منذ صغري ، وأنا مهووس بالطيران ، لأني أعتبره انجازا وترويضا ناجحا للانسان على أحدى أكبر قوى الطبيعة ، الجاذبية .
الطيران ، يعني الحرية ، والمجازفة اللذيذة ، يعني تسخير الهواء للتحليق ، يعني انتصار ذكاء الأنسان ، وتحقيق حلمه في تقليد الطيور التي طالما كانت موضع حسد الأنسان القابع أبدا على الأرض ، رافعا رأسه متأملا السماء ، وما يجول بها من ذوات الاجنحة من الحشرات والطيور ، يعني أن يترك الأنسان التصاقه الأزلي بالأرض ، ويجرب تسلّق السماء ، أن يوسّع مدى عيناه الى المالانهاية ، ويكتشف تحدّب الأرض ، بعد أن عاش الاف السنين ، متوهّما انها مسطّحة ، لأنه لم يرها عن بُعد .
داعب حلم الطيران القدماء ، وكانت لهم محاولات للطيران لا أعتبرها ساذجة ، لأنها بمنتهى الشجاعة ولأنها الخطوة الأولى في الخروج على المألوف ، وكل حداثة تجد لها معارضين ، ولهذا أعتبرهم كالجنود المجهولين ، ويقال ان (عباس بن فرناس) ، قد ألصق بالشمع ريشا على ذراعيه ليطير ، ولكنها انتهت بمأساة ، فالمسكين لا يعلم ان (عظم القص) لدى الأنسان يجب ان يتحول الى (جؤجؤ) يمتد أمامه لمتر، ليحتوي العضلات القويةالمحرّكة لذراعيه لترفعه في الهواء ، كالطيور !.
والغريب اني وجدت تطابقا لهذه القصة في الميثولوجيا الأغريقية على يد (ايكاروس) ، الذي اراد الطيران بأستخدام ريش الطيور هو الأخر .
ومنذ ما يزيد عن 400 سنة ، كان ذلك الراهب الأيطالي الشاب الشجاع ، الذي ارتدى جناحين من جلود الحيوانات ، وقفز من أعلى كاتدرائية بأرتفاع يزيد عن 50 متر ، وتمكن من الطيران شراعيا مسافة 120 متر وسقط وكُسِرَت ساقاه ، لأنه لم يركب ذيلا للتوازن ، وأعاد حساباته وهو على عكّازين ! ، وها هي رسومات (دافنشي) لطائرات سبقت عصره بقرون ، حتى ظهر الأخوان (رايت) منذ 110 سنين ، وما بينهم المئات من المغامرين ، دفع الكثير منهم حياته ثمنا ، لتحقيق حلم الطيران ، فأي قوة غامضة جبارة ، تلك التي تجعل هؤلاء ، يحمل روحه على كفّه ؟! ، وللعلم فان (العراقيين) ، أفضل الطيارين في العالم ، فلديهم سرعة البديهية ورد الفعل ، وغريزة تلافي أكثر المواقف خطورة وأحراجا .
وحمدت الله ، لأني وجدتُ ظالتي في نادي (فرناس الجوي) في بغداد ، وقلنا ان الدنيا بخير رغم ما يمر به البلد ، وانتميت اليه كمصمم لنماذج الطائرات .
قد لا يعلم القارئ ، ان طيران النماذج (المزودة بمحرك احتراق داخلي) ، ولا أقول النماذج الكهربائية ، أصعب من السيطرة على طائرة حقيقية (على الأقل بمحرك واحد) ، والسبب ان النموذج الصغير الذي يصل باع أجنحته الى مترين ، خفيف الوزن ، وغير مستقر ، ويجب التحكم به بأستمرار لأي طارئ ، ثم عليك ان تعرف كيف تتحكم بالطائرة اذا كانت مُقبلة أو مُدبرة ، ولهذا نسمي طيار النماذج (كابتن) ، ولدينا في النادي عدد كبير من هؤلاء الطيارين من ذوي الخبرة العالية ، ومن المصنّعين الذين يجعلون من اللاشيء ، شيء ، هذه النماذج ليست العاب ، ولا يستخدمها شخص ما الا بعد أن يبلغ عمر معين ، وأجتاز دورة تدريبية ، ويعلم المبدأ العام للطيران ، ويعرف وظيفة كل قناة ، وكيف يسيطر على (أسطح التحكم)وأقسام ووظائف ومبدأ عمل المحرك ،ومن المستحيل ان تأتي بشخص ما دون تدريب ، وتعطه (الريموت) ، دون تحطم النموذج خلال ثوانوقبل الأقلاع .
قبل أيام ، عرضت قناة (العراقية) ، خبرا مفاده ، ان (أرهابيين) في الموصل ، يستخدمون (طائرات أطفال) لغرض التجسس !، وعرضوا 5 أو 6 نماذج من الطائرات ذات المحرك التي نستخدمها في نادينا !.
أولا ، هي ليست (طائرات أطفال) ، لو كانوا يعلمون ، و(الناس أعداء ما جهلوا) كما يقول الأمام (علي)عليه السلام ، ثانيا على ماذا يتجسسون (يرحم والديكم) ! ، على أي نوع من ألاسرار ، وقوات الأمن لدينا ليس لها جهد استخباري يُذكر؟ .
قبل عام ، ارتأيت ان أشتري شاحنة بطاريات (ليثيوم) من الصين لأنها لا تُشحن بالشاحنات التقليدية ، فالشركات الأوربية والامريكية لا تجيب على أي عرض طالما انه من (العراق) ، وبسبب صعوبة التحويل ، وضيق ذات اليد ، طلبت من أخي (المقيم في باريس) تحويل المال الى الشركة الصينية لشحن النموذج الى العراق .
ومرت الأيام ، وشهر ، ثم شهرين ، والشركة الصينية تدعي عدم وصول المال وهو 100 يورو فقط !، ثم قامت شركة (ويسترن يونيون) بابلاغ أخي (المرسل) ، أن وزارة الخزانة الأمريكية قد تحفظت على المال بسبب تشابه اسماء موضوعة في القائمة السوداء !.
على كل حال راحت الـ (100) يورو ، وقررت شراء نموذج طائرة كهربائي بتحويل مالي من العراق ، الا ان شركة DHL في تايوان رفضت شحن النموذج مبررة ذلك بأن وضعبلدنا حساس ، وعليّ استحصال موافقة من السفارة الصينية في بغداد !.
قبل حوالي العام ايضا ، تمكن أحد زملائنا في (السماوة) من بناء نموذج طائرة منزلقة (Glider) حقيقي باستخدام هيكل المنيوم ، ومحرك مولـد صيني أعتيادي نوع (Astra) ، وقام بنحت المروحة من الخشب ، وحلّق بها لفترة قصيرة ، ليجد قوات الأمن له بالمرصاد ، لأنه حلّق بلا ترخيص ، وكأن سماء البلد تعجّ بالطائرات الخاصة ، وبات ليلته في مركز الشرطة مع غرامة مليون دينار !.
في أحد (صولات) التفتيش لمنزلي من قبل الشرطة ، رأى أحدهم نماذج الطائرات والأجهزة الألكترونية وكان على وشك تحطيمها لولا جدال طويل ، وابرزت له هوية النادي ، ولكن لم يحالف الحظ زميلي المقيم في (الزعفرانية) ، فقاموا بتحطيم ومصادرة كل النماذج !.
عندما خدمتُ في (البحرية) في الثمانينيات ، حدثني بعض الأصدقاء من سكنة ناحية (العزير) التابعة للعمارة ، ان مهندسا من سكنة هذه المنطقة ، صنع نموذج حقيقي بمحركين للدراجات النارية ، ونجح في التحليق بها لمدة في العام 1973 ، وعند الهبوط ، قـُبضَ عليه ، وسُلّم الى ذويه جثة هامدة بعد ايام من أحتجازه ، بحجة انه حاول الفرار الى (ايران) !.
لدينا الكثير من المظليين الشجعان الذين يقيمون مهرجانات القفز بالمظلات ، كان أخرها مهرجان بحيرة الجادرية يوم الجمعة الفائت ، شيخهم الأستاذ (رياض بهاء الدين ) أو أبو حسين ، الذي يبلغ الخامسة والسبعين ولا يزال يقفز بمظلته ، نسميه (الطائر الأحمر) بسبب لون بدلة القفز المظلي خاصته ، أطال الله عمره ، فشكرا لقناة (العراقية الوثائقية) اذ خصصت معه لقاء رائع ، وشكرا لوزارة الدفاع أذ سخّرت طائرتي هليكوبتر لالقاء المظليين .
شكرا لمتنزه (الجادرية) اذ أفردوا لنا مدرج متواضع في الناحية الجنوبية من المتنزه ، وأن كان ليس معبّدا وعتبي على وزارة (العلوم والتكنولوجيا) التي بها قسم (علوم الفضاء) ، أذ لم تتصل بنا يوما ولم تستقطبهم أمكنياتنا ، فهذه (اسرائيل) وقد أصبحت أكبر منتج للطائرات المسيّرة في العالم الى درجة أن (أمريكا) تستفد من خبراتها ،فحروب المستقبل ، حروب الكترونية معلوماتية ، تعتمد على الرصد والتنصت ، والقتال عن بُعد ، فمتى يلتفت لنا أصحاب الشأن ، لنتمكن من ممارسة وتطوير هذه الرياضة الراقية والمكلفة والمفيدة ؟ رياضة قد تكفكف دمع البلد ، وتنسينا أحزاننا ولو الى حين ، ونقول : العراق لا يزال بخير ، رغم كل شيء.