فى مصر فإن حكم الزمن أن تتلاحم الأجيال. وفى الأهرام فإنها تتلاحم أكثر. أما فى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام فإن الأجيال لا تتلاحم فقط وإنما تندمج؛ وأحيانا فإن الزمان يتلاشى ولا يبقى إلا أفكار تتدفق. كانوا ثلاثة: السيد ياسين، وسعد الدين إبراهيم، وعلى الدين هلال، شهدهم المركز فى منتصف السبعينيات وقد تلاحموا فى كل شيء حتى ظهروا فى مطعم الأهرام الشهير وقد تشابهت قمصانهم أحيانا كفرسان ثلاثة أتوا فى قوارب من جهات شتي، ولكنهم ركبوا سفينة قوامها إنشاء المؤسسات وتجديد الفكر السياسى فى مصر. لم تكن أفكارهم متشابهة رغم أنهم شربوا من نفس النبع الأكاديمى للحداثة، ولكنهم كانوا فى النهاية من أطل على المحروسة، والعالم العربى أيضا، بآخر المدارس فى العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي. وبينهم كان الأستاذ السيد ياسين الأكثر حكمة، والأقل اهتماما بتجسير الفجوة بين المثقف والأمير، أو بث شعلة من نور الإصلاح فى ظلمات نظام استعصى عليه. ورغم أنه كان من الزاهدين فى استكمال رسالة الدكتوراه فى باريس، فإنه كان الأكثر تمسكا بالمناهج العلمية فى التحليل، وحتى رحيله فإن محاضرته عن البحث العلمى فى الظواهر كان أكثر ما أكد عليه.
ثلاثتهم بنوا مؤسسات، ولكنهم تشاركوا فى تلك النقلة الكيفية فى مركز الأهرام للدراسات أثناء فترة من أصعب الفترات التى مرت بها مصر بين الإنغلاق والانفتاح، والحرب والسلام، والعداء الكبير للغرب ومحاولة التصالح معه. ورغم أنهم تشاركوا فى التجربة طوال أكثر من ثلاثة عقود، فإن الأستاذ السيد ياسين كان هو الذى لم يجعل تناقضه الفكرى مع النظم السياسية المتعاقبة ينتهى إلى تصادم، كان الحفاظ على المؤسسة، المركز، أبقى من أى شيء آخر. ولم يكن ذلك يعنى فقدانا للنزاهة الفكرية، وإنما إمساكا بها كما يمسك الإنسان بالجمر كما يقال فى أزمنة امتدت فيها الثورة إلى حافة الجنة، كما انخفضت بها إلى سافل الجحيم. كان الحفاظ على ثنائية زالمنهج العلميس وسالمركزس مهما اشتدت الأعاصير هى التى جعلته يفرخ أجيالا من الباحثين فى الشئون السياسية والإستراتيجية كانوا الأوائل علما والأكثر نشرا.
كنت من المحظوظين فى هذا الجيل الأول الذى جاء معه من إدارة التحليل السياسى فى وزارة الإعلام التى كان يديرها د. على الدين هلال لكى يكون الميلاد الثانى لمركز الأهرام فى عام 1975 (الميلاد الأول قام به الأستاذ حاتم صادق عام 1968). وأذكر عندما كنت فى الولايات المتحدة لدراسة الدكتوراه أن همس لى أستاذى بسؤال كيف أصبحت متقدما على زملائى بعشر سنوات؛ وكانت إجابتى أنها مدرسة المركز والأهرام وكلية الإقتصاد والعلوم السياسية والأستاذ السيد ياسين. وحينما عدت بعد الدراسات العليا كانت فكرة «التقرير الإستراتيجى العربي» قد اختمرت فى ذهنه ووضع عنها ورقة «المفهوم» الذى يضع أولى النقاط على الحروف فى مشروع صار بعد ذلك مفرخا لأجيال من الباحثين الجدد. كنت محظوظا لأننى وضعت التقرير موضع التنفيذ كأول مدير تحرير لمطبوعة لم ينجح أحد فى مصر والعالم العربى بعدها فى أن يقلدها، ولا أن يماثلها فى الاستمرار. ولكننى كنت أكثر المحظوظين بعد عشر سنوات عندما توليت إدارة مركز الأهرام، وعلى مدى خمس عشر عاما من إدارتى للمركز كان ــ «الأستاذ سيد» كما توافقنا على تسميته مصدر حظ لى مرتين: الأولى لأنه كان لنا دوما لقاء شبه يومى فى الصباح الباكر للنقاش فى أحوال الدنيا أحيانا، وأحوال الفكر فى كل الأحيان. والثانية أنه كان قوة دافعة لكل مطبوعات المركز التى أتت بعد ذلك من مختارات إسرائيلية وحتى مختارات إيرانية، ومن تقرير الحالة الدينية وحتى دليل الحركات الدينية، ومن دوريات أحوال مصرية وحتى سلاسل الكتب المختلفة والمتنوعة. كانت له انفراداته الخاصة بجميع باحثى المركز والتى يعطيهم فيها دروسا خصوصية فى البحث العلمي، وربما الأهم تقديم دفقات من الحماس والاحتفاء بما كتبوا وكتب.
لم يكن قد مضت شهور على مهمة إدارتى للمركز حتى شرعت فى عقد المؤتمر الأول لمؤسسات البحث السياسى والإستراتيجى فى البحر الأبيض المتوسط، وكان الأستاذ سيد قد وضع بذرتها الأولى فى أثناء إدارته. كان مكان المؤتمر فى مدينة الأسكندرية، والزمن شهر أغسطس 1995، والمهمة كانت إنشاء رابطة للمراكز المعنية بأمن المتوسط تحت اسم زميسكو MESCO أو الحروف الأولى من مؤسسة دراسات البحر المتوسطس. قمت بافتتاح المؤتمر بكلمة وما أن انتهيت منها حتى جاءتنى ورقة مطوية من الأستاذ جاء فيها زلقد عرفنا كيف نربى المديرينس؛ كنت ممتنا لما قال، وما زلت. ومضت الأيام بعدها، وتلاقينا وافترقنا، وتباعدنا وتقاربنا، وفى كل الأحوال فإن الفرسان الثلاثة ظلوا جزءا من التكوين الذى حدث لجيلنا، ولكنه من بينهم كان الأكثر قربا، وبالتأكيد الأكثر حنانا ومودة. كبر الجيل التالى هو الآخر وأصبح له تلاميذه، وامتد الزمن الفكرى ليصير نوعا من الصيرورة التى لا تتوقف، وفقد جيلنا د. محمد السيد سعيد فكتبت ساعتها أن زواحدا منا ذهبس؛ وحينما أبلغنى الأستاذ محمد عبد الهادى بوفاة أستاذ الجيل اعترانى نفس الشعور أن زآخر منا ذهبس . فكما يقال أن الجنود لا يموتون وإنما يذهبون بعيدا فقط؛ فإن المفكرين وصناع الأجيال لا يموتون أيضا، هم يذهبون كذلك لأن عيشهم من كلمات وفكر يبقى دائما. وياصديقى وأستاذى السيد ياسين سوف أفتقدك كثيرا!.
نقلا عن الأهرام