجاه جميع الاقليات الدينية والقومية والاثنية في اجزاء المعمورة.

كما ليست تلك اللائحة الا لوحة رملية بدون اطار، وحبر على ورق النشاف، والمكاشفة صعبة واقرارها اصعب وأمر لذي العلاقة والكل يعلم بذلك ولا مفر منه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات