(( هذا العالم الشاسع بكل المسافات والممتلئ بكل شيء لم يصنعه أحد الآلهة ولا الناس، لكنه هو دائماً وسيكون كذلك أبداً : ناراً حية دائمة البقاء، أشعلت بمقاييس وأطفئت بمقاييس)).
هيرقليطس
لا اعرف متى اكتشفت العلاقة الروحانية بين الفيلسوف الإغريقي هيرقليطس والمعدان ، ولكني في قراءاتي المسائية على حواف الاهوار حيث لزوجة الطين وحركة الموجة الهادئة في خلسة المشي بين اعواد القصة والتي بنى هيرقليطس على حركتها لب فلسفته في ديالكتيك المتغير في حياتنا عندما قال : أن الموجة التي تراها في النهر لن تبقى تترنح في ذات المكان بل تمشي الى ما لانهاية .
وحيث ينقضي الدوام ويداهمك فراغ المكان واغتراب المقهى تكون الكتب ونشرة اخبار البي بي سي واغاني سلمان المنكوب في اذاعة القوات المسلحة هو من بعض سلوى قضاء الوقت.
هناك عاش معي ذلك الغامض في رداء جمله والذي يقول في كتابه منارات (“سموني الغامض، وكان حديثي عن البحر.) ، واقصد الشاعر الفرنسي سان جون بيرس الشاعر المضيء بدهشة كل النباتات والمياه الفيروزية والامطار التي تتحدث بكل اللغات القادمة من تحت أبط خط الاستواء أو من قرى تقع في اطراف كوكب زحل . وسان جون بيرس هو من جعلني أنتبه الى هيرقليطس.
شيء غريب أن تحملَ غموض رائيتين تهابهما كثيرا الذائقة المثقفة والحضارية في القرن العشرين ، هيرقليطس وسان جون بيرس ، تغامر أنتَ وتجمعهما في قراءات مساء اهواري وتحاول فيه ان تكتشف الشاعر الغامض والفيلسوف الغامض مع وضوح هذا المكان حيث لن تكون اللغة معقدة في الجملة التي يقولها عاملي الخدمة في مدرستنا ( شغاتي أو ريكان ) او تلك الأفكار التي يجيب فيها تلاميذ الصف الثالث الابتدائي حول مشاعرهم وهم ينتهون من حفظ وكتابة القصة الموجودة في كتاب القراءة والتي عنوانها ( القرد مقطوع الذنب ) .
هذه الغرابة هي واحدة من اجمل متع تلك الأيام حيث يسكنكَ الخوف من أن ترتدي معطف هذا الفيلسوف الذي لا يعرف عنه الكثير سوى أنه لا يعطي الفكرة المحددة للرؤيا بل يترك المطلق المتخيل هو من ينشئ لحياتنا المعنى ، وكذا هو المكان الذي يحتفي بقرى القصب وهدوء الجواميس الغافية في الماء والبشر الذين لا يدركون في ماهية مصائرهم سوى ذلك الشعاع الخفي من الاسئلة التي لا يبحثون عن اجاباتها سوى في الصمت حين يجيء الليل ويوقدون النار للدفيء ولقتل ما يعتقدون انه المس أو الجن الذي يسكنهم جراء تعديهم على ممالكه حيث يتركون دوابهم تأكل القصب ولفالاتهم ان تصيد السمك من مياه ومزارع قصب هي ملكه.
وهذا تلتقي رؤية المكان ( الماء والسماء ) وفي ذهن خيالي ثمة خيط سري بين غموض الفيلسوف ( هيرقليطس ) وبين ما كان يتحدث عنه شغاتي بفطرة العبارة وما تقصد : أن الماء لايطفيء النار بل يؤجل اتقادها الى وقتٍ آخر ، وان الموجة لن تكون عشا لسمكة واحدة ،بل هناك سمكة في مكان ما تنتظرها لتكون عشها الجيد ، ولهذا يقولون :السماء توزع رزق الماء من خلال حركة الموجة والسمكة.
تعجبت من منطق الرجل وهو الذي لم يرى نور الحرف إلا عندما علمته انا وبجهد حروف الهجاء وقد يكون قرأ بعض الكتب في مكتبتي ولكنه حتما من الصعب عليه أن يفهم بيرس وهيرقليطس حين يقرأهمها.