نعم هذا ما نقلته وكالة الأناظول الأخبارية قبل أيام على لسان السفير الأمريكي في العراق ( ماثيو تولر)، الذي صرح ((بأن بلاده تسعى لحل الخلافات مع طهران بالطرق البلوماسية، وفي أجتماع له مع السيد ( قاسم الأعرجي) مستشار الأمن القومي العراقي ذكر السفير أن خلافات بلاده مع طهران لا تزال موجودة ولكن واشنطن تسعى الى حلها بالطرق الدبلوماسية، رغم أن الحل الدبلوماسي يحتاج الى جهود كبيرة))،الى هنا أنتهى ما صرح به السفير الأمريكي بالعراق. نبدأ بالقول: بأن العالم أجمع يعرف بأن الخلافات بين الطرفين ( أيران – أمريكا)، بدأت منذ نجاح الثورة الأسلامية في أيران والتي قادها الزعيم الديني الراحل (الخميني) عام 1979 والتي أسقط بها نظام الشاه الموالي لأمريكا وحليفها القوي بالمنطقة. ولم تهدأ وتيرة الخلاف بينهم للحظة واحدة!، بل تعمقت وزادت أكثر مع تقادم الوقت ومع التطورات والمستجدات التي حدثت بالمنطقة منذ ثمانينات القرن الماضي ولحد الآن. ورغم أنشغال أمريكا بالعالم وبكل قضاياه صغيرة وكبيرة بأعتبارها أصبحت زعيمة العالم بلا منافس، بعد أنهيار الأتحاد السوفيتي السابق، ومع ذلك فقد كان العالم بالنسبة لأمريكا كله في كفة وأيران وحدها بكفة أخرى!، وذلك لكون أيران هي أحدى دول المنطقة التي يطلق عليها بمنطقة المياه الدافئة لما تحتويه من ثروات من النفط والغاز وبقية المعادن الأخرى، فأمريكا تنظر لخلافها مع أيران، نظرة خاصة لا تخلو من حقد ورغبة في الأنتقام!، لكون ثورة الزعيم الراحل (الخميني) أسقطت أحد أهم وأقوى عملائها بالمنطقة، حيث كان نظام الشاه يعتبر الوسادة التي تنام عليها أمريكا وهي مطمئنة على كل مصالحها بالمنطقة!. ليس هذا فحسب وأيضا لأن ثورة الزعيم الراحل (الخميني) سرعان ما أعلنت عن هويتها وتوجهاتها السياسية والفكرية والأيديولوجية والقومية والدينية والعقائدية، والتي لا تروق لا الى أمريكا ولا الى دول المنطقة!، أضافة الى أعلان قادة الثورة في أيران بتصدير أفكارهم وثورتهم الى عموم دول المنطقة!، وبالفعل بدأوا بذلك منذ الأيام الأولى للثورة، وهذا مما شكل قلقا كبيرا وصداعا مزعجا ومزمنا لأمريكا ولحلفائها وعملائها في المنطقة، منذ قيام الثورة ولحد الآن. من جانب آخر هناك واقع وحقيقة لا يمكن القفز عليها، وهي أن أيران أصبحت دولة أقليمية كبيرة وقوية، وتفرض على كل من يناصبها العداء والخصام أن كانت أمريكا أو باقي دول الغرب وكذلك من دول المنطقة أن يحسبوا لها ألف حساب!. وقد تمثلت قوة أيران بترسانتها الكبيرة من كافة الأسلحة حيث أستطاعت تطوير قدراتها التسليحية والعسكرية الذاتية من جميع أنواع الأسلحة وتحديدا الصورايخ الباليستية والعابرة والتي يصل مدى بعضها ال 3000 كيلو متر!، ناهيك عن تطوير صناعتها النووية ، حيث أن ملفها النووي الذي شغل العالم أجمع وأثار الرعب لدى أمريكا وأسرائيل ودول المنطقة، والذي أستطاعت أيران أن تقطع شوطا كبيرا في صناعتها وبرنامجها النووي، حتى صارت قاب قوسين وأدنى من أمتلاكها للقنبلة النووية!. وهنا لا بد من الأشارة بذكاء أيران وكيف أستغلت أنشغال أمريكا وباقي دول الغرب بسقوط الأتحاد السوفيتي السابق نهاية ثمانينات القرن الماضي، وتداعيات ذلك السقوط، على السياسة العالمية، هذا من جهة ومن جهة أخرى، أستغلت أيران أيضا أنشغال أمريكا ودول العالم وتحديدا دول المنطقة بحرب الخليج الثانية ( غزو العراق للكويت) ،حيث أستطاعت أيران من أستقطاب الكثير من العلماء والمهندسين السوفيت من كافة الأختصاصات العلمية الفيزيائية والكيميائية تحديدا و العسكرية والذرية والنووية، وحببت لهم وأغرتهم بالعمل في أيران مقابل رواتب وأمتيازات ضخمة. حيث أستطاعت أيران وبعد فترة ليست بالطويلة من بناء القاعدة العلمية لصناعة وتطوير كافة أنواع الأسلحة البرية والبحرية والجوية، والأهم بناء القاعدة العلمية لصناعة الصواريخ ذات المديات البعيدة، والقادرة حتى على حمل رؤوس نووية!، وأستطاعت خلق جيل من المهندسين والعلماء الأيرانيين الأكفاء القادرين على تطوير كافة الأسلحة العسكرية الحديثة الصاروخية منها على وجه التحديد، وكذلك في مجال تطوير قدراتها قي صناعة السلاح النووي ، حتى وصلت الى مرحلة الأكتفاء العلمي الذاتي بذلك!. ومن جانب آخر لا بد من الأعتراف بحكمة القيادة الأيرانية وذكائها وأتباعها سياسة النفس الطويل في معاركها مع خصومها وتحديدا أمريكا، ومعرفتها كيفية توضيف قدراتها العسكرية من أجل تحقيق مصالحها القومية العليا ومشاريعها وطموحاتها المستقبلية، حيث لم يعرف عن القيادة الأيرانية التهور والحماقة في أتخاذ قراراتها وهي في أصعب الظروف، بقدر ما عرف عنها الذكاء والحكمة والعقل والهدوء وحسن التصرف، وهذا هو فن السياسة بعينه!، وقد كانت مفاوضاتها مع مجموعة الدول (5+1) عن (ملفها النووي) حقبة الرئيس الأسبق (باراك أوباما)، خير شاهد على ذلك حيث خرجت أيران من تلك المفاوضات منتصرة وبأعتراف الدول نفسها!، وأستطاعت أن تحصل على مكاسب أقتصادية كبيرة، مقابل أيقاف العمل بصناعتها النووية وليس ألغائها!. بعد الأحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 أشتد الصراع أكثر بين طهران وواشنطن، لا سيما وأن العراق صار قاسما مشتركا بينهما!، حيث رأت القيادة الأيرانية ضرورة تواجدها على الساحة العراقية بقوة أكثر وأكبر من أمريكا لأن العراق هو قريب جدا من أيران حدوديا حتى أن حدوده في بعض المناطق الوسطى من العراق لا تبعد أكثر من 120 كيلو مترعن العاصمة بغداد!، وعليه يجب جعل العراق مصدا قويا وآمنا لها من أمريكا!، وهذا ما أعترف ويعترف به المسؤولين الأيرانيين أنفسهم، فمن الغباء أن تثق بأمريكا وتأمن لها!. وينقل عن الرئيس المصري الراحل ( حسني مبارك) تعليقه ذات مرة عن مدى ثقته بأمريكا (( اللي يتغطى بأمريكا هو زي العريان!). ويرى الكثير من المحللين والمراقبين السياسيين أن التواجد الأيراني بهذه القوة وهذا العمق والتدخل بالشأن العراقي من قبل أيران، هو أمر لا بد منه حفاظا على مصالحها القومية العليا وهذا هو فن السياسة التي لا تعرف المجاملة ولا العداوات ولا الصداقات بقدر ما تعرف المصالح العليا للبلد وكيفية الحفاظ عليها والأستقتال من أجلها، لا سيما وأن العراق أصبح مباحا ومستباحا للجميع بعد الأحتلال الأمريكي له، فهناك دول قوية أخرى بالمنطقة قريبة من العراق وتناصب أيران العداء ولها أطماع كثيرة وكبيرة في العراق بنفس الوقت، مثل تركيا والسعودية وأسرائيل وباقي دول الخليج. من جانب آخر ومثلما ذكرنا ذلك آنفا، بأن أمريكا ولكونها تحسب لأيران ألف حساب رغم تفوقها عسكريا عليها ألا أنها أكتفت بفرض العقوبات الأقتصادية القوية على أيران وتهديدها أعلاميا وبأستعراض العظلات أمامها بمناسبة وبدون مناسبة!، وكان ذلك فترة الرئيس السابق ( ترامب) الذي ألغى أتفاقية ( الملف النووي) الموقعة بينهما. أيران من جانبها قابلت سياسة (ترامب) وتهديداته وعقوباته تجاهها بذكاء وبضبط نفس عال، وأستطاعت بالمراوغة تارة وبالمخادعة تارة أخرى من الألتفاف على العقوبات الأقتصادية المفروضة عليها، مستفيدة من وجودها القوي والمؤثر في العراق الذي لم يشكل لها مصدا قويا فحسب، بل عمقا أقتصاديا حيث بلغت الصادرات الأيرانية للعراق أكثر من 10 مليار دولار سنويا وهي في تزايد أكثر كل عام. الجانب المهم في موضوع الصراع الأمريكي الأيراني، هو أن أيران تعرف حجم قوتها وأمكانياتها مقابل أمريكا، القادرة على ضرب أكثر من 4000 هدف حيوي عسكري وأقتصادي أيراني وخلال ساعتين في حال نشوب الحرب بينها وبين أيران حسب تصريح المسؤولين الأمريكان!، ولهذا أبتعدت أيران عن الغرور وكانت على درجة من الحذر من أرتكاب أية حماقة قد تندم عليها!، فلم تعطي لأمريكا أية فرصة لجرها الى نقطة القتل!، ولكنها بالوقت نفسه عرفت كيف تناور بقوتها وتوظفها بشكل سليم أعلاميا أمام أمريكا والعالم على السواء، دون أن تبدي أي جانب من الضعف والخوف من أمريكا!، لأنها تعرف تماما أن (العالم لا يحترم الضعفاء!)، فتحدت أمريكا!، الكلمة بكلمة والتهديد بتهديد والقيام بأستعراض عسكري وبكافة أسلحتها البرية والبحرية والجوية والصاروخية أمام امريكا والعالم أجمع.، وهذا مما أقلق أمريكا كثيرا وزاد من تعقيد حساباتها وتفكيرها فيما أذا أقدمت على ضرب أيران؟!. ومن الأمور المهمة التي تجعل امريكا لا تجازف بضرب أيران، هو أن أمريكا تعرف جيدا أن أيران لديها أكثر من مليون مقاتل من قوات ( البسيج والحرس الثوري)، وهم من المقاتلين العقائديين الموالين للثورة ولفكر الزعيم الراحل (الخميني) ولخلفه السيد ( خامنئي)، وهذه القوات تعتبر عماد النظام وقوته، ولديها الأستعداد بالتضحية بأنفسها من أجل أيران وعقيدتها الثورية!، ناهيك عن باقي عديد القوات المسلحة من الجيش والشرطة. في حين أن أمريكا ليس لديها ذلك الأستعداد والمجازفة ، فهي تحسب للخسائر البشرية ألف حساب!. كما أن أمريكا واثقة تماما بأن أيران لا تتوانى عن غلق مضيق هرمز في حال حدوث أية معركة بينها وبين أمريكا، ومن المعروف أن أكثر من ثلثي الصادرات من النفط والغاز الى العالم تخرج من هذا المضيق!، ناهيك عن قدرة أيران بأغلاق مضيق (باب المندب) أيضا أمام الملاحة العالمية والتأثير حتى على قناة السوبس المصرية!. وكذلك أوصلت أيران أكثر من رسالة الى أمريكا مفادها بأنها محاصرة أقتصاديا ولا يهمها أي شيء، فأن أي تصعيد من قبل أمريكا سيقابله تصعيد أقوى (وعلي وعلى أعدائي)! كما يقول المثل. كما وعلينا ان لا ننسى بأن دول الخليج الذين يعتبرون الحلفاء الستراتيجيين والتاريخيين لأمريكا سيكونون صيدا سهلا! لنيران الأسلحة الصاروخية الأيرانية في حال نشوب أية نزاع بين أمريكا وأيران وهذا مما يبعد موضوع التفكير بقيام أمريكا بضرب أيران حفاضا على مصالحها ومصالح حلفائها!. الجانب الآخر والذي لا يقل أهمية عما ذكرناه هو العلاقات الطيبة والقوية التي أقامتها أيران مع كل من روسيا والصين والأتفاقات التي عقدتها معهم أقتصاديا وعسكريا، وخاصة الصفقة الأخيرة بين روسيا وأيران التي تحدثت عنها وسائل الأعلام، والتي وصلت الى قرابة 400 مليار دولار!، وشملت على حصول أيران على أحدث أنواع الأسلحة الصاروخية والطائرات والرادارات ومنظومة صواريخ 400 أس أس وغيرها الكثير!. حيث لم يعد خافيا على العالم أجمع بأن روسيا والصين أصبحتا كالسكين في خاصرة أمريكا وتنافسانها بقوة للسيطرة والنفوذ على العالم!، حيث يرى الكثير من المحللين والسياسيين العالميين بأن الصين وروسيا ستحدثان تغيرا كبيرا ونوعيا في موازين القوى العالمية في الأعوام القليلة القادمة!، حيث سيضعان حدا لسيطرة أمريكا على العالم وأستهتارها وتدخلها بشؤون دول العالم ، منذ تسعينات القرن الماضي ولحد الان!.. كل هذا يجعل من أمريكا أن تحسب ألف ألف حساب قبل الصدام مع أيران!. وبعيدا عما يقال بأن أمريكا دولة مؤوسسات وتغير الرؤوساء والحزب الحاكم في أمريكا أن كان جمهوري أو ديمقراطي لا يؤثر على سياسة أمريكا الخارجية ومصالحها القومية العليا، وخاصة في موضوع القضايا والأزمات العالقة مثل أزمة خلافها مع أيران وملفها النووي، فقد أثبتت نتائج الأنتخابات الأخيرة التي جرت في أمريكا عكس ماكان يقال! فبعد خسارة الرئيس( ترامب الجمهوري)، أمام (بايدن الديمقراطي)، سرعان ما بدأ الرئيس (الديمقراطي بايدن)، بتهدأة أيقاع الصراع مع أيران ، من خلال تصريحاته الهادئة، والرغبة بالعودة الى المفاوضات والتفاهم لحل كافة المشاكل مع أيران!. وهذا ما أنتضرته القيادة الأيرانية بصبر وحكمة وذكاء طيلة فترة حكم الرئيس السابق (ترامب) وتحملت كل حماقاته وتهوراته وعنترياته التي لم تهز شعرة من أيران!. فجاء فوز بايدن الديمقراطي بما تشتهي سفن أيران!، الذي يبدو واضحا بأنه سيعيد موضوع أيران وملفها النووي وكل العقوبات المفروضة عليها الى طاولة المفاوضات ، والى الحل الدبلوماسي من جديد بعيدا عن لغة الحرب، وهذا ما راهنت وصيرت عليه أيران ونجحت في ذلك. ومن يضحك أخيرا يضحك كثيرا.