18 نوفمبر، 2024 6:20 ص
Search
Close this search box.

هوس التدين …

هوس التدين …

من غير المألوف ان ترى محاولات للتوصيل بين محتوى فكري او علمي تطبيقي يقع خارج اطار المفهوم للدين، والدين الحنيف حصرا، وبين بعض مقومات الدين نفسه او مؤشراته التي لها صلة بالفكر او العلم المعني من دون ان تشخص الحالة الفردية في الرؤية اولا، رؤية الدين بالمنظور العلمي او الفكري ثم بالمقابل رؤية العلم او الفكر بالمنظور الديني، والبرنامج الرصين في هذا السياق ان تكون الرؤية ثنائية او متبادلة على نحو ادق، اذ في هذا التبادل او التقابل تتضح حالات التطابق والتقاطع ومن ثم تحديد اسبابها اذ هي حالات موضوعية تغيب عن بال أحد الطرفين ازاء الطرف الاخر لتجنبه متابعة ما لدى الاخر عمليا، فقارئ القرآن الكريم يغتني حد الثراء باشارات النفس الا ان تحديد مدلول او معنى النفس في كل نص يقفز به الى الروح او الشخصية بل حتى الدم فتقول: (سالت نفسه اي سال دمه) وهكذا، وعندما يقرأ النص القرآني (ونفس وما سواها فالهمها فجورها وتقواها) ثم يتابع قد ( افلح من زكاها وقد خاب من دساها). فان الغالب الاعم من جمهورنا يجعل ذلك تحت تأثير عامل الارادة WILL FACTOR البشرية، اي ان مضمون النص القرآني يخضع لارادة (العبد الانسان) فقط وعلى نحو جمعي ودائم ايضاً، وفي غير استثناء او تحفظ، ولا ادري مقدار ابتعاد هذا الظن عن الواقع المتحقق انما هناك فارق كبير بين المحقق فعلا والمبتغى او المفترض، فهل في الملموس ان ترى شخصا يقول: (سأزكي نفسي) ثم تراه (يفلح في ذلك فعلا) او ان هناك من بقول (سأدس نفسي) ثم (يسقط في كامل الوباء حقا) .

في التفسير ان ثمة رغبة ونشأة وتربية وسعيا وخطأ وصوابا ونية في طريق التزكية او الانحطاط. هنا تتجلى الحاجة الى تفهم علم النفس، وعلم نفس الفرد وعلم نفس السلوك وعلم النفس المجتمع.. الخ لان الحصيلة النهائية التي لا يستطيع الانسان التحكم بها بمجرد ارادته و رغبته، لا يقولنا نحن بل بالنص القرآني: (الم تر الى الذين يزكون انفسهم بل الله يزكي من يشأ ولا يظلمون فتيلا) ثم: (فلا تزكوا انفسكم هو اعلم بمن اتقى).

اما الترجيح في السعي والنية الطيبة فنقرأ في قوله تعالى: (وان تزكى فانما يتزكى لنفسه والى الله المصير) و (قد افلح من تزكى)، ذلك يعني جوانبه المهمة ان ليس ثمة مطلق في زكاة النفس عن الخطأ والذنب وربما المعصية، و (الله غفور رحيم) ثم و (الله تواب رحيم) اما اذا لم يكن مطلقا هذا لتصور العصامي فهل هو نسبي بين (س) من الناس و (ص)؟ انه قد يكون كذلك ونضيف: انه متدرج او متعرج في حياة الشخص الواحد نفسه (ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه). ويبقى السؤال المهم هنا هو: لماذا وكيف ومتى ينحرف الانسان عن النجاح في تحقيق عصاميته دون عصمته؟ ثم لماذا وكيف ومتى توسوس نفس الانسان؟

في هذين السؤالين يكمن معظم انجازات علم النفس على مختلف مدارسه، ولا يلغي مطلقا التحدث بلغة اخرى مع القاء كل الاسباب على الشيطان الرجيم، وان كنا لا نتجاهل دوره ولكن لا نستطيع مواجهته ماديا وانما نستطيع معالجة النفس الانسانية في مواجهته فذلك اكثر نفعا وايسر تناولا. ومن الطريف ان علم النفس بوصفه تعبيراً عاما قد اخذ على نفسه ايضا استحداث علم نفس الاديان Psychology of Religion فهو يدرس النشأة والطبيعة السايكولوجية للاتجاه الديني او التجربة الدينية، والظاهرة المختلفة لدى الفرد، الناشئة عن مثل هذا الاتجاه والتجربة، او المصاحبة لهما. ويعترف علم النفس في الوقت نفسه بالغريزة الدينية Religious Instinct بوصفها نزوعا غريزيا افتراضيا لدى الانسان نحو الاعتقاد في العناصر والقوى الخارجية (الله سبحانه في الاديان السماوية). وتنمية علاقاته بها، وفي هذا السياق يشخص على النفس ظواهر مصاحبة للتدين من مثل هذا التدين مرض نفسي Religious Paranoia اذ يرى المريض منقذ البشرية او مبعوث العناية الالهية لهداية الناس، ثم الهوس الديني او هوس التدين، Religious Mania اذ يبدو في الانخراط المزهو المنتشي في الدين او الغضب له، ولا يخفي ما لهذا الهوس من خطورة رغم حالته غير الطبيعية، اما الاستسلام الديني R.Resignatio فقد وضعه عالم النفس (كاتل) بمعنى امتلاء الفرد بالدين بحيث يعتصر ارادته وينكر ذاته ويعيش بالاعتماد على القوى الغيبية في امور دنياه، وهي حالة اقرب الى اقصى درجات الزهد والتصوف مع ندرتها بهذا المستوى ثم تنحدر الى اقل فاقل.

هنا يبدو لنا ان مركز الاطمئنان والاستقرار في شخصية الانسان هو الامن والامان والايمان ، امنه النفسي وأمانه الجسمي والمادي ثم ايمانه الراسخ بالله سبحانه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر، وكلما اقترب من تنفيذ اوامر الله واجتناب نواهيه زاد (امنه وامانه وايمانه) ثم تعمقت عبوديته (لله) وزادت حريته في حياته وفي مجتمعه من دون تناقض بين او تضاد، وبالمقابل كلما زاد وعيه بالعلوم والمعارف اتسعت آفاقه السلوكية والفكرية وانبسطت وانشرحت حتى لكأن الايمان قائم على المعرفة باصول الدين واركانه ومقوماته من جهة، ما يقدمه له علم النفس وعلم الاجتماع والاداب وعلوم الحياة والفيزياء و…..الخ من جهة اخرى، اذ يفقد احد هذين العنصرين او النهجين ينكسر جناح الانسان وهو على الارض قبل ان يحلق الى علياء السماء!

*[email protected]

أحدث المقالات