23 ديسمبر، 2024 2:13 م

كنت ازور صغيراً اخوالي بيت صلال وابناءه يوسف ومهدي وحامد ، وكان سكنهم على مشارف الهور الممتد من أقصى تخوم المشخاب والمهناويه حتى غماس ويدعونه هور الشامية ، وكان الوصول الى مكانهم يقتضي ساعات طويلة نقطعها انا وجدتي ودليل مشياً بين البساتين وظلال السعف وسوابيط العنب وخضرة الرمان تتخللها خيوط من شمس تحترق مختفية بين الأعماق وشتلات الشلب واصوات (الطبّن ) وهو حمام جميل نادر يحرم الفلاحون صيده ، كانت الطرق على أكتاف البساتين تدور حول سواق متسعة تحيطها تلول متخلفة من تراكمات قيعان الأنهر الصغيرة المتوازية ، وتتخللها قناطر من جذوع النخل وأكياس الطين الجاف وقباب أولياء ضائعين موحشة ، برك وأكواخ . كانت سيقاننا تغوص عند مجيئنا صيفاً بأكوام التراب وبالغرين الحري الدافئ وقت الشتاء وصفير الريح الباردة ساعات هطول المطر ، بين آونة وأخرى تقطع الطريق حمحمة جواد وخيال شبحي لفارس بوجه ملثم أو أمرأة متلفعة بالسواد ، وصلنا لنتفاجأ بألوان زمردية وياقوت أكتمل صيفها بحرارة خانقة والضباب الفيروزي يسكن فجوات القصب وأكوام الحلفاء ، شوارعها مسالك بلا عربات وبيوتها المختبئة ليس لها أبواب والمدرسة الوحيدة تلاعبت في فنائها المهجور عدة دجاجات وبطوط وبقات غاضبة تدور بين أعواد (القصيل ) التي تشبه السكاكين لأكمال المنظرة وعلاماتها ،أتذكر ان الأنتقال في تلك الأعجوبة البيئية بين بيوت القصب المتقابلة والتنانير صوب الماء بواسطة المشاحيف الصغيرة والقفف المغلفة بالقير والزفت الأسود وهي تحمل رائحة (المطال ) المحروق ، والصبية والشباب يقضون الحوائج سباحة بين اسراب الجاموس المتناثرة التي تفترش الطحلب المائي وكتل القصب والأسماك التي تهز سكون الماء ورائحة الرطوبة لتتلقفها فالات الصيادين العابرين وقت الظهيرة او على الضوء المنسرب فوق السطح العائم في ليالي اكتمال القمر . كانت تعلو وجوه الجميع ابتسامات شاردة ، كأنهم يبتسمون من شدة الحنين ، يتواصلون مع بعضهم في المأكل والمشرب والزواج رغم ان بعضهم قد نسي ان العانة والقران قد ألغيتا من سوق الصرف العراقي ولايهمهم تراكم النقود أو معاملات الطابو ، لم ير أحدهم المصباح او السيارة والعرائس وحدها تحتفظ ببقايا قطع الصابون الحلبي المهيل لليلة الدخلة مع البخورات المعطرة وحبات الحرمل ، استمع بعضهم الى اصوات الراديو الترانزستر في مناطق أخرى بعيدة ، راكدين كهورهم ، يدركون العالم من حولهم ولايستطيع احد ان يراه ،أو أنهم حدود العالم ، يغمضون أعينهم على أحلامهم، حتى ظنوا أحلامهم تنبؤات ، ومسحت الأمطار ذكرياتهم فلم يعتادوا حساب الوقت والسنين،ولايمكنهم تحديد أعمارهم ، نظرات الجميع بائسة لكنهم يتمتعون بقدر كبير من الدهاء وأبناؤهم متساوون في الهزال ، نصف عراة لنهش البعوض وأسماك الزمير ،والفتيات يغطين شحوبهن بالكحل ونبات الديرم القرمزي ، يتسامرون قرب نيران الليل وأنوار القناديل وفوانيس الزيت ،تملأ الألغاز حكاياتهم وأرواحهم تهيم مع ألسنة اللهب والسكينة وخفايا الأسرار، تستمر مناسباتهم الحزينة لأعوام طويلة ويتذكرون أمواتهم كأنهم بينهم أحياء ، يعيشون بلا خطيئة كأقزام أفارقة وبلا فضول حتى لايشغلون حيزاً في الكون ، يخشون خنازير القصب والذئاب المعربدة في دهاليز الظلام والأرواح الشريرة ،وحيث لاغنى ولافقر بقيت تلك المواضع ونهاراتها الصافية جزءاً من تلك الأمكنة (الماركيزية )الغارقة التي توقف فيها الزمن والتي حسبت انها آخر مايتعرض للفناء في هذا العالم ثم استمرت ذكريات هائمة تساقطت رويداً في لجة هاوية سحيقة من هاويات العدم .