18 ديسمبر، 2024 8:34 م

هوية المكان بين فضاء الريف وحاضرة المدينة

هوية المكان بين فضاء الريف وحاضرة المدينة

لعل من جملة المفارقات المترتبة على ظاهرة غياب الوعي بالجغرافيا الوطنية ، هي إن الغالبية العظمى من العراقيين المعاصرين – باستثناء بعض المثقفين طبعا”- يجهلون حقيقة أن للأمكنة هويات خاصة تعرف بها وتدل عليها ، حالها في ذلك حال بقية الهويات المعروفة في عالم الواقع الاجتماعي : الشخصية والاجتماعية والثقافية والحضارية والقومية والوطنية ، الخ . لا بل والأنكى إن هناك ندرة ملفتة للنظر في وجود من يعرف إن للمدن أو القرى والأرياف هويات خاصة ، يستعان بها للتعرف على مدى تجذر عناصر (الشخصية الاجتماعية) في وعي وسلوك ساكنيها ، باعتبار كون هذه الأخيرة تعد مدخلا”سليما”لتكوين ما نسميه (بالهوية الوطنية) . ذلك لأن أي نوع من أنواع الهويات المذكورة سوف يبقى عليلا”من الناحية البنيوية وسريع العطب ، طالما لم يحقق شرط تكامل عناصر الشخصية الاجتماعية ، حيث تتشذب التطلعات الاقوامية وتتهذب النزعات الطوائفية .

وإذا كان من الضروري استيعاب مثل هذه الحقيقة الايكولوجية والانثروبولوجية ، فضلا”عن أهمية الاشتغال على تعميمها بين الجماعات وترسيخها في الذاكرات ، فان هناك حقيقة ثانية لا تقل عن الأولى من حيث الضرورة والأهمية ، تتمثل بمراعاة واقعة إن الهويات المذكورة لا تتمتع بنفس المستوى من الأهمية ولا تستلزم ذات القدر من الاعتبار . بمعنى إن هناك تسلسل أولويات في مجال بناء الشخصية الاجتماعية العابرة للخصوصيات الثانوية (أقوام / أعراق ، وديانات / مذاهب ، وقبائل ، عشائر ، وجهات / مناطق) ، وأسبقيات في مضمار تشييد الهوية الوطنية المتخطية للقافات الفرعية (القيم والأعراف والعادات والرموز والسرديات).

ولما كانت الأمكنة (الريفية) لا تحيل إلى مرجعية واحدة بسبب تعدد الجماعات والأرومات ، ولا تمثل رمزية مشتركة بسبب تنوع الذاكرات والتمثلات ، فان غياب هويتها أو طمس شخصيتها والحالة هذه – لأي سبب كان – لا يؤثر في المسار الذي يسلكه الوعي الاجتماعي لاستكمال مقوماته وإنضاج تصوراته وبلورة خياراته ، بالقدر الذي يعيق عمليات غرسه للمبادئ الوطنية وإنباته للقيم الأخلاقية في حقل السيكولوجيا الاجتماعية للأفراد والجماعات ، بصرف النظر عن وجود الاختلافات في الدين والتنوعات في الثقافة والتباينات في الذاكرة . هذا في حين يحصل العكس تماما”عندما يساء إلى هويات الأمكنة (المدينية) ، التي أدركتها – بهذا القدر أو ذاك – مظاهر (التمدن) و(التحضر) ، وتلونت – بهذا القدر أو ذاك – بأطياف (الثقافة) و(الفكر) . وذلك لكونها تعتبر بمثابة حاضنات طبيعية لصيرورة عناصر الوعي الوطني وبلورة أنماطها وخصائصها من جهة ، واعتبارها بيئات طاردة ومعادية لمختلف أنواع العصبيات السوسيولوجية المتخلفة والنزعات السيكولوجية المتطرفة ، التي عادة ما يرتفع مستوى نشاطها وتزداد معدلات عدوانيتها ، منذ اللحظة التي تشرع فيها المدن ؛ بفقدان هويتها المكانية ، وتآكل حصانتها الحضارية ، واندثار معالمها العمرانية ، وتلاشي أسسها الديموغرافية .

ولعل من الراجح إن الخلفيات البدوية / القبائلية لمعظم ساكني الأمكنة الريفية ، قد أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على ضعف خصوصية تلك الأمكنة وهلامية هويتها ، من منطلق أن المكونات الانثروبولوجية القاطنة في تلك الفضاءات المفتوحة والمقفرة ، هي بالأساس كيانات لم تبرح تنوء بحمل موروث بدوي / قبلي ضارب في القدم ، بحيث انه علّب تصوراتها عن البيئة ، ونمّط سلوكياتها حيال المكان ، وأطر علاقاتها بالمحيط . ولما كان الطابع الغالب على البيئة العراقية كونها بيئة عنيفة وقاسية (تكثر فيها الصحارى ويندر فيها المطر) ، فهي لا تجود بسلاسة ولا تمنح بطواعية لما يحتاجه ويطلبه منها إنسان تلك البيئات والأجواء ، إلا بعد أن يبذل جهود مضنية ويتحمل معاناة متواصلة غالبا”ما أفضت إلى صدامات وصراعات بسبب من تلك الحاجات والمطالب . وهو الأمر الذي دفعه إلى عدم الثبات في تلك الأمكنة والإشاحة عن فكرة الاستقرار في ربوعها ، بحث اضطره هذا الأمر إلى مزاولة التجوال المتواصل والبحث المستمر عن مناطق / أراضي يتوقع أنها ستؤمن له ولعائلته وقطعانه احتياجاتهم الضرورية من الماء والكلأ .

وعلى أساس ما تقدم فان ابن الريف – وحتى القروي – غالبا”ما لا يحفل بما للقرى والأرياف من خصوصيات جغرافية وهويات مكانية ، يستلزم التعرف على تضاريسها والانتماء إلى فضائها والاعتزاز بايكولوجيتها ، طالما انه يستبطن عنها ذكريات مؤلمة وتصورات عدوانية توارثتها الأجيال ، عبر القصص المعجونة بالألم والملاحم المطرزة بالمعاناة والسرديات المثخنة بالأحزان . فالأرض التي تفتقر إلى مصادر الحياة تبدو له بيئة عدائية لا تستحق منه الاهتمام أو الاعتبار ، كما لا تحضّه على اجتياف رموزها كمعطيات حميمة ينتمي إليها واستبطان معالمها كأماكن ذاكرة يحتفي بها .

وهكذا تبدأ المدن بفقدان عناصر شخصيتها وتلاشي مقومات هوياتها واضمحلال مكونات ذاكرتها ، بالقدر الذي تشهد فيه تحولات اجتماعية عميقة بصيغة صراعات سياسية أو دينية ، وانزياحات ديموغرافية واسعة بصيغة هجرات سكانية طوعية أو قسرية – كما هو الحال في العراق – حيث تشرع العلاقات المتريفة والذهنيات المتطيفة بالتسلل إلى حواضر المدن – عبر أسراب المهاجرين والمهجرين الباحثين عن مجرد أماكن مجهولة الملامح ، لا يهمها منها سوى كونها ملاذات آمنة وملاجئ محمية ، وان آخر ما تفكر فيه أو تهتم لأمره هو السؤال عن شخصية المكان أو طابع هويته – للتوطن في بيئاتها المتمدنة ، والتمكن من قيمها المتحضرة ، والتسلطن على أعرافها المتعقلة . ولذلك (( فالمدينة – كما تؤكد الفيلسوفة والعالمة في الأديان – ميريام ريفولت دالون – ليست ، إذن ، مجرد جماعة مكان . ينسلك الشأن السياسي العام في جماعة من المواطنين ، في الوجود المدني ، في الانتماء المشترك إلى (النحن) )) .

والطامة الكبرى إن الأمر لا يقتصر فقط على فقدان المدن لهويتها وخسرانها لشخصيتها وضياعها لذاكرتها فحسب ، وإنما سرعان ما يدب الخراب في مدماكها البنيوي ومعمارها القيمي وتكوينها الثقافي ، وتتحول من ثم من الطابع الحضاري / المدني إلى الطابع القبلي / الريفي ، الذي غالبا”ما يكون مرتعا”لفيروسات التطرف الديني ، وجراثيم العنف الاجتماعي ، وفوضى التخلف الثقافي . بعدما يلحق الاندثار بشروط صيرورتها كمدن حاضنة لمبادئ العقلنة في التصورات ومؤسسة لقيم المواطنة في العلاقات ، بحيث تسود الخرافات في مجال الأولى وتتسيد العصبيات في إطار الثانية ، ولا يعود هناك من عاصم يحول دون ارتكاب المحارم الإنسانية والآثام الأخلاقية . وعلى وقع تفشي النعرات الاقوامية ، واستشراء الحساسيات الطوائفية ، واستفحال المناكفات القبلية ، التي سبق لمكونات المدينة أن جاهدت طويلا”لمغادرة مستنقعاتها والتخلص من افرازتها النفسية والقيمية ، بعد أن قطعت أشواطا”واسعة في مضامير ؛ كبح جماح دوافعها البدائية ، والحدّ من غلواء نوازعها الأولية . من هنا تفقد تلك المبادئ والقيم مبرر وجودها كدريئة مانعة ورادعة ، إزاء وقوع حالات التعهر في السياسات ، والتحجر في الثقافات ، والتقهقر في الأخلاقيات ، والتبربر في السلوكيات . ولهذا فليس من العبث أن جعلت المدينة معقل الحداثة المؤنسنة ، وحصن العقلانية المتنورة ، وقلاع الجماعات المتحضرة ! .

وليس عليكم لمعرفة حجم الكوارث الناجمة عن تريف المدن وفقدانها لهويتها ، سوى الالتفات إلى مدينة مثل (بغداد) التي كانت من أوائل مدن العالم ؛ لا في مجال عمق تاريخها وعراقة حضارتها وغزارة علمها وجمال عمرانها فحسب ، بل وكذلك في إطار تمتعها بمقومات (شخصية إقليمية) مميزة وحيازتها على عناصر (هوية مكانية) فريدة . فعلى مدى عقود قليلة لا تقارن بقرون تاريخها أحالتها مخلوقات العالم السفلي ، من حاضرة مزدهرة يتبارز الشعراء في مدح جمالها والأدباء في تقريظ حضارتها والعلماء للتعبد في محرابها ، إلى مجرد أطلال وخرائب تفوح منها روائح الموت ، كأنها بيئة أشباح لم يطأ ثراها إنسان من قبل !! .