23 ديسمبر، 2024 6:00 ص

هوامش على ثلاثية تراجيديا الوطن

هوامش على ثلاثية تراجيديا الوطن

حين تتوقف الدولة عن القيام بوظائفها الأساسية في حفظ الأمن الداخلي والخارجي وتوفير الحاجات الأساسية من غذاء ودواء وتعليم ومسكن وملبس ، وبشكل أكثر عمومية : في الادارة والخدمات . أيّ تتحول الى ظاهرة ما أطلق عليه في القانون الدولي والعلاقات الدولية ، الى ” دولة فاشلة” . فانّ السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة ، مالعمل..؟ . لا بالنسبة للدولة ونظامها العام الهش الذي فقد مع التوقف ميزة طرح الأسئلة والاجابة عليها ، مكتفيا ومشغولا ومستترا بدخان وضجيج المخزون الصوتي والغبار الاعلامي والأناشيد الوطنية المكررة عبر فصول وأحقاب الأنظمة ، كتابا وملحنين ومغنّين .. ولكن بالنسبة للمواطن ضحية ووقود هذا التوقف والفشل. وبالنسبة أيضا الى الدول الاقليمية المجاورة التي ترى في هذه الحالة ” فرصة ” ذهبية متاحة وفي نفس الوقت مصدر تهديد ومخاطر متوقعة ومحتملة . وبالنسبة للمجتمع الدولي ، دولا ومنظمات ، التي ترى فيها أيضا ” فرصة ” نادرة لادارة علاقات القوة والمصالح الجيو استراتيجية والجيو اقتصادية، ومصدرا لتهديد السلم والأمن الدوليين من ناحية أخرى .
     حيث يبدأ سؤال المواطن من حالة عدم اليقين وفقدان الأمل من الأوضاع المتردية بدمه المهدور والمباح بامتياز ، ليتلبسه القلق من المجهول وآلامه وحول المستقبل ومآلاته ، فيشرع بالبحث عن مظلات أمان عبر إنشاء الولاءات والانتماءات الفرعية أو إعادة إنتاجها وتشكيلها ، الطائفية والقبلية والمناطقية والعصبوية و…الخ، حتى لو كان بعضها وهميا أو مفارقا للعصر ومعاييره وقيمه ومفاهيمه ، ويشكل خطرا آنيا ومستقبليا على هويته الأصلية الرئيسة ووجوده ، المتشكلان موضوعيا وفق السياق التاريخي والجغرافي والاجتماعي والثقافي والحضاري.. ويقوم بعد ذلك بترسيخ هذه الولاءات والانتماءات الفرعية بالبحث عن مصادر دعم لها في السفارات والدوائر الاقليمية والدولية ، التي تكون عادة بحكم السياق العام مهيأة للاستقبال ، فتنفتح الحدود والثوابت والمحددات الطبيعية والاجتماعية والسياسية والقيمية لكل أنواع التدخل والتدويل والاختراق والانكشاف خارجيا، ولكلّ أنواع الوصولية والانتهازية والشخصنة والفساد والاستثمارات والارتباطات السرّية داخليا، فتتحول ظاهرة “الدولة الفاشلة” الى ظاهرة أصعب وأخطر : ” دولة التطييف” الى جزر ومحميات وإقطاعيات ومشيخات وإمارات ومقاولات وملل ونحل تابعة لهذا الطرف الاقليمي والدولي أو ذاك.
     ما يهيئ الظروف للدول الاقليمية المجاورة لتستثمر هذه “الفرصة” الذهبية وتحولها من مصالح الى مطامع معلنة وفق جدليات المجالات الحيوية ومصادر التهديد والمخاطر. فتبدأ ، تحت مقولات شرعية وضرورات التدخل لدرء مخاطر التوترات والنزاعات المجاورة لحدود الدول وأمنها الداخلي ، تبدأ بالتمدد وملئ الفراغات بكل الطرق المتاحة ، الناعمة والصلبة ، من حماية جماعات مشترك الطائفة والعرق ، الى محاولات تمزيق النسيج الوطني والاجتماعي والقيمي ، والى غطاءات المساعدات الانسانية والاستثمارية والمستشارين والمدربين في مواجهة الارهاب وحماية الأمن المشترك ، والى تنفيذ القتل المباشر والاغتيالات عبر العمليات الارهابية وفرق الموت ، ومن ثمّ الى الذروة عبر تحويل الدولة بظاهرتيها” الفشل والتطييف” الى منطلق لاعادة إنتاج الامبراطوريات البائدة من مقابر التاريخ.
     أما المجتمع الدولي الذي يكون قد جمع مواد هندسة بناء تصوراته وترتيباته الجديدة من حطام الأرض الخراب الذي سبق أن نشر فوضاه فيها ، فيبدأ صراع “حدود الدم” و” أقواس الأزمات ” على المصالح والقوة ، بين أطرافه الفاعلة كلّ حسب مجالاته ورؤاه الحيوية ، فيتحول الوطن والدولة الى مجرد نموذج وحقل تجريب  ومفردة في استراتيجات الصراع والتفاوض والتفاهم على الترتيبات الجديدة ، والأقليات الى مجرد أوراق للتوظيف ، والهويات والخصوصيات الى مشرحة للتشكيك والتفكيك والتجزئة والالغاء .. لا يهم عدد الذين يقضون جوعا أو موتا أو عوقا أو نزوحا أو لجوءا تحت وابل الحصار والاحتلال والابادة والارهاب ، فالدولة باتت مجرد هياكل رمزية بلا شعب ، والوطن مجرد فكرة بلا تجسيد ، والثروة بلا مالك ، والشعب والمجتمع تحولا الى جزر وجماعات أشغلت بأوهام وأساطير الطوائف والأعراق ، وبالتالي فالولاية والتركة للمجتمع الدولي ــــــ كما في القوانين الداخلية ـــــــ لمن لا وارث له.. وفي هذا الاطار يتمّ منح منظمة الأمم المتحدة بالوكالة هامش التكييف القانوني للوقائع ، حيث صار هذا الخراب الذي هندسته وأنتجته الدول الكبرى يشكّل خطرا على السلم والأمن الدوليين ، ما يفرض وفق لزوميات الفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية التدخل في الدول وتغيير هوياتها وأنظمتها ومجتمعاتها ومصائرها بالقوة والاحتلال والقسر والاكراه ، تحت غطاءات حقوق الانسان والاقليات والاثنيات ، والديمقراطية والمجتمع المدني ، والتمكين والتنمية المستدامة ، والسوق المفتوحة على الفقر المدقع للأغلبية والغنى الفاحش للأقلية والمجاعات والفساد والاستغلال والافلاس والأزمات المالية على قياسات صندوق النقد الدولي وغابته المتوحشة.
     وعلى هامش ثلاثية تراجيديا الوطن هذه : المواطن ، الدول الاقليمية المجاورة ، والمجتمع الدولي.. تتصاعد يوما بعد يوم جدران المنطقة الخضراء ، عزلة وغيابا ولامبالاة وأمية ومصالح وشخصنة وصراع على الأنصبة والمناصب ، ولا يدري ساكنوها ما يحصل خارجها وداخل الوطن ومن حوله والعالم من مشاريع وترتيبات وخرائط وصراعات محلّها وميدانها الوطن العربي عموما ، خصوصا دوله وأعمدته الرئيسة ومن بينها العراق .. ومع تصاعد الجدران والأسلاك الشائكة وسيول الدماء الزكية للمواطنين ، تتصاعد مشاعر الخيبة والاحباط والانكسار وعدم اليقين وفقدان الأمل والقلق على المستقبل ، وتعتمل مصادر الغضب والكراهية والقسوة ، ما يشي بنذر من العصف الشديد في الأفكار والخيارات وضرورات ” الشرعية الشعبية الثورية ” ، في ظلّ تعميم السلاح وخطاب الغرائز على الأفراد والجماعات ، والأفق المشرع الأبواب والحدود لكل الاحتمالات.
     فهلاّ تصغون قبل فوات الأوان…..؟؟؟