” لكي يتحقق الموقف الثوري في الحياة الواقعية علينا أن نعترف بذاتية النضال من أجل التغيير”[1]
اذا كان العبيد يؤمنون بمن معه القوة ويدافعون بشدة على السلطة القائمة ويرضون بالقليل من المنفعة ويحرصون على الحياة الثكن ويعيشون لحاضرهم ويضعون أنفسهم في خدمة غيرهم ويمثلون وسائل مشاريعهم فإن الأحرار يؤمنون بمن معه الحق ويدافعون عن الضحايا ويغامرون بالحياة من أجل انقاذ غيرهم وتحرير الحياة حيثما هي أسيرة ويبحثون عن القيم الرفيعة ويرسمون أهداف نبيلة لوجودهم ويعتبرون واجب الدفاع عن الحقوق والذود على الأوطان مشروعهم الدائم.
بيد أن التمييز بين الحق والواجب معناه القيام بالتفريق بين ماهو مشروع وحقيقي وجائز وماهو مفروض ومعياري وآدابي. فالواجب أكثر اتساعا ويتميز بالإلزام والإكراه والضغط والقسر ويجبر المرء على القيام بفعل معين والامتناع عن القيام بفعل مغاير ويرتبط بانعطاف النفي المضاعف، أما الحق فهو ما ليس ممنوعا وما يمنح المرء رخص وسلطات ومساحات للفعل ويتركه وحيدا في حقل تجربته حاكما على تصرفاته ومسؤولا على سلوكاته داخل حريته وعلى قراره واختياره.
يفرض الواجب قوانين أخلاقية تتناقض في بعض الأحيان مع العواطف والميولات والرغبات ويظهر بعض الضغوطات على الارادة والحرية بينما يبرز الحق كمدافع على الحرية ومحامي شرس على الاستقلالية الذاتية وذلك حينما يمنح المرء فرص للتمرد والرفض ولما يتجلى كقدرة مطابقة للقوانين وسلطة اخلاقية تهتدي بنور الضمير ويبرز كاستطاعة تحترم الكرامة الانسانية.
لكن اذا كان الحق هو الاقتدار على ماهو ممكن ماديا ومجاز أخلاقيا ومشروع قانونيا فإنه من الضروري التفريق بين القانون الاجتماعي الذي يتجسد في شكل عادات مقبولة ونصوص مكتوبة والقانون الروحي الذي ينتقش داخل الوعي الفردي ضمن قيم توجيهية وقواعد ارشادية ومثل عليا.
بناء على ذلك توجد علاقة تبادلية بين الحق والواجب ويتحول ماهو حق بالنسبة الى الطرف الأول واجب عند الآخر وما يكون واجبا على مجموعة يظهر كحق بالنسبة الى مجموعة أخرى. يدل هذا التحليل على مشكلات فلسفية كبيرة يطرحها مفهوم الحق مثل علاقته بالواجب والقوة والممكن والواقع ويشمل علاقات الاستطاعة المادية والسلطة الأخلاقية وأخيرا علاقات الحق الطبيعي والحق الوضعي والعرف الاجتماعي والقانون الأخلاقي ويبرز واجب الدفاع عن الحق.
لكن كيف يمكن تأويل هذه العلاقة التبادلية بين الحق والواجب؟ ولمن تكون الأسبقية في العادة؟
يمكن الاكتفاء بمفهوم الواجب لوحده ويترتب عن ذلك اختفاء مفهوم الحق دون أسف عليه وذلك اذا ما قام جميع الناس بالالتزام بواجباتهم تجاه بعضهم البعض وبالتالي يضمنون كل الحقوق دون التصريح ها والتكلم عنها بالضرورة ويتجنبون عندئذ السقوط في ارادة الهيمنة وتقوية النفوذ.
كان مفهوم الحق ناجعا في مرحلة تاريخية معينة حينما قاوم تحت اسمه الفرد ضد الاضطهاد من أجل العدالة والمساواة والحرية ولكنه تحول الآن الى مفهوم خطير ومصدر ظهور مشاعر الأنانية والملكية واتضحت فيما بعد تداعياته سلبية وتأثيراته على مستقبل العلاقات الانسانية.
كما أن المطالبة بالحق تصبح ممارسة بلا معنى وفاقدة للجدوى اذا ما تم تنزيلها ضمن نظام أخلاقي وسياسي تتحدد وتتحقق فيه واجبات جوهرية وتنتج عنه عدالة الضمانات الفردية من هذه التبادلية الكلية للالزامات والمعادل الأخلاقي للحريات والحقوق وتنتفي الأخطار السياسية للحق ويتم احترام القاعدة التالية: كل واحد له وجبات تجاه الكل ولا أحد له الحق في المطالبة بالحق .
لكن ألا يؤدي ذلك الى ابتلاع الحق بواسطة الواجب ؟ ألا يجب على الانسان الدفاع عن الحق؟
ينبغي بناء التصور الأخلاقي للمجتمع على قاعدة كل ما ليس ممنوعا فهو مباح وليس ملزما حتى لا تختفي الحريات الفردية والحقوق الأساسية ويتمكن الناس من مطالبة الحكام بحقوقهم والاعتراض على القوانين غير العادلة وغياب المساواة حينما لا يمنحهم الآخرون مستحقاتهم.
هكذا يكون من الواجب على الانسان أن يدافع على حقوقه من أجل حمايتها من كل اعتداء وذلك لأن حق الغير يؤسس واجب الذات تجاهه وواجب الغير تجاه الذات هو الذي يؤسس حقها بالنسبة اليه وهذه العلاقة التبادلية تجعل من مفهوم الحق يشكل مجموعة الشروط الضامنة لاتفاق حرية كل فرد مع بقية الحريات وتخليص الواجب من الاكراه وتنقية الحق من شوائب العنف. لكن ألا يعبر الحق عن القوة؟ أليس لنا الحق اذا ما كانت لنا القدرة ؟ ما الحق الضامن لكل الحقوق؟
المرجع:
باولو فرايري ، تعليم المقهورين ، ترجمة يوسف نور عوض – دار القلم – بيروت ، طبعة أولى .1980 .
[1] باولو فرايري ، تعليم المقهورين ، ترجمة يوسف نور عوض – دار القلم – بيروت ، طبعة أولى .1980 . ص.ص.32-33.