19 ديسمبر، 2024 9:26 ص

توزع جلاس مقهى (حسن الشعبي ) والذي يقع قرب المنعطف الأول من شارع السعدون المؤدي الى منطقة البتاوين ، توزعوا ضمن طاولات المقهى وبدأوا بلعبتي ( الطاولة والدومينه ،) وهناك جلاس آخرون جلسوا منفردين مع أفكارهم ، ربما يتذاكرون وذكرياتهم التي تكاد يطويها النسيان علهم يجدون مايسعفهم منها لحاضرهم البليد ،وقطعا هناك طاولة غير مشغولة شغلها للتو رجل بحقيبة ، وما أن جلس أخرج من حقيبته كتابين وصحيفة محلية ، وحين هم بقراءة الصحيفة أخرجَ من أحد جيوب قمصلته الجلدية السوداء قلما وراح يضع خطوطا تحت هذه العبارة أو تلك ، لكنه سرعان ماوضع القلم على الطاولة وهو

يبتسم ، وهكذا ظل يبتسم لفترة زمنية متصلة ، قطعها عليه النادل حين سأله عن طلباته ،كان جهاز الراديو وهو من طراز الأجهزة الأثرية بالكاد يُستمع اليه بسبب المجادلات والتوقعات التي تصدر عن المتبارين للعبتي الطاولة والدومينو وتعليقاتهم عن ( الهب بياض ) وتعليقاتهم الضمنية عن مباراة دوري كرة القدم ، إضافة الى هذا الضجيج فأن المقهى تقع بالقرب من تجمع شبابي لبيع وشراء الطيور والدواجن والقطط والكلاب ،

صاحب المقهى حسن أيضا تأخذه ذكرياته كلما لامس ساقه التي بترت في المعارك التي جرت في منطقة الفَكه بين الجانب العراقي والجانب الإيراني ، ويتذكر قطعا كيف تم إخلاءه من ساحة المعركة ونقل الى الخلفيات ثم الى مستشفى عسكري في مدينة العمارة وهناك قرر الأخصائي بتر ساقه بعد أن أمضى حسن بإبهامه على ورقة الموافقة ،آخرون لهم قصصهم بعضهم لم يبح بها لأحد ، وبعضهم يُسَّرب منها مالايتعارض مع وجود إنسانيته في الحياة ،ويبدو أن جلاس المقهى قد عاشوا حياة كالحة بعضها لها علاقة بالظروف الشخصية لكل واحد منهم وبعضها بفعل طبيعة الحياة التي تتطلب أحيانا بعض التنازلات في

مواجهة الصعاب ، لكن هؤلاء فضلوا أن يعيشوا حياتهم بنقاء وبصبر وبتعفف ، طلب صاحب الحقيبة من النادل حامضاً بلا سكر بقدح وليس بــ (إستكان) وهمس بطلبه همسا ، ولكنه في تلك اللحظة أعطى سمعيه لجهاز الراديو الأثري حين بدأت موسيقى لأغنية تسمع بالكاد ،نهض صاحب الحقيبة بعجالة وتعثر بالطاولة وأسقط قدحه ولكنه إستمر في التوجه صوب المذياع وأداره على أعلى مابه من صوت ، وبدأ المطرب بإنشاده لأبوذيته وساد الصمت وترك المتبارون (صايات الدومينو وبولات الطاولي) وهم يستمعون لغناء يشبه البكاء من صوت شجي وحنين :

جفني اللي سهر بالليل يرمد

وبحر الحزن مابيه جزر يرمد

شجالك ماتطيب الجرح يرمد

خِفَت جَمرَك ولا دفيت إديّه

فجاءة نطق الجلاس بما لايُفهم أو بالمعنى الأدق ، لم يكن أحد من الجلاس يتوقع أن يستمع لأشياء غير متجانسة مع همومهم ،

قال أحدهم : لابد أن يكون هناك عقابا للشهوة

وقال غيره : من المستبعد أن لاتظهر على زوجتي أعراض الهستريا وأنا كل يوم أعود الى البيت كالأبله المجنون ،

وغيرهما قال :غياب العدالة تعني أن تتضاعف الالآم في نفوسنا ،ولاننتظر أن تصنع لنا تماثيل كي يقدسنا الآخرون

ووقف آخر ليكمل ، لكن الرجل صاحب الحقيبة هرع للراديو الأثيري الذي جعله على أعلى صوته هرع اليه ليتأكد من أنه لايزال أعلى من صوته وهو يصيح بالجلاس إكملوا ألآمكم وأتى الشجن بعد أن تسيد الصمت المقهى بجلاسها ومقاعدها وجدرانها وصورها حين بدأ كريم منصور يغني لعريان السيد خلف

يُغني:

أبد لاتنفعل وصيت الرموش

يامايع بين إديه ، ياطِّيب الأنفاس

نام إنت عوافي إتخطه بالروح

وأنه أغزل للصبح بخيوط النعاس

جربت الحياة أتسله بأثنين

مرة بالجكارة ومرة بالكأس

تعب هاي الحياة أحزان والالآم

وعلى هالدنيا الله يساعد الناس

قال حسن صاحب المقهى والذي بترت ساقه في معارك الفكه : يعني ساقي راحت هب بياض

والذي قال لابد أن يكون هناك عقابا للشهوة

قال يعني طلاقي لزوجتي ذهب هب بياض

والآخر الذي وصف نفسه بالأبله المجنون قال

إنتظاري تلك السنوات هب بياض

والذي يحمل حقيبته قال للجلاس وهو يهم بالمغادرة

مع السلامة يا هب بياض

وبدأت أصوات أخرى تتعالى ب هب بياض

بدءا من باعة الطيور والحيوانات الى النسوة في الأسواق الى الباعة المتجولين ليدرك كل منهم مراده من هب بياض،

حينَ عادوا أماكنهم التي إنطلقوا منها بكى الجميع بصوت واحد وبمناديل ذكرياتهم مسحوا ماتبقى في محاجرهم من دموع وهم يتأفأفون بـــ (يَرمد ) و بــــ

(الله يساعد الناس ،) وفي مشاعرهم وضمن تلك اللحظة شعروا ولأول مرة شعروا بأن الإنسان لايعدو سوى وجود شكلي ويصبح هب بياض حين لم يسع لنيل حريته الكاملة عبر صراعه مع مكوناته أولا وصراعه مع عالمه الخارجي وإلا سيبقى هب بياض في هب بياض ،

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات