23 ديسمبر، 2024 12:37 ص

هيثم الناهي … وداعا يا صديقي

هيثم الناهي … وداعا يا صديقي

ان الموت يأتي بغتة ويمر علينا ك “مفأجاة” ليعطينا “الرسالة” وكذلك الدرس بأننا كلنا في هذا الدرب سائرون وماضون ولا ينفعنا الا العمل الصالح وأداء التكليف الشرعي والواجب الوطني والقومي لكيلا نكون عابرين سبيل بلا “بصمة” ولا “ذكرى” ولا “عمل صالح” نكمل معه المسيرة الى دار الحق والبعث بعد الموت والى يوم الحساب حيث يوم العدالة والاستحقاق الكبير.

انتقل الى رحمة الله تعالى الدكتور “هيثم غالب الناهي” السياسي العراقي المعروف المقيم في العاصمة البريطانية لندن وهو أستاذ العلوم الجينية والرياضيات والذكاء الصناعي وله ايضا اهتمامات سياسية وثقافية هامة حيث كتب الراحل العديد من الكتب المهمة من بينها: “الدولة وخفايا إخفاق مأسستها في المنطقة العربية”، و”تفتيت العراق: انهيار السلم المدني والدولة العراقية”، و”السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط”

وايضا ترجم المرحوم الناهي عددًا من المؤلفات العالمية، منها: “الاقتصاد وتحدي ظاهرة الاحتباس الحراري”، و”البذور والعلم والصراع: السياسات العالمية للمحاصيل المهندسة وراثيًّا”.

ولعل من اهم انجازاته هو انشاء المنظمة العربية للترجمة والتي اخذت على عاتقها هم ثقافي كبير ومهم في نقل ما استحدث واستجد من اصدارات معرفية اجنبية مهمة للغة العربية وكان للراحل الكبير تعاون مع المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت وكذلك مع الاخوة في المملكة العربية السعودية وله ايضا نشاط في الجمهورية اللبنانية حيث اقام فترة وأيضا تعاون مهم مع سلطنة عمان وكان له الحضور المميز في العديد من الملتقيات والمؤتمرات الفكرية والندوات في مختلف دول العالم.

وكان لي عدد من الجلسات الحوارية مع الراحل الدكتور هيثم الناهي في بيروت وهو مستمع جيد و يأخذ النقد و الملاحظات السلبية في صدر رحب و كان يقول دائما : “ان الكذب بلا جذور فلا داعي للرد لأنها ستموت ذاتيا لأنها بلا قاعدة للحقيقة او جذور متصلة مع الواقع” عندما كنت اسأله عن اتهامات موجهة اليه او عن تعليقه على تهجمات موجهة لشخصه من هذا و ذاك , و هو أساسا من الشخصيات الهادئة التي من الصعب ان يتم استفزازها و هذا من الأمور الصعبة خاصة مع الوضع السياسي العراقي حيث الحدية في الطرح و التسقيط المتبادل والعنف في السياسة.

في بيروت العزيزة كانت بدايات تأسيس المنظمة العربية للترجمة حيث عاش الراحل القناعة ان الخط الثقافي هو القاعدة الاساس التي يتم البناء عليها اي تحرك لصناعة النهضة العربية ومنها انطلقت الفكرة في خط التطبيق والواقع.

“ولقد استطاعت المنظمة العربية للترجمة في غضون ثمانية عشر عاماً من مسيرتها، أن تنقل إلى العربية نحو 340 كتاباً مرجعياً في أصول المعرفة العِلمية والعلوم والتقانة والفلسفة والعلوم الإنسانية والآداب والفنون واللسانيات والمعاجم، مساهمةً بذلك في سدّ فراغٍ كبير في المكتبة العربية، وفي تعزيز جسور التواصل بين الأمم وعلومها ومعارفها وبين الأمّة العربية. أما الجوائز التي قد حصلت عليها فهي: جائزة الشيخ زايد للكتاب؛ جائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية؛ جائزة ابن خلدون-سنغور للترجمة؛ جائزة وزارة الثقافة في المملكة المغربية.”

عن الترجمة وأهميتها يذكر المرحوم هيثم الناهي التالي:

لا يمكن لأي امرئ أن يتعرف القيمة الحقيقية والأهمية القصوى للترجمة، إذا لم يكن من الذين يعرفون أثرها المعرفي والعلمي في التنمية وتطورها. وإذا كنا من هؤلاء فحينئذٍ يمكننا أن نحدد الأسس المهمة والحقيقية للترجمة، وهي التواصل مع الأمم ونقل الثقافة ونقل العلوم، والعمل على خلق جيل معرفي يرفد جيل المستقبل، وينهل من جيل الماضي. وباختصار فإن التقدم المعرفي والنهوض بالأمة وخلق مجتمع متعلم يسوده الطموح لا يمكن أن يتم إلا بمعرفة ما أنجزته الأمم والثقافات الأخرى، ولا يمكن أن يتم كل ذلك إلا من خلال الترجمة ومتابعتها ونقل الجديد والمتجدِّد”

لقد عرفت الدكتور هيثم الناهي بادئ الامر عن طريق متابعته على الفضائيات و قراءة مقالاته  وأيضا ملاحظة حراكه الوطني و القومي العربي ضد الاحتلال الأمريكي للعراق الجريح حيث كان الصوت العراقي البصراوي الأصيل ضد الحلف الأطلسي والصهاينة و من خان عروبته و اسلامه و وطنه من شلة الجواسيس و اللصوص وسياسيي الصدفة الذين تحركوا لخدمة الأجنبي الغازي لدولة العراق , لأنه المسألة لم تكن اسقاط “طاغية ديكتاتور”  بل اسقاط دولة و مجتمع عربي وتدمير الشخصية العراقية و اتخاذ ارض السواد قاعدة لتطبيق الخطط الصهيونية الامريكية على ارض العراق كبداية لتشمل باقي المنطقة العربية و هو ما حدث و تحقق على ارض الواقع , و سقط معه كل الهراء و تنظيرات العمالة و السقوط امام الحقيقة  على الأرض و تحول العراق الى حالة أسوأ من جهنم و اصبح شلة الجواسيس و اللصوص و سياسيي الصدفة مغناطيس  يجمع اوباش البشر و الحثالات حوله ضمن التنظيم الإداري العجائبي الغريب الاطوار الذي اسسه دستور الاحتلال المكتوب صهيونيا و تحولت شلة الجواسيس و اللصوص و من معهم الى طبقة وسيطة لسرقة أموال و خيرات العراق و نقلها للخارج و كان العراق يعيش مع “صدام” واحد , فانفتحت البالوعة فأصبح هناك “صداميين” بكل مكان اذا صح التعبير , و هذه القراءة الواعية لما يخططه الامريكان و الصهاينة عاشها المرحوم هيثم الناهي لذلك اطلق الصوت ضد الاستحمار الاستعبادي الذي يقوم به الامريكان و الصهاينة , و كذلك رفض ان يتنازل عن الموقف الوطني و المبدأ العروبي , لذلك يستحق التقدير و الاحترام , و ما الجهد الإعلامي والسياسي ضد الاحتلال وضد الغزو الامريكي الذي قام به الا شاهد على ذلك مع عشرات المقابلات و اللقاءات و المقالات و البرامج الوثائقية و اللقاءات التنظيمية , وهو قدم بعدها حين انتقل للعيش في العاصمة اللبنانية بيروت رؤيته للوضع العراقي في كتابه التأسيسي المهم “تفتيت العراق ” و لعل إصداره الأهم كما ابلغني هو شخصيا كان “الدولة واخفاق مأسستها في المنطقة العربية”.

لقد شاءت الصدف ان يكون لدينا صديق مشترك و كان المناضل العراقي الكبير المرحوم الدكتور تحسين محمود طالب النقيب , حيث اخبرني عنه و عن ذكرياتهم سوية في مدينة البصرة و تجمعهم كأصدقاء و أصحاب و أيضا كمجموعة اخرى من الشباب العربي العراقي الأصيل الذين كانوا يعيشون حلم التغيير اذا صح التعبير و منهم كان الشهيد “نوري الصفار” البطل الشيوعي العراقي البصراوي الذي تم دفنه حيا مع ثمانية اخرين وهي جريمة بشعه بلا حدود , و من هذه المأساة لتخليد اسم صديقه  قام المرحوم الدكتور تحسين النقيب باستخدام اسم صديقه نوري الصفار كأسم حركي اثناء جهاده و نضالاته في فلسطين و كوبا و افريقيا وباقي دول العالم و هي القصة المفقودة من تاريخ العراق لغيفارا عراقي عربي اصيل كان من المفروض ان يكمل حكايتها و قصتها الدكتور هيثم الناهي و لعل المرض قد اوقفه عن هكذا مشروع مهم جدا لتوثيق حالة نضالية عربية اصيلة قام بها صديقه تحسين النقيب , وكل الأدوار التي تشاركا بها سوية.

ان وفاة الدكتور هيثم الناهي ليست نهاية حياة شخص واحد فقط، فهو كان يمثل اخر من تبقى من هكذا تجمع للأصدقاء البصراويين العرب الحالمين والذين توزعوا على مختلف بلدان العالم ولكل منهم قصته وحكايته ونضالاته ونجاحاته على المستوي الشخصي والمجتمعي، وكان الدكتور هيثم الناهي اخر من تبقى من هذه المجموعة ليجتمع في الدار الاخرة من جديد مع أصدقائه من قالوا “لا” في زمن “نعم”.

ونحن اذ ندعو لهم بالرحمة والمغفرة لا ننسى بصماتهم على طريق النهضة العربية وانهم قاموا وفعلوا وانجزوا في الحياة ما يجعلهم ليسوا من عابرين السبيل بل من صناع المستقبل وان رحلوا.

هيثم الناهي وداعا يا صديقي والى ان نلتقي مجددا في الدار الاخرة لك مني السلام والتحية رحمك الله وغفر لك واسكنك في فسيح جناته.

امين يا رب العالمين

طبيب باطنية وغدد صماء وسكري

كاتب كويتي في الشئوون العربية والاسلامية