19 ديسمبر، 2024 12:08 ص

في نادرة تاريخية وإنجاز شكك الكثير في تحققه توصلت جمهورية إيران الإسلامية الى اتفاق مبدئي مع مجموعة الدول العظمى الخمسة + المانيا بعد ما يقارب العامين من المفاوضات حول برنامج إيران النووي الذي اكدت إيران منذ البدء على كونه سلمي ولأغراض بحثية ومدنية وإنتاج طاقة كهربائية بعيداً كل البعد عن انتاج أسلحة دمار شامل ولكن ذلك ما لم تقتنع به الدول العظمى ابداً ومن هنا تبدأ القصة ….

يعلم الجميع ان إيران دولة كبيرة في المساحة والسكان وان الاعتماد على النفط ومشتقاته لتوليد الطاقة الكهربائية والصناعة والزراعة وكل مرافق الحياة الأخرى هو امر غير صحيح منطقياً خصوصاً مع توقعات عالمية لنفاد النفط في العالم كله خلال الخمسين سنة القادمة وبسبب الاضرار البيئية الكبيرة التي تخلفها المنشآت الصناعية المعتمدة على النفط ومشتقاته مما جعل كل دول العالم المتحضر والمتطور تبحث عن البدائل ومنها إيران طبعاً. وكنتيجة للمعاهدات والمصالح المشتركة الكثيرة بين ايران وروسيا فقد ساعدت روسيا منذ البدء في انشاء منشئات ايران النووية وامدتهم بالخبرات والمواد والمعدات اللازمة لتحقيق إنجازات كبيرة في وقت قصير نسبياً مما دفع الكثير من الدول التي تشعر بعدم الارتياح لإيران وسياستها (وبشكل خاص الكيان الصهيوني ودول الخليج) الى تصعيد لغة التخويف والتحذير العالمية من ايران النووية وهو الامر الذي رحبت به وسائل الاعلام العالمية التي يحكم اغلبها صهاينة او عبيد للأموال والثروة التي يوجد منها الكثير في الدول المعارضة لإيران النووية.

بدأت الضغوط الامريكية بشكل خاص والغربية بشكل عام على إيران وتصاعدت حدة فرض العقوبات الاقتصادية والسياسية على ايران خلال فترة رئاسة محمود احمدي نجاد بسبب تشدده الكبير في قضية حق ايران في امتلاك برنامج نووي سلمي ورفضه القاطع لأي تنازلات مما هدد في مرحلة من التاريخ بحرب مفتوحة بين ايران وحلفائها من جهة وامريكا وحلفائها من جهة أخرى ولكن اللحظة التاريخية كانت تستعد للحدوث. حيث حصل توافق غريب في نتائج الانتخابات الامريكية والإيرانية وهما الدولتان الرئيسيتان في هذا الصراع الى جانب بقية الدول الثانوية الأخرى والكل يعلم ان كل من هاتين الدولتين يحكمهما حزبين او توجهين رئيسيين هما المحافظون (الأكثر تشدداً) والاصلاحيون (الأكثر انفتاحاً وسياسة) في ايران والجمهوريون (الأكثر تشدداً) والديمقراطيون (الأكثر انفتاحاً وسياسة) في أمريكا وهنا جاءت اللحظة التاريخية قبل عامين تقريباً حين وصل الرئيس (الإصلاحي) حسن روحاني الى السلطة في ايران ووجود الرئيس (الديمقراطي) باراك أوباما في البيت الأبيض مما سهل عملية بدء المفاوضات للوصول الى حل وسط يقنع الغرب بأن ايران متعاونة ولا تسعى الى انتاج سلاح نووي وفي نفس الوقت يضمن لإيران رفع العقوبات الاقتصادية والسياسية عنها لتحسين أوضاع شعبها المعاشية والعامة.

لم تلق المفاوضات النووية تأييد واستحسان الدول المعارضة اصلاً للبرنامج الإيراني النووي من البداية وبالتحديد الكيان الصهيوني ودول الخليج وتركيا وتصاعدت ضغوط اللوبي الصهيوني المسيطر على اغلب أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي لمنع حصول أي تقدم في المفاوضات وفعلاً توقفت المفاوضات عدة مرات وعادت للبدء بشكل متلكأ عدة مرات ولكن حرص كل من الرئيسين الأمريكي والإيراني على الوصول الى اتفاق يجنب بلديهما والعالم حرباً مدمرة وعواقب وخيمة كان اقوى من كل الصعاب وبانت بوادر التوصل الى اتفاق نهائي قبل عدة أشهر. عندها احست الدول المعادية لإيران والحريصة على ادامة الحروب في المنطقة والعالم بالخطر وسعت بكل ما اوتيت من قوة الى الضغط سياسياً على أمريكا للتراجع عن المفاوضات واقتصادياً على ايران بزيادة انتاجها للنفط لتقليل أسعاره لضرب اقتصاد ايران وحلفاءها (روسيا وغيرها) ولكن كل ذلك لم ينجح (حتى الان على الأقل!) في كبح جماح السعي الى الاتفاق.

اخيراً وفي محاولة يائسة اتجه رئيس وزراء الصهاينة الى واشنطن في رحلة (تاريخية ومصيرية) كما اسماها هو حيث تعهد قبل الركوب الى طائرته انه ذاهب في مهمة هي الأهم في حياته وحياة الشعب الصهيوني الى واشنطن لأقناع أمريكا بالعدول عن المفاوضات وعدم السعي الى الاتفاق و”انه ممثل لكل اليهود في العالم سواء ارضوا بذلك او لا!”. وفعلاً ذهب نتانياهو الى واشنطن وقام بالانتقاص من الرئيس الأمريكي متهماً إياه بأنه غير ملم بحقائق الأمور وغير حريص على مصلحة شعبه والعالم في خطابه للكونغرس (الذي اغلبه الان من الجمهوريين المتشددين والمناصرين لدولة الصهاينة في فلسطين) بأن يقوموا بالضغط

على الرئيس الأمريكي لوقف المفاوضات والسعي باتجاه الحرب على إيران “لكبح جماح طموحاتها” كما عبر عن ذلك بنيامين نتانياهو في خطابه للكونغرس الأمريكي.

من المعروف تاريخياً ان الجمهوريين الأمريكيين هو أناس مؤمنين بالمسيحية بشكل كبير وهم يعتمدون في الكثير من سياساتهم على تفسيراتهم لكتب العهد القديم (التوراة) والعهد الجديد (الانجيل) والتي بلغت هي وتفسيراتها مئات الكتب التي تختلف بينها بشكل مخيف ولكن البعض من تلك الكتب وتفسيراتها وخصوصاً تلك التي يعتمد عليها الجمهوريون الأمريكيون في فهمهم للعالم وتحديد سياساتهم كلها تتفق على ان إسرائيل ستكون جزءاً مهماً من (نهاية العالم) التي هي شرط لرجوع المسيح (ع) الى الأرض لذا فهم يدافعون عن الكيان الصهيوني ووجوده من دوافع دينية بحسب اعتقادهم ولذا تراهم منذ ما يقارب القرن من الزمن (حين برزت أمريكا كقوة عالمية) يساهمون بكل ما يستطيعون في حماية هذا الكيان اللقيط السرطاني في قلب العالم كله وليس قلب الشرق الأوسط فقط.

هذه المقدمات التاريخية أدت الى نجاح رحلة نتانياهو الى أمريكا بأقناع السيناتورات الجمهوريين في الكونغرس الأمريكي بتجميع تواقيع 47 منهم في رسالة سميت ب (GOP letter) بعثوا بها الى القادة الإيرانيين محذرين إيران فيها بأن أي اتفاق نووي مع الرئيس الديمقراطي (أوباما) سيتم الغائه وتجاهله من قبل أي رئيس (جمهوري) سيتم انتخابه فيما بعد! هذه الرسالة كانت بمثابة كارثة في السياسة الخارجية الامريكية حيث بينت للعالم كله ان أمريكا منقسمة من الداخل وان الخلافات بين المؤسسات التشريعية (الكونغرس، مجلس الشيوخ) والمؤسسات التنفيذية (الرئيس ووزرائه في الحكومة المركزية) كبيرة جداً مما اعطى رسالة قوية لكل دول العالم ان أمريكا ليست دولة موثوقة وليست جهة معول عليها في الاتفاقيات الدولية حيث ان أي اتفاق يجريه أي رئيس سيكون عرضة للزوال والتجاهل من قبل أي رئيس اخر وهو امر مرفوض ومستهجن في الأعراف الدولية العالمية.

على كل حال فقد قامت إيران -ومن منطلق حرصها على إتمام الاتفاق -بتجاهل هذه الرسالة عادة إياها جزءاً من البروباغاندا او الدعاية الإعلامية الموجهة لأفشال الاتفاق ومضت إيران ورئاسة أوباما وبقية الدول العظمى في اتفاقهم الى النهاية وتم التوافق على الخطوط العامة للاتفاق يوم الخميس الثاني من شهر نيسان عام 2015 في مؤشر ممتاز على مستقبل أكثر هدوءاً وعقلانية في السياسة العالمية. من جانب اخر لابد من الانتباه الى ان التفاؤل المفرط خاطئ في هذه المرحلة فالدول المعارضة للاتفاق ستكشر عن انيابها وتقوم بمغامرات غير محسوبة للقضاء على هذا الامل بغد امن مسالم يقوم على الاحترام المتبادل والعلاقات القائمة على أساس المنفعة المتبادلة وخير دليل على ذلك ما تقوم به دول الخليج من عدوان وحشي على اليمن (التي يحسبونها على انها مدعومة من إيران!) لجر إيران الى حرب كارثية او استنزافها (حسب ما يهدفون) في حرب بالوكالة طويلة الأمد. ومن جانب اخر لا بد ان نتذكر ان الكيان الصهيوني هدد منذ سنين انه في حالة عدم توقف البرنامج النووي الإيراني فأنه سيهاجم المنشئات النووية الإيرانية (حتى بدون دعم أمريكا وموافقتها!) وهو امر خطير ينذر بتهاوي كل محاولات احتواء الازمات العالمية بالحوار وينذر بحرب مفتوحة يكون الجميع خاسراً فيها لأن (الانسان في كل الدول المشاركة في الحرب المحتملة) هو من ستنتهك حقوقه ويعتدى على حياته وتدمر منجزاته ولن يخرج أحد من الحرب رابحاً فرحاً بل سيكون ذلك كارثة عالمية بكل ما للكلمة من معنى.

من هنا وجب على الجميع في الشرق والغرب العمل على تهدئة الأوضاع ووضع السلاح جانباً والتعقل والاتجاه الى الحوار لأن اتفاق أمريكا وإيران الأخير خير دليل على ان اعدى الأعداء ممكن ان يجلسوا على طاولة واحدة ويتفقوا على ما فيه خير الجميع (وان كان هناك بعض التنازلات) فأنها أفضل من نزيف دماء الالاف وخسائر لا تعد ولا تحصى.