لم يكن ماحدث قبل أشهر من انفجار صبر العراقيين، وخروجهم عن نطاق التحمل، وتظاهروا بحناجرهم وأجسادهم وأرواحهم، جديدا او غريبا حدوثه، بل هو أمر متوقع بما لايقبل الشك، لاسيما بعد أن طفح الكيل بالمواطن المسكين، من جراء مايراه ويعيشه من سلب لإرادته، وغبن لحقوقه، وغمط لمستحقاته في بلده. فبعد عقود الجور والقمع والبطش، والحروب والحصار والحزب الواحد والقائد الأوحد وأزلامه، حل علينا عام 2003 فكان به -على ما ظننا- الخلاص من تلك السنين، غير أن الخلاص من مفردة الدكتاتورية جاء مشوبا بمفردة الاحتلال، فبتنا كما يقول الشاعر:
المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
ومع هذا وذاك وبتحصيل حاصل فقد أنعم علينا “العم سام” بتخليصنا من ذاك الكابوس، ولو أعدنا النظر الى ماكان يحمله الكابوس من أضغاث أحلام، للمسنا أن هناك صراعا مريرا على مدى أربعة عقود، دارت رحاه فطحنت الشيب والشباب من أبناء البلد، وكان طرفا المعادلة معلومين، وبالإمكان تسميتهما والإشارة اليهما بكل بساطة، فالطرف الأول هو صدام، أما الثاني فهو الشعب. وبهذه المعادلة تدنى مستوى البلد الى أدنى المستويات بين الأمم والبلدان، ذاك انها معادلة غير متكافئة، فساد الجهل والأمية والفقر، كذلك الفساد بمفردتيه المالية والإدارية، والجريمة هي الأخرى ارتفعت معدلاتها بشكل خطير قياسا الى باقي الدول، وكان سلاح القمع والبطش والموت والنفي، هو ما اتبعه النظام الفاشي البعثي لقمع الصوت المعارض، ووأد التظاهر والمطالبة بالحقوق.
اليوم بعد مضي سبعة عشر عاما على انقشاع الطرف الأول -صدام- كذلك انقشاع النظام بحزبه الدموي النازي، وأزلامه ومجرميه وأدوات إجرامهم، من المفترض أن يلمس الطرف الثاني -الشعب- انفراجا في كل تفاصيل حياته، ويشهد البلد الذي كان يئن تحت نير الدكتاتور وسياط حزبه، انبثاق فجر جديد لحياة مشرقة بعيدا عن الاضطهاد والتمييز، لاسيما وقد تغير الحزب والقيادة والوجوه، كذلك تغير لدينا نمط الحياة السياسية، حيث يشير المواطن الى الشخص المناسب بسبابته لينتخبه ويضعه في المنصب المناسب. لكن واقع الحال عكس غير ماكان مؤمل، فتلاشت الآمال بعين المواطن شيئا فشيئا على مر السنين العجاف، بعد أن اتضح له زيف الشعارات التي رفعها أشخاص، كان قد رفعهم إلى مناصب مرموقة وسلمهم وكالة (عامة مطلقة) بحاضره ومستقبله وثروات بلده، فكان الخذلان حصيلة ماحصده في أربع تجارب انتخابية مضت من عمره وعمر العراق.
وما زال دأب مسؤولي مؤسسات الدولة خذلان المواطن ما استطاعوا، من خلال منصبهم ومكانتهم في سلم الوظيفة والمسؤولية، وهذا أيضا ديدن رؤساء الكتل وزعماء الأحزاب، في مسيرة المليون ميل في العملية السياسية، هذه المسيرة التي لا يلوح في الأفق أي بصيص أمل لمستقبل زاهر لها، فالنكوص والتراجع باتا سمة وعلامة شاخصة لها، وذلك بفضل ربابنة السفينة الذين ما اتفقوا على رأي، حتى اختلفوا في عشرات الآراء، وما سعى أحدهم بخطوة في الطريق السليم، إلا وضع الباقون عصي العرقلة والتعويق في عجلته، فأضحوا بأخلاقهم هذه بئس قادة وشر مسؤولين، وتجسدت فيهم أبيات الشعر:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وليس بعامر بنيان قوم
إذا أخلاقهم كانت خرابا
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
فأقم عليهم مأتما وعويلا
[email protected]