23 ديسمبر، 2024 9:20 ص

واقع الاسلام السياسي .. ومستقبله !!

واقع الاسلام السياسي .. ومستقبله !!

( ملاحظة تمهيدية : ما اعنيه بعبارة ” الاسلام السياسي ” هو التيار العقائدي الذي يتبنى وبشكل محدد فكرة ان الاسلام دين للتعبد الفردي والجماعي ، ومصدر لقواعد وقوانين الهية تنظم الحياة العامة ، والايمان به يمثل الهوية الأولية التي تحدد معنى ” نحن و هم ” ؛ هذه هي الأركان التي تمثل المشترك ، رغم تباين المضامين الفرعية ، بين الحركات السياسية التي تنضوي تحت عبارة الاسلام السياسي .

الامر المهم الاخر هو انني بصدد الحديث ، في مقالة صغيرة ، عن ظاهرة عمرها خمسة عشر قرناً وتمتد على رقعة جغرافية تضم حالياً اكثر من خمسين دولة فلابد من وقوع بعض السهو وربما الغلط وهو ما اعتذر عنه مسبقاً وارجو ان تساهم ملاحظات من يتابع بتصويب ذلك وإتمام النقص ) ..

“”””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””””

( نص المقالة )

القسم الاول :

واقع الاسلام السياسي

يخطئ من يظن ان تيارالاسلام السياسي هو وليد العصر الحديث وانه جاء رداً على إلغاء مؤسسة الخلافة على يد كمال اتاتورك عام ١٩٢٤ ؛ هذا غير دقيق ، وان قضية اعتبار الاسلام ديناً ( نمط من التعبد والانضباط الفردي والاخلاقي الفردي والجماعي ) وشريعة ( قواعد واحكاماً لتنظيم الحياة العامة ) هو الموقف الذي يتوافق مع مضمون كلمة ” اسلام ” وتاريخها كما عاش المسلمون وفقاً له منذ ظهوره وحتى اليوم ؛ يتم اختصار ذلك بعبارة تسجل عادة باسم جماعة الاخوان المسلمين : الاسلام دين ودولة .

يتساءل بعض الباحثين عن مدى مشروعية هذا الفهم للاسلام ، ويستدلون على ذلك بالسؤال الذي واجه الجيل الاول من المسلمين فور وفاة الرسول وهو يتعلق بكيفية الحفاظ على مجتمع المسلمين وإيمانهم وتنظيم حياتهم وفق قواعد قانونية نص عليها القرأن وتم تحديد بعضها وفق السنة النبوية . لقد كان ذلك سؤالاً يتعلق بقضية شكل السلطة التي يتعين أقامتها وليس بقضية وجوب ذلك ؛ لقد حُسم هذا الامر في اجتماع السقيفة الذي انتهى باختيار ابي بكر الصديق رئيساً للكيان الاجتماعي – السياسي الذي أسسه الرسول في المدينة ، واختصر عمر بن الخطاب ذلك بعد ذلك في مقولة تنسب له ومفادها ” ان الله يزع بالسلطان ما لايزع بالقرآن ” ، وهذا يعني ان المهمة الاولى بعد وفاة الرسول هي اقامة سلطة تتولى ضبط وتنظيم الحياة العامة في مجتمع المسلمين وفقاً لاحكام وقواعد تضمنتها نصوصه صراحة في القرآن واحاديث الرسول ، وممارسة تطبيقات هذه النصوص خلال ذلك العهد ( ويضيف لها اتباع المذهب الشيعي ماصدر عن الأئمة ) ، او من خلال قواعد لاستنباط احكام حسب مقتضيات الحاجة وتختلف تفاصيلها حسب المذاهب ؛ تحتكر هذه السلطة حق استخدام القهر المادي والقوة المسلحة لتنفيذ مهمتها باعتبار ان التعويل على الالتزام الطوعي الاخلاقي بأحكام الشريعة لادارة الحياة العامة ليس ناجعاً . لقد خَلصَ ماكس ويبر عالم الاجتماع الحديث الى نتيجة مماثلة ، وهي ان مهمة الدولة الرئيسية هي احتكار العنف المسلح لضبط الحياة العامة في المجتمعات الحديثة .

من هنا يمكن القول ان الاسلام هو بالفعل دين ودولة ، سواء من حيث مضمونه او تطبيقاته عبر العصور ، وانه لايمكن اعتباره دعوة او رسالة دينية اخلاقية خالصة فحسب بل شريعة كذلك ، وان من يذهب الى اعتبار الاسلام رسالة دينية اخلاقية فانه يذهب باتجاه خاطئ ، وبما لايتوافق مع نص وروح الاسلام وتاريخه . ربما نختلف او نتفق في تحديد نطاق قواعد الشريعة والتمييز بين ماهو احكام وما هو أسس ومبادئ او مقاصد ، لكن ما لايمكن الأخذ به هو الفصل بين الدين والشريعة باعتباره فهماً صحيحاً للاسلام ؛ أعجبنا ذلك ام لم يعجبنا فانه كذلك في واقع الحال منذ اجتماع سقيفة بني ساعدة التي لم تنشئ هذا الفهم بل اكدته باعتباره اساس الفهم السليم للدين ، ولم تنشأ آية مدرسة فقهية ذات اعتبار بغير هذا الاتجاه ؛ لقد اعتبر معظم الباحثين المحدثين ان الاسلام ليس ديناً فقط ، بالمفهوم الغربي لمعنى الدين ، بل هو اُسلوب ونظام حياة للأفراد والمجتمع ( Way of Life ) .

ربما حاول ذلك البعض من المحدثين ممن قصدوا انقاذٍ الاسلام من ورطته التي وجد المسلمون انفسهم فيها منذ سقوط بغداد على يد المغول الوثنيين وسقوط الأندلس على يد القوط المسيحيين ، ثم التراجع العام لقوة المسلمين وانكفائهم منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم . قدم نماذجاً لمثل هذا الفصل عدد من رواد الاصلاح والتجديد الديني من أمثال الشيخ المصري على عبدالرازق في كتابه ( الاسلام واصول الحكم ) ، واخرين ممن اعتبروا ان الاسلام المكّي هو جوهر الدين وان الاسلام المديني هو قواعد واحكام لتنظيم الحياة العامة في الدولة الوليدة التي أسسها الرسول ، وهي مرتبطة بظروف المكان والزمان وليست جزءاً من الدين او الايمان الا بقدر ارتباطها بزمان ومكان محددين ، لكن التيار السائد بين اغلب الناشطين الإسلاميين المعاصرين ، على مختلف مذاهبهم ، هو مافصلناه في البداية .

لكن كيف يمكن القبول ، وفق ابسط قواعد المنطق السليم ، بتنظيم مجتمع حديث بكل تعقيداته وما توصل اليه العالم في مجال انشاء وتنمية قواعد حديثة لتنظيم الحياة العامة بقواعد اخرى يبلغ عمرها خمسة عشر قرناً ؟ ! ، خاصة وان هذه القواعد هي موضع خلاف واختلاف في الفهم والتفسير والتطبيق وصل حد التناحر الدموي بين المسلمين انفسهم ؛ ان أعتبارها قواعد خالدة ، لايتم بدونها الايمان الصحيح بالدِّين ، يتناقض مع ماتوصلت اليه البشرية من قواعد لتنظيم الحياة العامة ومنظومات اخلاقية فردية هي ثمرات تجارب اجتماعية طويلة تغلبت فيها قيم توصف بانها قيم التنوير والتعددية والتسامح والحريات الفردية ، فضلاً عما قدمته العلوم من مساهمات جوهرية في استخلاص الدروس وصياغة مضامين هذه القيم .

هذا هو السؤال الجوهري !!

لست هنا بصدد تقديم تفسير او تبرير او عرض لوجهات نظر الإسلاميين او مناقشات خصومهم ، انا شخصياً اعتقد ان الشريعة الاسلامية بجملتها وكما نعرفها اليوم باختلاف مذاهبها ليست صالحة لتنظيم مجتمع حديث في عالم تسوده قيم مغايرة ، خاصة وان من يتبنى هذه القيم ويعمل وفقاً لها هو الجزء الاكثر تقدماً من الانسانية وبالتالي فهي تحظى فضلاً عن حداثتها بامكانية فرض نفسها بفعل التفوق المادي لاتباعها والذي يمنحهم التفوق الاخلاقي في نهاية المطاف .

يسود في العالم الاسلامي منذ سقوط الخلافة بعد الحرب العالمية الاولى نقاش محتدم يدور في جوهره حول ماينبغي تبنيه لاصلاح حالة التردي التي اوصلت الى انهيار الخلافة ، وكان ذلك النقاش يندرج تحت عنوانين رئيسيين : العلمانية مقابل الشريعة ، الدولة القومية مقابل الأمة الاسلامية .. الخ ، لكن تجربة الدولة القومية هي التي سادت اما دعاة احياء الخلافة ودعاة تطبيق الشريعة ، على اختلاف تسمياتهم ، فقد شكلوا النقيض . لقد شاب العلاقة بين الطرفين الكثير من العنف خاصة وان بعض التجارب العلمانية الديمقراطية الوليدة قد انهارت في وقت مبكّر في اغلب أنحاء العالم الاسلامي والعربي منه بشكل خاص وتم تبني المشروع العلماني من قبل أنظمة الدكتاتوريات العسكرية او أنظمة الحزب الواحد . لقد واجه هذا النمط الأخير أزمة حادة بعد تجارب الفشل التي واجهها مشروعه النهضوي بسبب طبيعة ” الطغيان ” الذي لم ينتج طوال التاريخ غير عوامل فشله وانهياره جراء الفساد وقلة الكفاءة . هزمت التجربة الناصرية تحت وطأة الفساد وقلة الكفاءة ومثل ذلك حصل في الجزائر وإندونيسيا وتركيا والعراق وسوريا وايران ، وكان الحدث الأهم الذي قلب الطاولة على العلمانيين هو انهيار نظام حكم الشاه في ايران وقيام نظام جديد يستند الى مرجعية إسلامية شيعية وفق اجتهاد محدد عرضه آية الله خميني في كتابه ” الجمهورية الاسلامية ” . لقد ادى ذلك وبشكل مباشرالى أمرين : صعود عام لتيار الاسلام السياسي في معظم ارجاء العالم الاسلامي ، وتصاعد حدة النزاعات الطائفية التي شكلت في احيان كثيرة غلافاً تسترت تحته مشاريع ذات جوهر قومي – ديني .

ان صعود حركات الاسلام السياسي لم يكن مؤامرة كما هو الظن السائد في اوساط واسعة داخل الجبهة العلمانية ، لكن ذلك لاينفي ان بعض الاسلام السياسي قد حظي بدعم متفاوت ، حسب الزمان والمكان ، من قبل اطراف غربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة فضلاً عن بعض الأنظمة العلمانية المحلية .

لقد دعمت الولايات المتحدة بعض حركات الاسلام السياسي خلال الحرب الباردة وتم الاستثمار في هذه الحركات حتى داخل الاتحاد السوڤيتي نفسه اوخلال احتلاله لافغانستان ، ويذهب البعض الى ان احجام الولايات المتحدة عن دعم الشاه وتقييد إجراءاته القمعية ضد الثورة الاسلامية يقع في هذا الاطار ، واعتقد شخصياً ان الامر كان كذلك بالفعل . كذلك حظي الاخوان المسلمون بقدر من الانفراج السياسي تجاههم على يد الرئيس السادات بعد سنوات طويلة من السجن والملاحقة والتصفية الممنهجة على يد السلطات في عهد الرئيس عبالناصر ، وقد جرى ذلك في اطار صراع السادات مع البقايا الناصرية اليسارية المعارضة لسياسات التوجه نحو الغرب والانفتاح الاقتصادي ، وفي ذات الاتجاه تكررت ذات الصورة وحظي التيار الاسلامي في تركيا بقيادة اربكان بالقبول في الحياة السياسية العامة كمعارضة معترف بها او شريكاً في الائتلافات الحكومية في حين ان عدنان مندريس كان قد صعد المشنقة تحت تهمة الانحراف عن العلمانية اوائل الستينات .. يمكن ملاحظة ذات الاتجاه في أنحاء اخرى من العالم الاسلامي وحتى داخل الاتحاد السوڤيتي الذي شهدت جمهورياته الاسلامية صعوداً ملفتاً لحزب التحرير الاسلامي وحركات إسلامية اخرى قبيل استقلالها في التسعينات .

دون مجازفة الوقوع في خطأ التقدير يمكن القول ان الامر لم يكن كله مؤامرة ، رغم ان ملابسات الظروف التي قدمناها للتو توحي بذلك ، وبالتالي فمن المهم البحث في طبيعة الديناميات الذاتية التي تدفع بالإسلام السياسي الى الواجهة ،،

مما لاشك فيه ان احداث ايران شكلت عامل حث قوي ، ولكنها بكل تأكيد لم تصنع الظاهرة . هذه الظاهرة وجدت منذ زمن طويل وبدأت اولى بذورها في حركات الاصلاح الديني وخاصة تلك التي شهدها العالمان العثماني والصفوي خلال النصف الثاني في القرن التاسع عشر ، وتفاقمت الظاهرة وأضيفت لها ابعاداً فكرية وسياسية اخرى في مواجهة التحدي الذي مثلته نتائج الحرب العالمية الاولى من الهزيمة الشاملة للمسلمين امام الغرب ثم صعود تيارات العلمانية التي بدات بعلمانية اتاتورك الاصولية وانعكاساتها بشكل مباشر على الأنظمة السياسية في ايران بقيادة الشاه رضا خان والعراق ( بدرجة اقل ) بقيادة فيصل الاول وفي مصر التي أنجبت التحدي الاكثر جدية واهمية للأصولية العلمانية التركية واعني به حركة الاخوان المسلمين .

واقع الاسلام السياسي .. ومستقبله !!

القسم الثاني :

الديناميات والتحديات

دون الخوض في تفاصيل كثيرة فانه من الممكن تحديد عدد من العوامل الأساسية التي قادت الى حالة الصعود في تيار الاسلام السياسي خلال العقود القليلة الماضية ، هذا الصعود الذي بلغ ذروته خلال احداث الربيع العربي رغم ان تيار الاسلام السياسي دخل هذه الاحداث ملتحقاً بها وليس طرفاً من صُنّاعها :

١ – اعادة النظر والمراجعات الداخلية واعادة تقييم موقف المجتمعات الاسلامية وهي البيئة الحاضنة من اساليب العمل المتسمة بالعنف ؛ هذه المراجعات بدات حركات الاسلام السياسي في اجرائها منذ السبعينات ، وقد بدأت من داخل السجون . لقد شملت هذه المراجعات اساليب العمل وإجراء تعديلات على الموقف من قضايا العالم المعاصرة وبشكل خاص موضوع العنف واعتماد اساليب العمل السياسي لاعادة تأسيس ” السلطة الشرعية ” والقبول بآليات العمل الديمقراطي مثل الانتخابات التي كانت تعتبر في السابق جزءاً من حالة ” الجاهلية ” العامة كما وصفها سيد قطب في كتابه الأشهر ” معالم في الطريق ” . لقد انخرطت حركات الاسلام السياسي في العمل السياسي في بعض البلدان الاسلامية وتمكنت من تحقيق نتائج طيبة وصلت أحياناً حد اكتساح المشهد السياسي كما حصل في الجزائر خلال التسعينات وانتهى الامر بانقلاب عسكري ، وتكرر ذات الحال في كل من تركيا ثم في مصر بعد ثورة يناير لعام ٢٠١١ . بالمجمل فقد كشفت احداث الربيع</span