هاهي الروائية دنى غالي في روايتها الثالثة (منازل الوحشة) المكوّنة من ثلاث فصول بتوقيت الروزنامة العراقية : 2006/ 2007 / 2008 والفصل الرابع يعنّون بالتسمية (سلوان من ص157 الى 178 فقط بقية الفصل يشتغل على صيف وخريف ونهاية 2008).. لكن السنوات متحركة سرديا .. (تأزم وضع سلوان النفسي تحديدا بعد 2003/ ص10)..(عندما ودعت سلوان في صيف 1991مع ابيه وكانا ذاهبين الى عمان../24) وسعادات سبعينات القرن العشرين تومض في ذاكرة سونيا وأسعد وحسام..
ستتوقف قراءتي عند ثلاث محاولات لتخليص الهواء العراقي من الحبس :
*تأثيل تسمويات متحركة
*مايتأرج من عطر او رائحة
*اليد كائن نصي..
(*)
ثمة عالم ينبجس من خبرات سوانا نشعره ُ بيتنا ومنه نشتق شجرة اسماء ونتفيأها ، وحتى نكتمل بأسمائنا الجديدة نتقمصها مرتين الاولى بالاسم والثانية بالزي كما فعل سلوان المهووس بالموسيقى والقراءة حين ارتدى ملابس جده ليتقمصه فإذا به..(بات بنحوله وبعد ان شذّب لحيته وسمح لي بتقصير شعره قليلاً يشبه كاتبا روسيا /124) ولايكتفي..فهو بعد كل كتاب يسكنه يطلق على والديه أسمين جديدين ..( كنت ُ منيرة، أوفيليا قبلها ، أنا الآن سونيا، وأظنك مازلت َ مدحت حتى اللحظة…/127) ..مدحت : من شخوص رواية فؤاد التكرلي (الرجع البعيد)..ثم يتساءل سلوان المتماهي في يوتوبيا هي مزيج من الفنون الخلاقة (لماذا أختار دوستويفسكي الإسم هذا، عشرات بل آلاف الأسماء ومن بينها سونيا !../165) وسلوان في حيرة ماذا يسمي جدته .يحاول ان يطابق بين شخصيتها وشخصية كائن نصي، لكن الجدة اقرب الى نسق المتعدد في الواحد..(إنها خليط غريب من ثقافة عربية وتركية وبريطانية وروسية ./176)أليس من هذا الخليط المتعايش سلميا أنتصب برج بابل المعرفي والجدة بدورها صيّرت بيتها نزلاً لتتمكن من إعالة نفسها (أقام فيه المهندس الكردي والمرأة التركمانية الثكلى والهاربة المتخفية من الناصرية والعائلة القادمة من أطراف المدينة..) وكل غرفة تقطن فيها اسرارها ،فهل يطلق سلوان على جدته (اسرار)… خرزات تسمية التسمية ملضومة بخيط حرف السين : حسام /اسعد/ سلوان / سونيا/ أسل /..؟ لكن الاسم لايوائمها كما يرى سلوان.. فالموسيقي في سلوان يرى تضاد موسيقيا في اتصالية التسمية (ولكنه مجرد اسم رنين وخفة لايتناسبان معها/ 176)..ثم يبحث عن اسم يليق بفاعلية جدته ، يريد اشتقاقه من مادة مثنوية الصفة (أسمها يجب أن يشير الى مادة صلدة وطيعة بالوقت نفسه وهي التي جاءت إلي من البصرة مخاطرة غير آبهة في
اقتحامها لساحة معركة ،،ذهب ،، لِم َ لا؟ لها سن ٌّ مطلي بالذهب ) وسيعترض سلوان على التسمية ..(…ولكنه معدن جامد ليس بحاجة للكثير كي يفرض نفسه ثقتها ليست متأتية من الذهب بل من أبيها حاولت ان تقول لي ذلك../ 176) ..
(*)
لاتطوي المنشفة إلاّ حين تكون ناشفة وحين تطوى أكثر من طية، فمن أجل تغفو في مكان خاص بها ، منتظرة يدٌ تستعملها ..أما الإنسان ..فالطيات ستجعله غير صالحة للأستعمال أكثر من مرة واحدة ياللخيبة كأن الإنسان ينتسب للمناديل الورقية..لكن جدة سلوان تستعمل المنشفة للتشبية وبشجاعة عراقية ترفض البقاء في البيت فتغادره للتبضع ..(الحياة مثل ثنيك للمنشفة التي بين يديك ..طوية طويتان ثلاث وينتهي الأمر…/135) وستظهر الثنية بشكلها الواقعي مع غياب اليد ، وحضورها فعلها الثنية / مقاسة المسافة / النظام : كتوقيع لليد..ثمة خزانة مبنية في جدار (كانت مقسّمة الى رفوف خشبية عريضة توزعت فيها البياضات /180)
*يد ٌ قاست المسافات بين كدسة وأخرى
*يدٌ ضبطت طويات القطع المكوية المنشاة
*يد ُ كانت تشير الى نظام صارم دقيق كان متبعا في هذا البيت أبهرني
*الثنيات كما هي ولاأظنها قد سحبت ْ قطعة واحدة للأستخدام ..
(*)
أحيانا يصل الينا فعل اليد دون ذكر بالأسم..كما فعلت ام سلوان..(أنزع المتسلقات التي وجدتها قد نَمَت في غفلة عني، صعدت ْ وتهدلت وتفرعت . أنزع وأقطع بكل قوتي الاغصان التي حوطت أطر اللوحات وتشبثت بسكك الستائر والتفّت بأصرار على المسامير خلف اللوحات .ليس هناك من يوقفني…/35) ولليد سردياتها الوطنية..(لوكان للنوافذ لسان ٌ لروت قصصا عن هذا البلد .تُغلق ، تفتح، تُطّين ، تُسرق ، تردم …/ 38) وبين الوطن والبيت هناك السرد المنقوص : يد أسعد (لاشيء يكتمل بين يديه../38) فهو يكتب ويرسم وينجر ويستلم رسالة تهديد ضده ..
(*)
في لحظة أضيق من خرم الابرة ،لاتحتاج ام سلون لشيء وهي مسحوبة بتفكيرها الى اقصى مكان في رأسها سوى…(أن أشعر بقوة يدين تستقران على كتفي لأن جسدي ببساطة مهدود../14) وسيعتذر سلوان بيديه ثم بشفتيه لأمه..(تقدم ووضع يده على كتفي فأنتفضتُ .مال وقبلني على خدي…/ 110)
(*)
دكتور حسام أيضا تشغله اليد وحسب أم سلوان..(أضحكني تعليقه بشأن يديّ سلوان وأصابعه التي تشبه أصابعي التي كانت خشونتها تحرجني . أحببت ُ كذلك انتباهته الى طريقة احتضان سلوان للكتاب
.قلت له ان عنايته فائقة لما بين يديه وإن كان في تقليبه لصفحات كتاب…/87)..وحين يتذكران وجودهما في المدرسة الروسية في بغداد وهما يتلقيان العزف على البيانو تكون اليد شاهدة :
(انطلقت ضحكاتنا للمفاجأة عاليا وأنا أنظر الى يديه .رفعهما في الحال لأتفحصهما جيدا وهو يبتسم ،وأخفيت أنا يدي خلف ظهري خجلا…/108) وبعد ساعات وهو يتفحص وجهها بخليط من عينيّ طبيب ورجل..(يرفع بيده خصلة شعري المحبوسة خلف أذني ويحررها لتنزل على خدي…/ 109)
يدٌ تقوم بالموجب والسالب معاً : يد (أسل ) التي انقذت سلوان ثم نفضت يدها ..(أنها هي التي مَن مدت يدها إليه وأنتشلته، هي التي أعادته الى العالم .لكنها هي التي تخلصت منه أيضا. يظن أنها حدست مايدور في رأسه فكانت أسرع منه بتسديد اللكمة. طريقتها في حزم حقيبتها ومغادرتها جعلته يظن أنها كانت قد خططت لذلك مسبقا…/ 192)…وهناك أكثر من يد تتصدى بطريقة بدائية صادقة في طرد الارواح الشريرة..(كنا أخترعنا طريقة هو وأنا لنتخلص مما يلّم به من خوف ، نكتب الكلمات القبيحة ونطويها ثم نرميها في القمامة أو نجمعها لحين إشعال التنور…/ 195)..ولليد غضبتها..كما ستفعل ام سلوان حين تستفزها امها..(ضربت ُ الطاولة بيدي أمامها…./ 199)
(*)
يد الجدة لها وظائفها (عملت لفترة خبازة في سنوات الحصار /76) وحين طلبها زوجها لبيت الطاعة ، أرتدت ( زيها العشائري دخلت بيته تحمل تحمل ملف القضية بيد وتقبض على مطرقة كبيرة باليد الأخرى . حطّمت الأثاث بيدها وكسرت الصحون ،…/ 77) ولأم أحمد حضور مزدوجة من خلال يديها..وبشهادة أم سلوان..(هي التي سمّرت بيديها القويتين كتفيّ الى السرير…/18)وبعد سنوات من غياب أم أحمد، تقف ام سلون وتخاطب تخت ام أحمد بكل بوفاء الكفين ..(أمسّد بيدي مكانا ظل يدعمني …/ 18) واليد نفسها ستعتصم بالموبايل بأنتظار ما يطمئنها..(انقضى اسبوع كامل من دون خبر من سلوان، لم تأت ِ محاولاتي بنتيجة والموبايل في يدي بأنتظار اتصاله…/ 185)
(*)
في وطن ٍ ملتهب ٍ كالعراق ،لايبقى أمام المواطن سوى الانتباذ ، أعني بذلك المواطن غير المؤدلج لكن الانتباذ بحد ذاته عرضة للأختراق ..(كانت الاحداث تمضي سريعا من دون أن نستطيع أن نتفادها أو نعكس اتجاهاتها ،حاولنا كثيرا وأقصى ما حققناه،هوأن نعزل أنفسنا..العزلة هي ما يمكننا القيام به، هي عجزنا في تفادي مايمكن أن نتورط فيه بلا خيار ../11)..وفي وطن ٍ كالعراق حتى تعاطفك مع طرف سياسي يجعلك محسوباً عليه ،فحراس النظام يرون في التعاطف انعطافا خطيرا..(أبتعد أسعد وأنزوى هو الآخر ولكنه لم ينج . كان قريباً من الشيوعيين لفترة قصيرة من شبابه جعلته موصوما .لم يستطع ابعاد الشبهة عنه بوصفه شيوعيا ولم يكن ذلك بغريب ، تبقى هذه الشبهة مثل لعنة تلاحق المرء حتى القبر ..)..هذا التصنيف السياسي صار قوة انتباذية ..(لم يكن من سبيل أمامه غير الانزواء، انزواء تجسد في حياتنا معاً بالصمت المطبق ودوامة التفكير المستمر والتيه في دواخلنا…) ثم انسحب
الأمر الى عمق آصرتي : الأبوة / البنونة بين أسعد وسلوان…(تأزم وضع سلوان النفسي تحديدا بعد عام 2003 وساءت صحته ، الأمرالذي أفزع أباه وجعله يتخبط بالتعامل معه . فَقَد َ وسائل توصله معه دفعة واحدة . وكأن ماحصل في البلد لم يكن كافيا. لكن منهما انطواؤه، وأنا الحارسة تتنقل عيناي بينهما، أزداد مع الوقت غربة ً عن بعضهما ليضيفا إلي همّا جديدا . رحت أتوسع بحركة هلامية
لأحتوي أزمة الأثنين في البيت…/10)وأستنفذت الكلمات شحنتها المضيئة وحسب الزوجة..(حتى الحيطان بدت كأنها تصرخ لتحتمي بنا .ليس لنا مَن يسندنا.نحن عزّل بالفعل ./51)..فهذه العائلة لاتمتلك شروط الاستقواء المسّلح
(*)
الأشياء في تضادات واخزة ، والحداثة خلفية صورة التقطت في عصر حجري…(لايمكن تحديد العصر الذي نعيش فيه . الغسالة موجودة ولاماء ولاكهرباء كافيان لتشغيلها .دخل علينا عالم الانترنت بينما ماء الشرب معدوم، دخول المستشفى مخيف …/ 34)..وهناك من يتصدى بوسائله لما يجري كما يفعل دكتور حسام حيث ..(رائحة عيادته التي تفوح بالعطر الذي يستخدمه ../11)..أما (أم أحمد) فحضورها يعلن عن نفسه بخليط من رائحة ومراهم.. صار هذا الخيط يواصل اشعاعه حتى بعد وفاتها كأن الناظر يستفز الخليط..(ما إن يقع نظري على فراش التخت حتى تقتحم رائحتها أنفي مخلوطة برائحة مراهم عظامها النفّاذة، تشعرني بشيء ماقد توغل عميقا فيّ…./19)..
وهناك خليط آخر مصدره أسعد وأحتفائياته النادرة ..(كنت أنتشي برائحة القِد َم المنبعثة من فمه بين الحين والحين ،كالتالي تنبعث من خشب قطعة الأثاث التي جعلناها بارا صغيرا …/ 59-60)..وثمة تداعي ينبجس في ذاكرة أم سلوان يختلط الصوت بالرائحة. واليد.وظلام الكهرباء وصوت أمها والمرئي باللامرئي ..(صوتها في الصالون وهي تدندن يعيدني الى زمان لااستطيع أن أحدده ،زمان من سراب حُفِرَت سماته في رأسي فيما كانت رائحتها تتخلل أنفي وتعيدني الى الأيام الخوالي ، رائحة ملابسها ،صورة غائمة بعيدة لمشطها الخشبي المنقوع بالزيت ظهرها وهي تجلس أمام مرآة صغيرة على تخت منخفض . كانت هناك أشكال ذات قوام تسبح في الفضاء أمامي ، تنير في الظلمة وكأنها من الفسفور أوشك أن أنادي عليها وهي تدور من حولي، تتحرك يدي ترتفع لتمسك بها لكنها تتحول الى أشباح …/139)
(*)
ما ان تدخل ام سلوان يستقبلها عطرٌ نفاذ رخيص .. المتعطرة بهذا العطر هي التي اعادت للبيت نسمات من الحيوية أعادتها بيديها وهي تكنس فأزاحت كتلة من الوحشة عن المنزل. يد كنست ويد الجدة سلمتها اجرها ، يد الجدة منحت عين ابنتها درسا حيويا(ها أنا أنتبه الى شيء بفضلها…/103) ومن مكانها وهي ممددة على تخت أم أحمد،يتناهى الى سمعها هناك من يقرع الباب وقبل ان تتفوه الجارة الداخلة، تتعرف اليها لا من صوتها بل ما من..( .رائحة ملابس الجارة تصل أنفي ../186) وتكون الرائحة جسرا بين البيت والشارع حين تحدثنا ام سلوان عن زوجها أسعد (تعابير وجهه وهو يتحدث معي، رائحته وهو يعبرني في المطبخ مع رائحة حبر الجرائد التي راح يدخلها الى البيت ،كلها
راحت تشير الى خارج معتم ../ 21)..وحين يسافر أسعد الى الأردن وتأتي أمها لتحتل مكانها ،ماتقوم به الزوجة على واقعيته ، يحتمل الإستعارة..(أحترت ُ أين ألقي بجسدي المهدود لأغفو فدخلت ُ غرفته
لأتشمّم رائحته…/72)
(*)
أصابع كفي سونيا تفتح الرزمة الاولى من اوراق تعود لزوجها وهو الآن في الاردن وتحديدا من النص المعنوّن (أختطاف) تدخل أحدى الجارة وهي ترفع جسدها كله في كفها بصيغة طبق حلو وفاء لنذر قديم وكف الرجل حسب شهادته (تقدح أطراف يدي وتلتهب وهي تغوص للحظة في لحم ثدييها اللدن…/ 204) هي تكتفي بأصبع من كفها..(تمرر أصبعها على شفتيّ لأذوق سكّر طبقها) هو بدوره سيحاكيها : من كفه سيكتفي بأصبع واحد..(الشهوة تأكل جسدها وجسدي، تموء وتفوح من رائحة لذّتها وتنهداتها تصل أذنيّ، سمفونية تقود أصبعي بحركاتها الحادة الى مكمن لوعتها../205)…اليد التي مسكت الاوراق ،وضعتها جانبا..وتوجهت لتخمد نارها بنار سائلة واليد ذاتها لاتدري (لَم َ أخترت ُ كأس الويسكي الكريستال المفضلة لدى ابي…/206) لكن الكف المرتعشة ..(لم تعد تهدأ رجفتها من دون مشروب أو حبة منوم…/207) وقبل كل هذه الأيادي يد المؤلفة : تكتب وتشطب وتعيد الكتابة
وتعيد المشطوب وتحذف وتثبّت وصولا الى كتلة النص الصالحة للنشر
*دنى غالي/ منازل الوحشة/ دار التنوير/ بيروت / ط1/ 2013
*اختصرتُ الكلام عن العطر والرئحة درءاً للأستطالة
*صفحات العطر: 11/ 12/36/ 101/ 113/ 161
*الرائحة :17/18/ 21/ 30/ 36/ 43/ 55/ 59/ 65/ 66/ 72/ 82/ 133/ 161/ 166/ 179/ 182/ 204