كان يدرس حافي القدمين وينظر إلى ماسحي الأحذية بعين مشفقة، قبل أن يثور على واقعه المر ويصبح رئيساً للجزائر وهو في عز الشباب ثائرا على الفقر والتخلف ومهنة مسح الأحذية التي رسخت في ذاكرة طفل لم يكن يمتلك حذاء يذهب به لطلب العلم، أنه الزعيم العربي الجزائري هواري بومدين واسمه الحقيقي “محمد إبراهيم بوخروبة”، ولد في أب من عام 1932، وهو أبن لفلاح بسيط يسكن ولاية جيجل “منطقة القبائل”، ورغم الظروف القاهرة حينها بسبب تكالب الفقر والجهل والجوع والأستعمار الفرنسي على الشعب الجزائري حينها، الا أن والد بو مدين قرر أن يعلمه كافة العلوم المتاحة ضمن المحيط،، وكان يتنقل حينها بو مدين بين مدينته وبين بعض مدن الشرق الجزائري لاكتساب العلم، فقد ختم القران الكريم، وبعد أن أتم الثامنة عشر من عمره، طلبته سلطات الاستعمار الفرنسي للقيام بالخدمة بالجيش الفرنسي ، مما دفع به إلى الهروب الى تونس حينها، فهو كان مؤمناً بقضيته، ولم يؤمن يوماً ما بأن يكون عبداً للأستعمار، ومن تونس أنتقل بعد حين إلى ليبيا ومنها إلى الأزهر بمصر، ليستكمل بعدها مراحل تعليمه وليتنور بكافة علوم الأزهر.
ومن ثم انطلق إلى العمل السياسي والعسكري ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر، الا أن تحررت الجزائر من الحكم الأستعماري الفرنسي عام1962،فقد دفع الشعب الجزائري مليون ونصف المليون شهيد على مدار 132عاماً من الأستعمار الفرنسي للوطن الجزائري، ونجح بعدها بشغل منصب رئيس الجمهورية بعد انقلاب عسكري على أحمد بن بلة 1965،وبعد الانقلاب وتقلد بومدين لرئاسة البلاد برز بومدين كرجل صلب فهو يعتبر من أبرز رجالات السياسة في الجزائر والوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وأحد رموز حركة عدم الإنحياز، فهو لعب دوراً هاما على الساحة الإفريقية والعربية، وكان أول رئيس من العالم الثالث تحدث في الأمم المتحدة عن نظام دولي جديد، وله انجازات كبرى بالداخل الجزائري، فهو طور المنظومة الصناعية الجزائرية، كما دعم قطاع الزراعة بشكل واسع، ووسع ميادين الثقافة والعلم،كما أسس لنظام أجتماعي – سياسي متميز بالداخل الجزائري.
*قضايا التحرر العربي كانت دائماً هي بوصلة الزعيم بومدين :
يقول :هنا بو مدين في لقاء إعلامي رداً على بعض من أنتقد دور الجزائر في” حرب أكتوبر” اعتقد بتواضع أن الجزائر بحركتها وبالدور الذي قامت به وفاءً لواجبها ومسؤوليتها القومية خلال حرب أكتوبر قد أكدت أن بُعد المسافة بين موقعنا الجغرافي وبين ميدان المعركة ليس عائقاً لنا أو لغيرنا للتواجد الفعال والمؤثر خاصةً عندما نكون بصدد معركة قومية ضد الامبريالية والصهيونية،وبهذه الممارسة المسؤولة خطَّأنا تلك النظريات التي كانت تقول أننا نقاتل الاستعمار الصهيوني والاحتلال الإسرائيلي ونحن محتمون في موقعنا الجغرافي الذي يفصلنا أربعة آلاف كيلومتر عن معمعة القتال، وهنا فقط أُريد أن أُسجل أننا لم نكن نزايد، ولم نكن نلقي الكلام على عواهنه،وأننا كنا ولا زلنا نقصد كل موقف نتخذه أو رأي ننادي به بإخلاص قومي وبناء على حسابات موضوعية ،وبالنسبة لنا، وداخل ما أصبح يُعرَفُ عالميا باسم “أزمة الشرق الأوسط”، فان القضية الفلسطينية هي القضية الأم، كانت دائما هكذا وستظل على هذا المستوى حتى تتحقق كاملة لماذا ؟ لأن قضية سيناء حتما سَتُحَل، ولأن قضية الجولان حتما سَتُحَل، فالصراع العربي الإسرائيلي جوهره فلسطين أو لا فلسطين.
*الزعيم بومدين لطالما سعى لتوحيد المواقف العربية أتجاه فلسطين :
في رده على بعض الخلافات العربية في مطلع السبعينات حول مستقبل الصراع العربي –الصهيوني ،وحول تطورات القضية الفلسطينية يقول هنا بومدين ” نختار بلا تردد، وبدون تحفظ الثورة الفلسطينية ، والحقيقة الموضوعية التي أود تسليط الضوء عليها، هو أن القضية الفلسطينية بطبيعتها أحد شيئين، إما الإسمنت وإما القنبلة، بين الدول العربية،فهناك قاسم مشترك بين الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية، وهناك فارق جوهري،الفارق يتجسد على الأرض، ظروف الثورة الفلسطينية أقسى وأصعب، ليس فقط بسبب أن غالبية جسم الثورة خارج الأرض؛ بل إن رقعة المساحة المُحتَلة نفسها هي في موقع جغرافي تتمكن منه قبضة المحتل بسهولة، فضلا عن أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني قد ضاهى أو تجاوز في عدده الشعب الأصيل، والقاسم المشترك هو أن الشعب الفلسطيني وجد طريقه إلى الكفاح المسلح المباشر، وسار عليه بثبات ودفع ثمن الدم، والدم في النهاية يفرض نفسه وقيمته وثورته على العدو، وعلى العالم كله وهذا ما هو كائن بالفعل اليوم.
*موقف لن ينساه التاريخ بين الزعيم جمال عبد الناصر والزعيم هوارى بومدين:
في 5 حزيران 1967 ، اتصل الزعيم عبد الناصر بالزعيم هواري بومدين هاتفيا قائلا : ” لم يبقَ عندي طائرة واحدة سليمة ، أتمنى أن تُرسل لي بعض الطائرات ” فأجابه بومدين : ” كلُ ما تملكه الجزائر 47 طائرةَ حربية ، أرسل طيارين مصريين لاستلامها لأن الطيارين الجزائريين في بداية تدريباتهم ” و في الغد طلب السفير الأمريكي بالجزائر مُقابلة الزعيم بومدين لتبليغه رسالة من الرئيس الأمريكي ، فاستقبله بومدين ، فقال السفير الأمريكي : ” كلّفني الرئيس الأمريكي ” ليندون بينز جونسون “أن أنقل إليكم بأن حكومته لا تنظُر بعين الارتياح إلى إرسال الجزائر لطائرات حربية لعبد الناصر ” فأجابه بومدين : ” أوَّلاَ انتهى ذاك الزمن الذي كانت فيه أمريكا تأمر و البلدان تُطيع ، ثانياً انتهى وقتُ المقابلة”.
*وفاة الزعيم بومدين :
رحل هواري بومدين في صباح الأربعاء 27كانون أول من عام 1978،لعارض مرضي مازال يحير الأطباء ،ففي الساعة الثالثة وثلاثين دقيقة فجراً، وحين دقت ساعة توديع الزعيم، ظهر أصغر وزير خارجية في تاريخ الجزائر، عبد العزيز بوتفليقة، في الواجهة وهو يلقي الكلمة التأبينية التي كانت اخر ما تلي على بومدين قبل أن يصبح تحت التراب في عالمه البرزخي ،فقد رحل صاحب مقولة ” هل الأمة العربية مستعدة لبذل الثمن الغالي الذي تتطلبه الحرية؟ وأن اليوم الذي يقبل فيه العرب دفع هذا الثمن لهو اليوم الذي تتحرر فيه فلسطين ” رحل من كان يردد دائماً ” الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة ” وهو من قال ” إن تاريخ الشعوب ليس إلا سلسلة من المعارك المتنوعة تخرج ظافرة من معركة لتدخل مزودة بسلاح جديد إلى معركة جديدة، فإذا كنا قد خرجنا من معركة الاستقلال فإن ذلك إلا سلاحاً لابد منه لخوض معركة أخرى هي معركة النهضة والرقي والحياة” ، رحل بومدين تاركاً خلفه تاريخاً لرجل مناضل مؤمن بعروبته وبوطنه ،فـ سلاماً عليك أيها الزعيم ،الذي لن تموت ذكراه وتاريخه ونضاله في ضمائر وعقول شرفاء الأمة .